المبحث الثاني: مداخل لفهم (ماهية) الغرب
ونحن إذ نريد تحديد (ماهية الغرب) قبل الحديث عن جوهر هذا البحث وهو (مسألة الاستغراب)، فلأن خطوة وأولوية عملية (الفهم) للغرب تتمثل في أنها دائما الخطوة السابقة للتعامل معه على جميع المستويات، الأمر الذي يعني أن تلك العملية يجب أن تكون على مستوى متقدم من الشمول والعلمية والمنهجية إذا أردنا أن يكون ذلك التعامل صحيا وإيجابيا مستمرا [1] .
وإذا كنا نحن مهديين بهدي الرسالة إلى عدم جواز السكون في حركة البلاغ الرسالي، فذلك معناه أن نسعى أبدا للآخرين نحاورهم ونجادلهم وندخل في عقولهم ونتفهم أولا بعض ما فيها ونطرد منها البعض ونهدي لهم بعضا من قيمنا ومبادئنا ومعانينا الرسالية. وإن هذا المنهج يوجب علينا اعتبار العقل الإنساني أساسا في منطقتـه التي تمكنه من تجديد مفرداته وكسبـه. أما تلك المساحة التي فوق تصور العقل، أي الغيب، فإننا مهديون أيضا للانطلاق من خلال عقولنا نحوها لنكتشف وجودها حتى وإن عجزت عقولنا عن إدراك وتلمس تفاصيلها. ذلك أن مسألة الإيمان بالغيب يكفي أن يقول لنا فكرنا: إن الغيب يمثل إمكاناتنا المحدودة؛ لأننا لا نستطيع أن نعيش شمول الحس الطبيعي بالموجودات [2] . [ ص: 90 ]
إن حوارنا مع (الآخر) يتطلب التعارف معه ثم معرفته، ولا تتسنى معرفته الحقيقية إلا بقراءته قراءة متأنية تسبر أغوار فكره وفلسفته التي يصدر عنها في نظرته للحياة والكون والإنسان، ووسيلتنا في ذلك اللغة، اللغة بمعناها الحضاري الواسع، لغة الدين، ولغة العلم، ولغة الفكر، ولغة الفلسفة، و«من تعلم لغة قوم أمن مكرهم».
إذن، ما هو، ومن هو هذا الآخر/(الغرب) الذي نريد قراءته قراءة منصفة تحقق شرطا مهما من شروط الاستئناف الحضاري الإسلامي المعاصر؟؟
ونؤكد – لمزيد من التوضيح- أن (الغرب) ليس هو طبقة السياسيين المحترفين ذات التأثير المباشر والظاهر، وليس هو طبقة رجال المال والأعمال ذات التأثير الكامن والمستتر، وليس هو طبقة الإعلاميين من أهل الصحافة والتلفاز، وليس هو طبقة الفنانين على اختلاف مهنهم وتخصصاتهم، وليس هو طبقة الأكاديميين الضخمة المنتشرة في آلاف المدارس والجامعات والمراكز العلمية، وليس هو طبقة الجماعات العديدة من دعاة حقوق الإنسان والحيوان والحفاظ على الطبيعة، وليس هو طبقة مراكز الضغط السياسي المتنوعة، وليس هو النقابات الضخمة، وليس هو الجماعات النسوية.
وعلى صعيد آخر، ليس (الغرب) هو الأمريكيين البيض من الأصول الأوروبية، ولا السود من الأصول الأفريقية ولا الصينيين والكوريين واليابانيين من الأصول الأسيوية، ولا الهنود الحمر من سكان البلاد الأصليين، والعرب أو الأتراك أو الإيرانيين... وكذلك فإن (الغرب) ليس البروتيستـانت ولا الكاثوليك ولا الأرثوذوكس ولا اليهود ولا البوذيين [ ص: 91 ]
ولا المسلمين ولا الهندوس ولا السيخ ولا عبدة الشيطان ولا الملاحدة من كل نوع وجنس ولون... وأخيرا (الغرب) ليس هو الحفنة من أصحاب المليارات ولا الملايين من الأغنياء ولا عشرات الملايين من أبناء الطبقة الوسطى، ولا الملايين من الذين يعيشون على الكفاف ولا الملايين من الفقراء، ولا المئات ولا الآلاف من المذقعين المعدمين الذين في الشوارع والمجاري والحدائق والعامة...
وإنما (الغرب) هو ذلك الواقع العجيب والهائل والمتشابك، الذي ينتج عن تفاعل حركة ونشاط كل هذه الشرائح وغيرها، وهو واقع معقد ومتداخل إلى أبعد الدرجات. بل ربما كان دقيقا أكثر القول: إن كل شريحة من الشرائح السابقة تحتوي طيفا واسعا من درجات الخصوصية والتنوع والانتماء [3] .
إذن، ففي حديثنا عن الظاهرة الغربية لابد من التمييز المنهجي بين الغرب السياسي، وهو الوجه الظاهر للحضارة الغربية و(الآخر) الفكري، الذي يشكل قاعدتها ومنطلقاتها وتوجهاتها.
والفصل بين هذه الجانبين والتفريق بينهما بدقـة وموضـوعية لابد منه لتحـديد طريق التعامـل الفعال مع الغرب بما يتناسب وطبيعة الموضوع ومستـلزمات كل واحد منهما وخوضه بدقة وحيطة وحذر... إذ إن حضارة الغرب لا تقتصر على الوجه السياسي، ففي الجبهة المقابلة للسياسة نظام فكر لابد من معرفته أيضا، واكتشاف أسلوب التعامل معه [ ص: 92 ] ودحضه. وفي هذا المضمار تجدنا نقف في مواجهة ندنا الفلسفي والفكري والأخلاقي، وليس مناهضنا السياسي، وفي هذا الميدان نحن بحاجة إلى وسيلة مناسبة أخرى تتمثـل في المنطـق، وليس في الحراب والرايات، فالحراب والرايات لا تجدي نفعا ليس في هذا المجال فحسب، بل وفي أي مضمار آخر نخوض فيه معترك الصراع مع الفكر والفلسفة التي لا نؤمن بصحتها، إذ إنها تنتهي بنا إلى عكس ما نبتغي تماما [4] .
ولأن أي مدخل يشكل زاوية رؤية معينة، ولأنه أولى الخطوات على درب الإطلالة على (عالم الغرب) كان لابد من دقة اختيـار أي مدخـل لما سيترتب على ذلك من نتائج. وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى مجموعة من المداخل، التي اقترحها البعض لقراءة وفهم (الظاهرة الغربية) منها:
1- الانطباعات التي تتكون من الأفلام والمسلسلات والبرامج الإعلامية المتنوعة ويغلب عليها السطحية والاجتزاء والمبالغة في كثير من الأمور.
2- التعليقات والتحليلات (الرسمية) التي تصدر عن الحكومات والدول فيما يخص النظرة إلى (الغرب) والموقف منه، وتغلب عليها الدعاية السياسية الهادفة إلى إقناع الجماهير بالموقف الرسمي، سواء في التعاون والتعايش أو في اتجاه العداوة والخصومة.
3- ردود الفعل النفسية والفكرية والشعبية على السياسات والقرارات، التي تصدر من (الغرب)، والتي تخص المنطقة (الإسلامية) وأبناءها، وتغلب [ ص: 93 ] عليها الانفعالية والعاطفية وتتعلق باتخاذ موقف أكثر منها بمحاولة الفهم المجرد والمحايد.
4- قراءة ومتابعة ترجمات الإنتاج الغربي على الصعيد الفكري والثقافي، ويغلب عليها أنها تتعلق بشرائح المثقفين الضيقة للأسف، كما أن من غير الممكن لحركة الترجمة فيها أن تواكب سيل الإنتاج الفكري والثقافي.
5- قراءة ومتابعة للإنتاج الغربي بلغاته الأصيلة، ويصدق على هذا المدخل ما يصدق على المدخل السابق من حيث تعلقه بالمثقفين من جهة، ومن جهة محدودية القدرة على متابعة الإنتاج من ناحية ثانية [5] .
ومع اتفاقنا مع بعض المداخل المذكورة، إلا أننا نعتقد أنها في عمومها ليست إلا تمظهرات وتجليات للبنية الفلسفية والثقافية والدينية، التي تأسست عليها مؤسسات الغرب على جميع المستويات: من السياسي إلى الاقتصادي إلى الاجتماعي.. لذلك فالمدخل الجوهري لإنتاج وصياغة قراءة جديدة علمية ومتوازنة للغرب هو التفكيك - من أجل إعادة التركيب- لهذه البنية المذكورة، التي تشكل جذوره وأساساته التي يقوم عليها في حاضره، الذي هو مستقبل الماضي الغربي الممتد بأصوله إلى الحضارة اليونانية والإغريقية واليهودية. والقراءة من هذه الزاوية وبهذه العين المبصرة والبصيرة ستفتح آفاقنا على رؤى علمية راشدة لمستقبل الغرب، ومستقبلنا بالتبعية، وتجعل بناء (فقه الاستغراب) راشدا ومرشدا. [ ص: 94 ]