الباب الأول
في بدايات الاتصال بالغرب.. النشأة والتطور
الفصل الأول : مقدمة في تاريخ الاتصال بالغرب قبل العصر الحديث
إن الاحتكاك بالغرب، بشكل مباشر أو غير مباشر، ولد وما يزال يولد جملة مسائل وإشكالات لا تجد حلا لها في أكثر الأحيان، رغم أن الصدام بين المسلمين و(الآخر) لم يكن بالأمر الجديد أو الطارئ. فمنذ الفتوحات كانت هناك بيزنطة شرقا والممالك الأفرنجية غربا، وكان البحر الأبيض المتوسط ميدان صراع عسكري تتخلله مهادنات في هذا الإطار الصدامي، وبدت الحروب الصليبية مشرقا ومغربا وحرب "الاسترداد" في الأندلس كحلقات في سلسلة طويلة أو كجولة من جولات نزاع ممتد... وبدا سقوط غرناطة ذاتها في أذهان المسلمين -والمغاربة خصوصا - انعكاسا للتعارض التقليدي بين (دار الإسلام) و(دار الكفر) كما قال الونشريسي [1] .
إلا أن سيرة المسلمين الفاتحين كانت تختلف كليا عن سيرة الصليبيين في التعامل مع (الآخر) أثناء هذه السلسلة الطويلة من التدافع. فقد أجرى [ ص: 112 ] الفاتحون المسلمون عقود صلح متشابـهة مع المدن والحـواضر والأمصار التي كانوا يفتحونـها واحدة تلو الأخرى، ووضعوا على الأرض خراجا أفادوا من مقاديره ممـا كان معمولا به في الدولتين الساسانية والبيزنطية، وما كان التمـايز واضـحا في البداية بين ضريبـة الرؤوس (الجزية) والخراج (ضريبة الأرض)، ثم صار كل شيء واضحا منذ أيام الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيزt أيام حكمه (99هـ-101هـ). وتعامل الفاتحون في الإدارة المحلية والمركزية مع ذوي الخبرة من سكان البلاد المفتوحة الذين قبلوا التعاون معهم، وهم الغالبين، فما أحس سكان تلك البلاد غالبا بفوارق كبيرة في البداية على الأقل، ونمط عيشهم ما خالجه انقلاب مفاجئ، وأسرة يوحنا الدمشقي شاهد بارز على ذلك، فقد عمل جده في الإدارة البيزنطية ووالده من مخضرمي العهدين، وعمل هو نفسه في الديوان الأموي أكثر من عقدين من الزمان قبل أن يعـتزل في دير ماراسـابا بالقدس [2] ، إنها ثقافة الحياة العادلة والمتسالمة التي صبغتها التجربة العربية والإسلامية للاستيعاب والانصهار في الوقت نفسه.
ونظرا لهذه السابقة في تاريخ البشرية في التعامل مع (الآخر)، تحول الإسلام سريعا خلال النصف الثاني من القرن السابع الميلادي إلى دين يكتسح محيطه ويتمدد يوما بعد يوم إلى آفاق جديدة جغرافيا وروحيا وعقديا وسياسيا من جهة، كما تحول الإسلام سريعا في نظر المسيحيين [ ص: 113 ] العرب وغيرهم من معتقد لجماعة جديدة على أطراف إمبراطوريتي فارس والروم -ليست هناك ضرورات وجودية للتصدي له- إلى دين لإمبراطورية ضخمة سحقت الدولة الساسانية - التي كانت تؤوي تحت جناحها الغربي جماعات مسيحية كبيرة - وأرغمت البيزنطيين على التراجع منتزعة منهم مصر والشام وإفريقيا الشمالية وأجزاء من آسيا الصغرى.وفي مطلع القرن الثامن الميلادي امتدت السيطرة الإسلامية إلى إسبانيا المسيحية، كما استطاع الفاتحون المسلمون أن يثبتوا موطيء قدم في الجزر الإيطالية محولين بذلك البحر المتوسط تدريجيا إلى بحيرة إسلامية [3] .
