المبحث الأول: موقف القبول
يرى أنصاره أن «محمد علي» صاحب مشروع نهضوي ومنهج فكرى، كانت نتيجته إحداث نهضة علمية واقتصادية واجتماعية وعسكرية في مصر، امتدت إلى باقي الدول العربية، وكان لها تأثيرها على نمو الحركات الإصلاحية في السلطنة العثمانية ذاتها، ويمثل هذا الاتجاه كل من: جمال الدين الأفغاني (1838-1897م) ، ومصطفى كامل (1874-1908م) ، وجرجي زيدان (1861-1914م) ، وشكيب أرسلان (1871-1946م) ، وعباس العقاد (1889-1964م) ، وأحمد فؤاد الأهواني (1908-1970م) .
- جمال الدين الأفغاني: بداية نجد جمـال الدين الأفغاني يثني على منهج محمـد علي ونهضـته، بل إنه يصفه أنه نابغة من نوابغ الدهر، ويرى أن مصر قد دخلت معه عصرا جديدا تفوقت فيه على كل جاراتها من الأمم في عصور المدنية؛ ويعدد مآثر هذا التفوق، فيراها في الحكومة النظامية والتفوق الاقتصادي المتمثل في الزراعة وتطور وسائلها وانتشار معاهد العلم والمعارف الصحيحة والتقدم في إنشاء الطرق والمواصلات وما إليها من مظاهر تدل على التقدم المادي والاقتصادي، ناهيك عن انتشار الأفكار الوطنية بين أهالي مصر [1] .
[ ص: 140 ] مصطفى كامل: أما مصطفى كامل، فإنه يعد من المؤيدين لنهضة محمد علي في دقائقها وتفصيلاتها، فلم يسجل عليه أي نوع من الانتقادات في إصلاحاته المختلفة على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي والعسكري، فيرى أن محمد على قد أحاط مصر بسياج من القوة والرهبة وسعى إلى إنشاء حكومة منتظمة فيها تدير أمرها على أصول راسخة وقواعد ثابتة، وجمع شمل الأمة بعد أن كانت موزعة مشتتة على المماليك يتصرفون في أرواح المصريين على هواهم، صارت وطنا واحدا لأمة واحدة يجمعها لواء واحد وتحت سيادة حاكم واحد اختارته الأمة بمحض إرادتها [2] .
ويرى مصطفى كامل - في الخطبة نفسها- أن سياسة محمد علي كانت قائمة على ثلاثة مبادئ قويمة لا تدوم دولة بغيرها، هي أولا: حماية الوطن من اعتداء الأجنبي وسلطته، ثانيا: ترقيه الجيش المصري إلى أسمى الوظائف وترسيخه لاستلام مقاليد الأمور حتى لا تحتاج البلاد لأجنبي يزاحم أهلها، وتدريب المصريين على العمل والصناعة حتى تحفظ الثروة الأهلية في البلاد، ثالثا: الامتناع عن الاستدانة للتنمية الاقتصادية، كما أنه أيقظ القوى الحيوية في الأمة المصرية عن طريق التركيز على ضرورة نشر الوعي بأهمية العلوم والمعارف بوصفه من المواد الحيوية لإحياء الأمم وإعلاء قدرها، فقد
[ ص: 141 ] ألقى محمد علي إلى الأمة المصرية السلاح الذي تحارب به الأمة الجهل والرذيلة ومفتاح التقدم والرقي وآلة المجد والمدنية، التي يجب أن تسعى إليها الأمة المصرية وإلا قضت على الحاضر والمستقبل.
ويذهب مصطفى كامل إلى أن محمد علي غير أحوال مصر وألبسها ثوب العزة والمجد عن طريق التوفيق بين المدنية العصرية ومبادئ الدين الإسلامي؛ لأنه رأى أن الإسلام يحتوي على كافة المواد الحيوية لأرقى مدنية يطلبها الإنسان، وأنه الدين الذي يؤهل أهله وذويه إلى أسعد حالات الدنيا إذا اعتمدت قواعده وأوامره، من جهة، مع الاستفادة من المدنية الغربية وفوائدها ومنافعها من جهة أخرى.
- شكيب أرسلان: أما شكيب أرسلان فيرى أن محمد علي هو أول من انتقل بالشرق من جموده على أساليب العمران القديمة، وجعل نصب عينيه الغرب في أساليبه الجديدة حتى يتمكن الشرق من مقاتلة الغرب بسلاحه ويتفوق عليه فيه، لذلك يرى أرسلان أن محمد علي هو مؤسس النهضة الشرقية الحديثة ليس بوادي النيل فقط، بل في البلاد المجاورة أيضا [3] .
- عباس محمود العقاد: ويعتبر عباس محمود العقاد محمد علي من العباقرة في صناعة الحكم وسياسة الشعوب، فقد أفلح في إنشاء دولة جديدة وأخرجها
[ ص: 142 ] من الفوضى إلى النظام، فقد كان منهجه وتفكيره النهضوي قائما على البداهة العقلية والبصيرة النافذة والاستنارة، فلم يترك أي مجال من مجالات النهضة القومية للصدفة، من إنشاء القوة العسكرية والبحرية ونشر التعليم وإرسال البعثات العلمية وترجمة الكتب والاهتمام بالزراعة والصناعة، حتى إدراكه لقيمة العلاقة الجيدة بينه وبين الرعية، ولذلك اختار لمشروعه هيئة نيابية تناسب الوقت من العارفين لشؤون الإدارة وأحوال الأقاليم، ولم ينس تمثيل الصحافة في الهيئة النيابية، فكان ممثل الوقائع المصرية من أعضائها [4] .
ونلاحظ أن رؤى أصحاب هذا الاتجاه انحصرت في تأييد وتبرير نهضة محمد علي وتعداد المآثر والإنجازات، وتركز على منهجه في التعامل مع الحضارة الغربية عموما، وهذا له ما يبرره خاصة مع المتغيرات الدولية، التي تفرض على مصر والعالم الإسلامي بأكمله أن يسابق ركب التقدم العسكري والاقتصادي خصوصا، ولم يروا في تلك الإنجازات أسباب عدم استمرارها، ولم يبصروا العبء الذي يقع على عاتق المفكر الذي يجب أن يبحث في أسباب السقوط والاستفادة منها في بناء الحاضر والمستقبل لا في تعداد المآثر والإنجازات فقط، وهذا ما يمكن أن نقف عليه عند أصحاب الاتجاهين الآخرين في رؤيتهم لنهضة محمد علي ومنهجه التحديثي مع بعض التفاوت.
[ ص: 143 ]