8- الشفاء بنت عبد الله [1] :
عن مصعب بن عبد الله الزبيري "أن الشفاء هي من نساء قريش اللاتي صحبن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي بنت عبد الله، وهي أم سليمان بن أبي حثمة القرشي وجدة أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة" [2] . وقيل: إن اسمها ليلى وغلب عليها الشفاء. أسلمت الشفاء قبل الهجرة، فهي من المهاجرات الأول، وبايعـت النبي صلى الله عليه وسلم . روى عنها حفيـداها أبو بكر وعثمان ابنا سليمان بن أبي حثمة. وروى عنها أيضا ابنها سـليمان وأبو سـلمة بن عبد الرحمن وحفصة أم المؤمنين ومولاها أبو إسحاق.
ولقد كانت الشفاء امرأة أنموذجا، تميزت بصفات مميزة، صنفت -حسب ما ورد في الاستيعاب- من ضمن عقلاء النساء وفضلياتهن. كانت إحدى النسـاء القرشيات ممن يعرفن الكتابة والقـراءة. وهذه الصفـات تدل على أنها كانت لها بالتأكيد آثار واضحة في وسط النخبة المثقفة آنذاك. وسيتضح هذا أكثر في إسهاماتها التي وصلتنا من خلال المصادر. ومما يزيد تأكيد فضلها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيها ويقيل عندها في بيتها. وكانت قد اتخذت له فراشا [ ص: 169 ] وإزارا ينام فيه، فلم يزل ذلك عند ولدها، حتى أخذه منهم مروان. ولقد أقطعها رسول الله صلى الله عليه وسلم دارا عند الحكاكين فنـزلتها مع ابنها سليمان.
موقع الشفاء النخبوي قبل وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم :
يبدو أن الشفاء قد برزت كفاءاتها قبل الإسلام، فلقد كانت ترقي من النملة، ويقصدها ليس النساء فقط بل الرجال أيضا، كان يقصدونها طلبا للتداوي، فهي كانت بمثابة ما يطلق عليه الآن (الطبيبة). ويبدو أيضا أنها تعلمت الكتابة في الجاهلية طبقا للروايات. واستمرت في نشاطها في عهد الإسلام بإقرار من النبي صلى الله عليه وسلم فلقد قصدها رجال لترقيهم من قرصة النملة فلم يمنعها الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك، بل شجعها وأمرها بتعليم حفصة ذلك، كما أقر لها تعليمها الكتابة. فيبدو أن حفصة كانت تمتلك المؤهلات نفسها، مما حدا بالرسول صلى الله عليه وسلم لتشجيع هذا النوع من النساء على تنمية قدراتهن واستثمارها في المجتمع. فعن أبي بكر بن سليمان ( أن رجلا من الأنصار نملة خرجت به، فدل أن الشفاء بنت عبد الله ترقي من النملة. فجاءها فسألها أن ترقيه، فقالت: والله ما رقيت منذ أسلمت. فذهب الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخـبره بالذي قالت الشفـاء، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفاء، فقال: اعرضي علي، فعرضتها عليه. فقال: أرقيه وعلميها حفصة كما علمتيها الكتاب ) (وفي روايات: الكتابة) [3] .
إن هذه الرواية غنية بالأخبار التي تهمنا في الموضوع. ثبت من خلال الرواية أن الشفاء كانت ترقي في الجاهلية. مما يدل على أن نخبة من النساء كن [ ص: 170 ] يمارسـن نشـاطات معينة، فلم تكن كل النساء توأد. فعندما عرضتها على النبي صلى الله عليه وسلم أقرها، وأكثر من ذلك، أنه أمرها أن ترقي الرجل، وأمرها بتعليمها حفصة ذلك، دون أن يوجه تخصيص ذلك بالنساء، أي لم يشترط على حفصة أن تمارس هذه الرقية على النساء فقط. هذا من جهة، ومن ناحية أخرى فلقد جعلنا الرسول صلى الله عليه وسلم نكتشف أن الشفاء هي التي علمت حفصة الكتابة.
يدعي بعضهم أن نساء الصحابة لم يتجاوز نشاطهن القضايا الاجتماعية، وأنهن كن متخصصات في القضايا المتعلقة بالنساء فقط، ولكن يبدو -كما ورد في بعض المصـادر- أن الشفـاء كانت على علم بشـؤون السوق. فعن يزيد بن أبي حبيب أن عمر استعمل الشفاء على السوق قال: ولا نعلم امرأة استعملها غير هذه [4] . وجاء في الاستيعاب "وكان عمر يقدمها في الرأي، ويرضاها ويفضلها، وربما ولاها شيئا من أمر السوق" [5] .