ومع دخول العالم الإسلامي في مرحلة جديدة من التراجع والخمول والذهول الحضاري، تراجع أداؤه على المستوى العالمي، فحتى إلى أوائل القرن الحادي عشر الميلادي كان التفوق إلى جانب القوى الإسلامية، ولذلك كان الخليفة الأموي يلعب دور الحكم في الخلافات التي تدور رحاها حتى بين الممالك المسيحية، وكان ممثلو هذه الممالك يؤمون قصر الخليفة باستمرار طلبا للدعم والمساعدة، وقد سجل التاريخ تردد ممثلي ملك (ليون) على بلاط الخليفة الأموي في مناسبات عديدة، خصوصا أثناء أزمة الحكم بين الأخوين (أردونيو وسانشو)، كما أرخ للوفود التي كان يرسلها ملك بافاريا إلى قصر قرطبة لبحث العلاقات المتبادلة، وقضايا أخرى مرتبطة بجبهة الحدود الشمالية. ويبدو أن هذه الاتصالات كانت تزداد اتساعا في أوقات [ ص: 114 ] السلم، فتأخذ أحيانا طابع الزيارات الودية التي تبحث سبل التعاون على مستوى الحياة اليومية [4] .
ومع تحول موازين القوى في القرن الحادي عشر الميلادي لمصلحة الممالك المسيحية، حصل انقلاب هائل في العلاقات الدبلوماسية بين إسبانيا المسيحية وإسبانيا الإسلامية، فقد دفعت الاضطرابات الداخلية التي عصفت بالأندلس في عهد ملوك الطـوائف، أمراء الأندلس إلى طلب المسـاعدة من الأمراء المسيحيين الذين انتهزوها فرصة للثأر، فراحوا يتدخلون إلى جانب الفرقاء المتنازعين ممعنين في زيادة الفرقة بينهم وفارضين عليهم ثمن المساعدات التي يقدمونـها لهم، إما تنازلات ترابية عن بعض المنـاطق، وإما مالية عبارة عن ضرائب سنوية [5] ، وظل الوضع على هذه الحال إلى أن اندلعت الحروب الصليبـية التي دامت حـوالي قرنين من الزمن، انقلبت فيها الموازين الحضارية، وأصبح العالم الإسلامي مغلوبا بعدما ظل غالبا، ومستعمرا- بكل أشكال الاستعمار- بعدما ظل فاتحا.
كانت هذه وقفـة سريعة مع تطور العلاقات الإسلامية الغربية وقت ما قبل العصـر الحديث الذي أرخنا له - زمنيا- بعصر محمد علي باشا - و- معرفيا - ببروز ظاهرة (المثقف الديني) الذي كان من أوائل من مثلها [ ص: 115 ] بامتياز الشيخ رفاعة الطهطاوي، الذي ظهر معه نمط جديد من العلاقات مع الغرب، علاقة هيمنة غربية، وهذه المرة ليست عسكرية وإنما فكرية وثقافية وقيمية نحاول رصدها من خلال محاور مقبلة، نقف قبلها وقفة مع الحروب الصليبية باعتبارها محطة أساسية في الاستقطاب الحاد الذي حدث بين الإسلام والغرب، والذي كان من تداعياته ونهاياته انكفاء غربي دام مدة طويلة، بدأ بعدها الهجوم الغربي على معاقل إسلامية متعددة، انتهت بحركة استعمارية غربية واسعة، وانحسار إسلامي مريع. وهذا ما سمح بميلاد نمط جديد من العلاقة الإسلامية الغربية، نمط نشأ خلال النصف الثاني من القرن السابع عشر مع محمد علي باشا في مصر، وأرخ لانطلاق رؤية إسلامية جديدة في التعاطي مع الظاهرة الغربية. [ ص: 116 ]