الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

نحو فقه للاستغراب

الدكتور / محمد البنعيادي

المبحث الثالث: دروس تاريخية وعبر حضارية

إن المتـأمل في هذه الصـيرورة التطورية في العلاقة بين الإسلام والغرب يلاحظ:

1- أن الغرب وعى أن العالم الإسلامي لا يمكن أن يخضع طويلا بالقوة العسكرية وحدها، لذلك سعى في حملاته العسكرية إلى التركيز على الحملات الثقافية المواكبة للتأثير على المنظومة القيمية والثقافية الإسلامية وتطويعها، فنشأت عن ذلك حركة الاستشراق - التي قد تكون جذورها سابقة على هذه الفترة - التي استهدفت قراءة الشرق/الإسلام وتراثه قصد الإفادة منه في تيسير السيطرة الاستعمارية على بلاد الإسلام. وقد اكتنف هذه الحركة جو من الغموض يصعب معه التمييز بين المستشرق الباحث (النـزيه)، وبين المستشرق الموظف الذي يضع خبرته في خدمة الجيش الغازي، بين الدبلوماسي ورجل المخابرات الذي يريد اختراق المجتمع المرصود، بين الضابط المكلف بمرافقة الأمير عبد القادر الأسير -مثلا- والجاسوس الذي يسجل كل كبيرة وصغيرة لنقلها لرئيسه. وكل هذا التلبيس المقصود يجعل من العسير، إن لم نقل من المستحيل، وضع حد فاصل بين الثقافي والسياسي والعسكري والمخابراتي والانتهازي النفعي [1] . [ ص: 124 ]

2- أنه إذا أردنا دراسة العلاقة بين الإسلام والغرب لابد من ملاحظة كل هذه الإسقـاطات التاريخية وثقـلها على النظرة التقييمية للآخر عند كلا الفريقين، وخلاصتها:

لقد احتك العالم الإسلامي بالغرب باكرا - وربما حتى قبل ظهور الإسلام - إذ كان للوجود الروماني في شرق المتوسط ولمعرفة اليونان بأجزاء من العالم العربي والإسلامي ما يمكن أن يشكل تأسيسا تاريخيا لعلاقات ثقافية وسياسية معينة. وبطبيعة الحال، ورثت الحضارة الإسلامية ثقافة البحر المتوسط بعامة، وتمكنت من استيعابها، بل ومنذ مرحلة مبكرة، أي منذ الفتوحات الإسلامية حيث وصلت الثقافة والوجود الإسلاميان إلى أجزاء كبيرة من أوروبا -كما قلنا سابقا- وكان على العالم الإسلامي في مرحلة لاحقة أن يواجه جحافل الصليبيين ولسنوات طويلة، تلتها التجربة الاستعمارية، التي ما تزال بعض فصولها مستمرة إلى يومنا هذا. كل هذا التفاعل والتداخل تارة، والمواجهة تارة أخرى، أدى إلى نوع من معرفة لـ(الآخر) تولدت على إثره رؤية متبادلة في العصر الحديث [2] ، رؤية كانت نتيجة تدافع بين المنظومتين: الإسلامية والغربية، تدافع مر بمراحل ثلاث كبرى هي: [ ص: 125 ]

- مرحلة الدفاع: يوم كان العالـم الإسـلامي يغط في نوم عميق، لم يترك زخم الزحف الغربي على المسلمين إلا أن يدافعوا عن إسلامهم، عقيدة وشريعة وحضارة: فعقيـدتنا لا تخالف العلم الغربي، وشريعتنا تحقق ما تحققه قوانين أوروبا، وحضارتنا خدمت الإنسانية ومازالت فيها عناصر مضيئة توافق تقدمية الحضارة الغربية... إلى غير ذلك من المواقف (الانهزامية).

- مرحلة الهجوم: وتبدأ عندما بدأ الفكر الإسلامي يتحدى حضارة الغرب تحديا كبيرا حيث انتهى إلى أن علم أوروبا علم كفر، وقوانينه تصطدم مع الفطرة الإنسانية، وحضارته مادية طاغوتية لا تؤمن بغير القوة ولا تطمئن لغير العهر، ولا يمكننا أن نتعامل معها إلا من خلال الاستفادة العلمية الصرفة، أما أفكارها وفلسفتها وتنظيماتها فهي جاهلية بحتة، لا يمكن الاطمئنان إليها ولا التعامل معها في بنائنا الجديد.

- مرحلة الحوار مع هذه الحضارة: فهي على الرغم من أصولها الرومانية اليونانية النصرانية المادية اليهودية، ليست حضارة عنصرية ضيقة، وإنما حضارة إنسانية عامة، تحتفظ بقدر كبير من التأثيرات الإسلامية عليها، كما أثبت الباحثون الغربيون أنفسهم، ولذلك لابد من بناء جسور قوية بينها وبين المنظومة الإسلامية من أجل التواصل الحضاري... [3] . [ ص: 126 ]

أما بالنسبة للحضارة الغربية فقد كان من أهم أهدافها وأد أي تطلع (للجامعة الإسلامية) أو وجود (أمة إسلامية واحدة) قادرة على الدفاع عن حقوقها ورعاية مصالحها. ومهما يقال عن الكيانات الإسلامية التاريخية وتمثلها لهذه الوحدة، فإن المؤكد أن وجود نوع من الوحدة بين المسلمين كان يعد مظهر قوة لهم في نظر الغرب، ومن ثم سعت واتحدت القوى المعادية للمسلمين للحيلولة دون ذلك، وأصبحت المطالبة بقيام أي نوع من أنواع الوحدة - مع الزمن - أو الجامعة الإسلامية أمرا يهدد السلام العالمي، ويعد نكوصا وتراجعا عما حققته الإنسانية من رقي وتطور، ويعد من التعصب الديني، لكن إذا ما نظرنا إلى التكتلات الدولية المعاصرة، وبالذات السائدة في الغرب، فإنها ليست أكثر من اتحادات تقوم بين أطراف من المعتقد الدينـي، حتى وإن أخـذت ديباجة علمانية (الحلفاء) أو (العالم الحر) أو (المحور) وغيرها [4] .