ويبدو أن الشفاء قد نقلت خبرتها لابنها بدليل تعيين عمر له في المجال نفسه. ونقلت له صلاحها أيضا فلقد برعت في المجالين، في التربية والاقتصاد. لقد جاء في الاستيعاب أن "سليمان بن أبي حثمة هاجر صغيرا مع أمه الشفاء، وكان من فضلاء المسلمين وصالحيهم، واستعمـله عمر على السـوق وجمع عليه وعلى أبي بن كعب الناس ليصليا بهم في شهر رمضان، وهو معدود في كبار التابعين" [6] . [ ص: 171 ]
وإلى جانب اهتمام الشفاء بأمور السوق، فإنها كانت مهتمة بالقضايا السياسية. إن اختصاص الشفاء في الكتابة وتقديم عمر لها في الرأي جعلها قريبة من الأمور المتعلقة بالحكم. فلقد كانت على علم بمراسلات عمر الحكومية مع ولاته، كما ورد في مسألة الاطلاع على أمور العراق، وهذا مما جعلها أيضا تحيط علما بأول مرة استخدم فيها مصطلح أمير المؤمنين. فعن الزهري "أن عمر بن عبد العزيز سأل أبا بكر بن سـليمان بن أبى خيثمة لأي شيء كان أبو بكر، رضي الله عنه، يكتب من خليفة رسول الله، وكان عمر يكتب من خليفة أبي بكر، ومن أول من كتب عبد الله أمير المؤمنين؟ فقال: حدثتني الشفاء وكانت من المهاجرات الأول أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، كتب إلى عامل العراق أن ابعث إلي برجلين جلدين نبيلين أسألهما عن العراق وأهله فبعث إليه عامل العراق لبيد بن ربيعة العامري وعدي بن حاتم الطائي، فلما قدما المدينة أناخا راحلتيهما بفناء المسجد ثم دخلا المسجد فإذا هما بعمرو بن العاص، فقالا له: استأذن لنا على أمير المؤمنين يا عمرو. فقال: عمرو أنتما والله أصبتما باسمه، نحن المؤمنون وهو أميرنا. فوثب عمرو فدخل على عمر، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين. فقال عمر: ما بدا لك فى هذا الاسم، يعلم الله لتخرجن مما قلت أو لأفعلن. قال: إن لبيد بن ربيعة وعدي بن حاتم قدما فأناخا راحلتيهما بفناء المسجد، ثم دخلا المسجد وقالا لي: استأذن لنا يا عمرو على أمير المؤمنين، فهما والله أصابا اسمك أنت الأمير ونحن المؤمنون. قال فجرى الكتاب من يومئذ. قال أبو عمر: وكانت الشفاء جدة أبى بكر" [7] . [ ص: 172 ]
ومن بـين المواقف التي كانت تشـير إلى اهتمام الشفـاء بالشأن العام، ما يخص الرجال أوالنساء، أنها كانت لديها نظرة خاصة لنموذج الرجل الناسك. ففي رأي الشفاء لقد جمع الرسول صلى الله عليه وسلم المعنى المثالي للرجولة، فهو الرجل بكل ماتحمله الكلمة من معان، سواء في تحمل مسؤولية الدولة من كل النواحي، وفي تطبيق أحكام الشريعة في جميع أركانها، وكان الرجل الصبور العطوف الحنون مع الجنس اللطيف. ولقد اشتهر عمر بشدته، ولقد كانت الشفاء على اتصال بعمر كما ورد في المصادر، وتعرف شخصيته جيدا، فكانت تراه أنموذج الناسك الذي يجمع بين خصال الرجل الشديد والعبد الضعيف، الذي لا يعرف الإذلال والخضوع سوى بين يدي الله، لذلك أنكرت على بعض النساك طريقة حديثهم ومشيتهم، فرأت أن ذلك ينقص من شأن رجولتهم ربما، وأن أسلوبهم لا يعكس المواصفات الحقيقية للناسـك. فعن عمر بن سليمان قال: قالت الشفاء ابنة عبد الله- ورأت فتيانا يقصدون في المشي، ويتكلمون رويدا- فقالت: ما هذا؟ فقالوا: نساك. فقالت: كان والله عمر إذا تكلم أسمع، وإذا مشى أسرع، وإذا ضرب أوجع، وهو الناسك حقا [8] .
وخلاصة القول: إن أنموذج الشفاء أنموذج متميز، عرفه تراثنا الفكري، غير أنه من الصعب الوصول إلى حقيقة إسهامات هذا العنصر النسوي النادر، لأن المصادر لم تنقل إلينا تجربتها، وأي شيء من تجربتها مفصلا. فالسؤال الذي يثار: كيف تتولى مثل تلك المناصب، ولا يصلنا من تاريخها ولو بنسبة 20%؟. [ ص: 173 ]
لقد وقفت عند نذر يسير من المعلومات لا أكثر، فتحت لي منافذ كثيرة من المعلومات، فكيف لو وصلتنا معلومات أكثر. إن تشجيع النبي صلى الله عليه وسلم لهذا العنصر النخبوي يعني الكثير في إطار تشكيل مجتمع متكامل الكفاءات. أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يسن سنة، وسنته أحق أن تتبع، كما رأينا سابقا. إنه لمن الاقتداء والتأسي الصحيح أن نأخذ بهذه النماذج التي أقرها النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه كان بصدد تشكيل الأنموذج المثالي لمجتمع يتركه لنا نبراسا نقتدي به إذا أردنا أن نقيم مجتمعا متكاملا. فهذه العناصر النخبوية كان يعـلم النبي صلى الله عليه وسلم أهميتهن في الوسط النخبوي للمجتمع، لذلك شجع على وجود أمثال هذه النخب، وأمر بـها حتى تتشكل النخبة بشكلها الطبيعي، وتؤدي دورها كما ينبغي في مجتمعها.
والمثير للانتباه في أنموذج الشفاء أنها كلفت بأمور السوق في عهد عمر، إذا صح ذلك، ولا ننسى أنها كانت كبيرة في السن لا طمع للرجال فيها، وكان يقدمها في الرأي، ولا تخفى على أحد شدة عمر، ولا نقـول تشدده. لقد كان يعي، رضي الله عنه، وعيا تاما بأنه لا تبديل لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه كان يعي أيضا أهمية وجود هذه العناصر النخبوية في تشكيل الرأي العام، أو في صنع القرارات، سواء الاقتصـادية أو السياسية، ولم تكن من أمهـات المؤمنين، بل كانت جـدة أبي بكر الصديق، رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين. [ ص: 174 ]