- ملكة سبأ:
لقد ورد ذكر قصة ملكة سبأ في القرآن الكريم، وفيها ما يدل على أنها كانت ملكة على مملـكة عظيمة [1] . وتكاد تتفق الكتب التي تناولت قصة ملـكة سبأ في المحتوى، حيث تذكر لنا الروايات أن ملكة سبأ بنت شراحيل ابن مالك بن ريان، والتي تحدثت عن أم ملكة سبأ أنها كانت جنية مؤخر إحدى قدميها مثل حـافر الدابة -ولا نعرف ما مـدى صحة هذا الكلام- واسمـها فارغة أو بلتعة أو بلقته أو بلقمة بنت شيصـان. وقيل: بنت فاقوذ، وزوجها عمران بن ماثان. وقيل: كانت ملكة سبأ اسمها ليلى، وسبأ مدينة باليمن، وفي روايات أنها اسم رجل، وملكة سبأ حميرية. وفي قوله تعالى: ( إني [ ص: 62 ] وجدت امرأة تملكهم ) (النمل:23) ، كانت من بيت مملكة، وكانت بأرض يقال لها مأرب على ثلاثة أميال من صنعاء. ( وأوتيت من كل شيء ) (النمل:23) ، أي من متاع الدنيا مما يحتاج إليه الملك المتمكن ( ولها عرش عظيم ) (النمل:23) ، يعني سرير تجلس عليه عظيم [2] .
وورد في القرآن الكريم ما يدل على اعتمادها على مبدأ الشورى في اتخاذ القرارات المصيرية المتعلقة بالحرب والسلم [3] . إن اتخاذ مثل هذه القرارات، المتعلقة بالعلاقات الخارجية، لا يعتبر أمرا هينا، بل هو على رأس القضايا الحساسة المتعلقة بمسائل الحكم وما يجري حوله. إن حاكما يتمتع بكل هذه القوة من عدة وعتاد وعرش عظيم، لا يتردد في إعلان الحرب على من يرسل خطـابا مثـل الذي أرسله سليمان، عليه السلام. ولقد رأينا في سيرة [ ص: 63 ] المصطفى صلى الله عليه وسلم ، كيف كانت ردود أفعال الملوك الذين أرسل إليهم، يدعوهم إلى الإسلام ليس إلا، فاستنكر ملك الفرس استنكارا شديدا، وأساء الأدب مع رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث حرق أمامه الخطاب [4] .
وها هي ملكة سبأ بحكمتها التي وهبها الله عز وجل على الرغم مما كانت تملكه من عرش وقوة، استقبلت كتاب سليمان، عليه السلام، استقبالا حسنا، فأثنت عليه ثناء حسنا على الرغم مما جاء فيه من الأمر بالاستسلام كما جاء في التفسير: "قال قتادة، يقول: لا تجبروا علي ( وأتوني مسلمين ) (النمل:31) ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لا تمتنعوا ولا تتكبروا علي وأتوني مسلمين. وقال ابن عباس: موحدين. وقال غيره: مخلصين. وقال سفيان بن عيينة: طائعين". وجاء أيضا "فجمعت عند ذلك أمراءها ووزراءها وكبراء دولتها ومملكتها، ثم قالت لهم: ( يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم ) (النمل:29) ، تعني بكرمه ما رأته من عجيب أمره كون طائر ذهب به فألقاه إليها، ثم تولى عنها أدبا. وهذا أمر لا يقدر عليه أحد من الملوك، ولا سبيل لهم إلى ذلك" [5] . لكن هذا التأويل لا يستند إلى دليل، لذلك يبقى مجال فهم هذه الآية مفتوحا.
ولم تكن الملكة مستبدة، بل اعتادت على مبدأ الشورى في صنع قراراتها كما قالت: ( يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون ) (النمل:32) ، أي حتى تحضرون وتشيرون. [ ص: 64 ]
خبرة ملكة سبأ في أمور الحكم:
وعلى الرغم من القوة التي كانت تتمتع بها، وترك وزرائها لها الرأي الأخير كما ورد في القرآن الكريم [6] : ( والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين ) (النمل:33) ، أي نحن ليس لنا طاقة ولا بنا بأس، إن شئت أن تقصديه وتحاربيه فما لنا طاقة عنه، وبعد هذا فالأمر إليك، مري فينا رأيك نمتثله ونطيعه. واتخذت موقفا حكيما عندما اتخذت قرارها المصيري. لقد كانت ملكة سبأ تملك خبرة بالتاريخ البشري ومعرفة بصفات الملوك، فكانت تعلم أن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة: ( قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة ) (النمل:33)، وأقر الله عز وجـل لها بهذا الرأي. فهي كانت تحذر من مغبة انقلاب النظام بسبب الغزو الخارجي، فالحاكم الفطن يحتاج للشورى في إصدار قراراته، ويحتاج كذلك لمعرفة عميقة بالتاريخ والسير وعواقب الأمور، وكانت تعلم قوة سليمان، عليه السلام، فتنبأت بالعواقب التي يمكن أن تترتب على مواجهة مثل تلك القوة، التي كان وراءها حشد من الجن والإنس والطير مسخر لسليمان، عليه السلام، وهذا ماجعلها تركن إلى المصالحة والمهادنة والمسالمة مع إرسال الهدية.
غير أن سيدنا سليمان، عليه السـلام، رد عليها هديتهـا، وأعلمهم بأنه لا يقبل منهم إلا الإسلام، وأمر الجن بإحضار عرشها، ، وعندما رأته ( أهكذا عرشك ) (النمل:42) ، أي عرض عليها عرشها وقد أدخلت عليه تغييرات، [ ص: 65 ] قالت: ( كأنه هو ) (النمل:42) ، فقالت ( رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ) (النمل:44) ، فأسلمت وحسن إسلامها [7] .
وخلاصة القول: إن أنموذج ملكة سبأ هو أنموذج سياسي أنثوي، وردت قصتها في سياق قصة سيدنا سليمان، عليه السلام، وقد وصفها القرآن بجملة من الأوصاف، مثل الشورى والدراية، وهي صفات الملوك، وخبرتها بأمور الحرب والسلم، ثم بقدرتها الفائقة على المناورة واستجلاء الحقائق، وعدم التسرع في الحكم على الأشياء. ونجحت في إدارة الصراع السياسي والعقائدي مع أقوى ملوك زمانه، الذي دعا الله عز وجل أن يعطيه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، هذا الملك الذي كان مؤيدا بالوحي وبقوى غير مرئية كثيرة، هذا من جهة.
ومن ناحية أخرى فلو كان هذا المنصب الذي تولته هذه المرأة محظورا لعقب عليه الله عز وجل ولو بإشارة خفيفة مثلما وصف فرعون بالطغيان. وتوجد مواضع كثيرة تسمح بمثل هذا التعقيب. فعند قول الهدهد مثلا: وجدت امرأة تملكهم (تحكمهم)، أولا: لم يستخدم كلمة (أنثى)، واستخدم كلمة (امرأة)، وهذا جاء في السياق نفسه استخدام الله عز وجل لكلمة (رجل) الذي قصد منه في أغلب الآيات الرسول أو النبي. ويبدو أن هذه أفضل فرصة لإبراز حرمة تولي المرأة الحكم. وقد أورد الله عز وجل آيات صريحة تحريمية حول كل مسألة يترتب عنها مفاسد مضرة بالمجتمع. وبدل أن نجد هذا، رأينا كيف أن الله عز وجل عقب على رأيها بالصواب. [ ص: 66 ]
ولأهمية الموضوع ذكر هذا الصراع بالذات بدل صراع آخر، فلا يعقل أن يكون هذا هو الصراع الوحيد الذي واجهه سيدنا سليمان، عليه السلام، في عصره، وهو يملك ذلك الملك العريض من الإنس والجن والطير. وتولي مثل هذه المناصب يعد تشريفا بقدر ما هو تكليف، فمنصب الحكم في ذاته ابتلاء عظيم لعظم مسؤوليته. ولو قدر الناس خطورة هذا الابتلاء في الآخرة لما تنافسوا من أجل الحصول عليه، بل على العكس لأخذ كل واحد يطمع في أن يتولاه غيره، ولا يفقـه هـذا الكلام إلا المتقون، كما فقه ذلك الخلفاء الراشدون.
أرى أن مثل هذه المواقع التي تصنع فيها القرارات على مستوى أعلى مرتبط بتقلبات الزمان، وبنوعية الكفـاءات المتـوفرة في ذلك العصر. وهذا لا يعني أنني أدع إلى تولي المرأة منصب الرئاسة، بل أقول: لو كانت هذه المسألة محظورة لكان رب العباد ذكرها ضمن الثوابت التي لا جدال حولها، لكن تركت ضمن المتغيرات حسب تقلبات الزمـان، ونحمد الله أنه إلى الآن لا يزال لدينـا رجـال أكفاء لم يخـل الزمان منهم. وقول المصطفى صلى الله عليه وسلم : ( لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ) [8] صائب جدا؛ لأن قوما غاب فيهم رجل كفؤ يتولى أمرهم قوم لا خير فيهم، فكيف يفلحون؟
قد يتهمنا قارئ بالرجعية بسبب هذا الموقف، أقول: إن كان عدم تولية المرأة الإمامة العظمى أو الرئاسة دليل على التخلف أو الرجعية إذن الدول [ ص: 67 ] الغربية التي يطلق عليها بالدول المتقدمة أو المتحضرة متخلفة. وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، التي لم تعرف تولي امرأة الحكم في تاريخها. بل إن أول امرأة تولت الحكم في عصرنا، كما أعلم، هي "إيزابيل بيرون" بالأرجنتين في عام 1974م، وتعرضت لانقلاب عسكري بعد سنتين من حكمها (1976م). وعينت "إديت كريسون" رئيسة للوزراء لأول مرة في تاريخ فرنسا وقضت أقل من عام، وهي أقصر مدة شغلت هذا المنصب مقارنة بغيرها حيث فقدت شعبيتها بسرعة نتيجة مظاهرات احتجاجية، ولم تعين غيرها إلى الآن. و"كيم كامبل" بكندا عينت أيضا كرئيسة وزراء وهي المرأة الوحيدة التي شغلت هذا المنصب ومكثت مدة أقل (132) يوم فقط (يونيو 1993م إلى نوفمبر 1993م) ولم تجلس على كرسي الحكم. والوحيدة التي عمرت (11) سنة (1959م إلى 1969م) هي "مارغريت تاتشر" في بريطانيا والملقبة بالمرأة الحديدية وهي حالة شاذة والشاذ يحفظ ولا يقاس عليه.
أما باقي الدول المتقدمة سواء في أوروبا أو غيرها فيكاد الأمر ينعدم، ففي سويسرا عينت "روت درايفوس" كأول رئيسة عام 1999م، وصلاحيات الرئيس في هذا البلد مختلفة عما في غيره، فهي محدودة، ويعين لمدة سنة فقط. وعينت حديثا "أنجيلا ماركل" بألمانيا (2005م).
والشاهد في هذا السرد أن قيام الحضارة في الغرب لم يقم بسبب تولي المرأة الحكم، بدليل أن أمريكا إلى يومنا هذالم تحكمها امرأة، ورأينا باقي الدول مثل فرنسا التي تعتبر على رأس الفكر التنويري لم تحكمها امرأة، وحتى رئاسة الوزارة فشلت فيها. وأغلب الدول المتقدمة لم تولي المرأة الحكم باستثناء [ ص: 68 ] بعضها، وكما يبدو تولت بعضهن الحكم أو رئاسة الوزاراة في وقت متأخر. والطريف أنني وجدت أن أغلب الدول التي تقلدت فيها المرأة الحكم أو رئاسة الوزراء هي دول من العالم الثالث، أقدمهن سري لانكا (1969م) حيث تـولت "سيري مافو باندارانيك" رئاسة الوزارة
[9] . ورغم ذلك لا تزال هذه الدول ضمن الدول النامية لم يغير من وضعها تعين النساء على سدة الحكم.
لم يكن تولية النسـاء الحكم في الغـرب سببا في قيام تلك الحضارة، كما أسلفنا، بل بدأت النساء تتعين في الفترة الحديثة.
وحتى نوقف هذا الجدال العقيم لمن يتهمنا بالرجعية فلنعط العالم الإسلامي فرصـة يقوم ويخرج من التخـلف لنناقش تعين المرأة على سدة الحكم، هذا إذا فرضنا جدلا الاقتداء بالغرب لمن يعتبرهم مرجعا يقتدى به، بل وياليتنا في هذا نقتدي بهم، فلقد تولى الحكم خلال فترة نهضتهم رجال أكفاء.
لا أعتقد أن مشكلتنا تكمن في تولية المرأة الحكم بقدر ماهي في إشراكها في صنع مختلف القرارات التي تسير المجتمع، فلقد نبذ المصطفى صلى الله عليه وسلم تولي المرأة الحكم لكن لم يلغ صوتها في تشكيل القرارات السياسية والفكرية والتشريعية، بل على العكس تماما خلف وراءه نخبة من النساء حملنا علمه جنبا إلى جنب مع إخوانهن الرجال، وكان لهن الأثر الواضح في صناعة فكر المجتمع الرسالي خاصة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم . [ ص: 69 ]