وإزاء هذه الرؤية المتبادلة بين الحضارتين، وإذا بحثنا عن إمكانية ظهور منظومة مناهضة يمكن أن تخيف أو تقلق المنظومة الغربية، فإننا لن نجد غير الحضارة الإسلامية؛ لأن الحضارات الأخرى بعقائدها الوثنية وأعرافها المحلية وتشريعاتها البدائية وأفكارها المختلفة قد انتهت وغزاها فكر الحضارة الغربية لعدم تكافؤ المواجهة من الناحية العقدية، حيث تتقابل الوثنية الخرافية مع [ ص: 127 ] المادية المعقلنة، والأعراف الفاسدة المتخلفة مع أنماط الحياة الجديدة المغرية، وتشريعاتها الساذجة المقولبة مع القوانين الدقيقة المعاصرة ذات الصبغة الإنسانية، والأفكار الغيبية الأسطورية مع الأفكار الواقعية الإنسية ذات الاتجاهات التحليلية والمنطقية، وخير مثال على ذلك هو ذوبان اليابان في المنظومة الغربية حيث أصبحت عضوا كامل العضوية فيها.

ثم إن نظرة المسلمين إلى الغربيين لم تكن دائما نظرة واحدة مستقرة حتى قبل هذه الفترة - ما قبل القرن الثامن عشر- وإنما تنوعت وتغيرت بحسب الفترة الزمنية وطريقة احتكاك المسلمين بهم. فنجد في الكتابات الإسلامية الوسيطة نوعا من النظرة الدونية حول تخلف سكان الشمال (الغربيون عند ابن فضلان)، ونظرة متناقضة بين تأكيد تخلفهم العلمي والمعرفي وعدم غيرتهم، لكن مع ذكر أنهم شجعان صناديد في الحرب عند أسامة بن منقذ في كتاب (الانتصار) على سبيل المثال، لكن النظرة - حتى وقت الحروب الصليبية وربما حتى الحملة الفرنسية على مصر- كانت تتميز بعدم الاكتراث بهم والاعتقاد بتخلفهم، وأنه لا يمكن تعلم أي شيء منهم.. لكن مع الحملة الفرنسية بدأت الصورة تتغير، وإن كانت مؤكدة على دمويتهم وكراهيتهم للعالم الإسلامي، وتطورت هذه النظرة لتنتهي بالاستعمار والهيمنة، وكيف أن الغرب قوة جبارة، ولكن في الوقت نفسه بدأت هذه النظرة تتأثر بحضارة الغرب والانبهار بها، وهذا واضح عند الرواد الأوائل في العصر الحديث من أمثال: الطهطاوي وغيره. [ ص: 128 ]

وهذا ما سأحاول معالجته في المباحث التالية التي أبدؤها بتجربة محمد علي باشا، الذي تولى حكم مصر بعد نهاية الحملة الفرنسية، ودشن مرحلة التحديث في تماس كبير مع التجرية الغربية، ثم نثنيها بتجربة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث صنيعة محمد علي وحامل لوائه في التبشير بالتجربة الغربية وترسيخها على المستوى السياسي والاقتصادي والتعليمي.. وننتقل بعد ذلك إلى الحديث عن تأثير هذه التجربة في أنحاء شتى من العالم الإسلامي كالجزائر (الأمير عبد القادر) وتونس (ابن أبي الضياف وخير الدين التونسي) وتركيا والمغرب.

لقد ظلت النظرة التقليدية إلى الغرب تخيم بظلالها على العالم الإسلامي من خلال تقسيم العالم إلى: دار إسلام ودار كفر، وكان ذلك بسبب تأثير الصراع مع الآخر وخاصة بيزنطة ممثلة المسيحية حينها. ومع بروز القوة الأوروبية في حوض المتوسط مع ما أحرزته من تفوق في ميدان البحرية والتقنيات العسكرية، أخذت نظرة جديدة تتشكل ببطء وتفارق - تدريجيا - المفهوم التقليدي المعروف الذي ظل سائدا طيلة فترة ما قبل العصور الحديثة. وهذه النظرة الجديدة لم تكن واحدة بين الأتراك والفرس والعرب من المسلمين، حيث إن الموقف كان يرتبط بالصراعات الداخلية والتطورات الداخلية لكل بلد إسلامي على حدة. في المقابل كانت النظرة الأوروبية تتطور مع اتساع مصالحها في العالم الإسلامي، الذي شكل حقلا علميا [ ص: 129 ] وسياسيا واقتصـاديا جديدا لها [5] ، عكس النظرة الإسلامية إلى الغرب، التي لم ترق إلى التبلور في أشكال علمية ومعرفية والتي لو حدثت فإنها كانت ستؤسس ل(فقه الاستغراب) منذ زمن بعيد، ولكان الحال غير الحال، ولكن الله قدر وما شاء فعل.

ونحاول الآن تلمس بدايات تشكل النظرة الإسلامية الجديدة إلى الغرب، وخاصة خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، مع الحضور الإنجليزي بالهند، والتحولات السياسية والعسكرية في تركيا (الدولة العثمانية)، وفي المغرب العربي ومصر، التي منها ننطلق باعتبار قصب سبقها وتأثيرها على باقي المواقع الإسلامية الأخرى. [ ص: 130 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية