الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          موقع المرأة النخبوي في مجتمع الرسالة

          الدكتورة / ليلى رامي

          - السيدة عائشة في ظل العناية النبوية:

          إلى جـانب العناية الأبوية، حظيت عائشـة بالعناية النبوية قبل زواجها منه صلى الله عليه وسلم حسب الرواية التي وصلتنا، فالنبي تزوج عائشة بأمر من الله عز وجل. وباعتبار أن أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم تشريع لنا، إلا ما كان خاصا به، فزواجه من عائشة بأمر من الله عز وجل ليس أمرا عبثا، فإن كان زواجه من زينب مثلا بأمر من الله عز وجل لمعالجة مسألة التبني، فما الحكمة من زواجه بعائشة؟ فأعظم حكمة نراها هي حتى يتولى الرسول صلى الله عليه وسلم تكوينها بنفسه، وخاصة عندما نرى أنه رأى تلك الرؤية قبـل أن يخطبـها بفترة زمنية، أو حتى قبل أن يبني بها على الأقل، تلك الرؤية التي جعلته يضع عائشة تحت رعايته، ويحفظها من أي سوء قد يؤثر في تربيتها تأثيرا سلبيا.

          وتربية الرسول صلى الله عليه وسلم لعائشة كانت بمثابة تخريج لأنموذج من النساء يقر به الشـرع، ويحرص على بعثه. ومن خلال هذا الأنموذج الذي حرص عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ، نتعلم أن النساء أصناف، وكل صنف ميسر لما خلق له، فلم تكن كل زوجات النبي صلى الله عليه وسلم من صنف واحد، كل واحدة تميزت بميزات خاصة بها، وعائشة، رضي الله عنها، تميزت بخصائص ميزتها عن غيرها، ولا أتعرض لها على سبيل التفصيل، إنما أعتبرها دليلا على أن النساء أصناف. هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن إيجاد الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك الأنموذج دليل على ضرورة وجوده في مجتمع النساء لما له من أثر في المجتمع برمته. [ ص: 185 ]

          ولقد تزوج الرسول صلى الله عليه وسلم عائشة وهي بنت ست سنين، قبل الهجرة ببضعة عشر شهرا، وقيل: بعامين. تزوج بها إثر وفاة خديجة، فتزوج بها وبسودة في وقت واحد، ثم دخل بسودة، فتفرد بها ثلاثة أعوام حتى بنى بعائشة [1] بالمدينة وهي بنت تسع سنين.

          وحاول بعض المستشرقين استغلال زواج النبي صلى الله عليه وسلم بفتاة في ذلك السن للطعن في شخصيته حسب ما ذكرت الدكتورة عائشة عبد الرحمن [2] . وردت على ذلك الافتراء ردا حسنا. وقام بالعمل نفسه أيضا محمد سعيد مبيض [3] . وخلاصة ما تعرضا له أن هذا النوع من الزواج لم يكن غريبا في ذلك الوسط الاجتماعي وذلك الزمان، فلم تكن عائشة هي أول صبية تزوجت بكهل. فلقد كانت عادة سائدة عند العرب في شبه الجزيرة العربية لسرعة نمو الفتاة في تلك المنطقة. ولقد أشار د. محمد سعيد مبيض إلى حكمة جليلة، وهي "أنها (عائشة) نشأت في بيت مسلم منذ نعومة أظافرها، ولكي تبقى أطول فترة ممكنة في مدرسة النبوة، فتفقه في أحكامها وتعاليمها، لتنقل هذه الأحكام بدورها إلى أخواتها المسلمات" [4] . وفعلا تجلت هذه الحكمة.. ولم تكن هذه هي الحكمة الوحيدة، فلقد تزوجها في هذا السن حتى نتعلم منه كيف نربى البنت ونحافظ على قدراتها أو مؤهلاتها الفطرية، فمعاملته لها خير دليل. [ ص: 186 ]

          لقد جمع المصطفى صلى الله عليه وسلم في معاملته لعائشة بين عناية الأب وحنان ولطف الزوج، وساهم في تكوين شخصية عائشة، ابتداء من طفولتها إلى أن شبت. تزوجها وهي طفلة، فلم تكن معاملته لها وهي في ذلك السن عبثا، وإنما كانت توجيها يتعلق بكيفية تربية البنت في ذلك السن، لذلك كان يرسل لها البنات في سنها ليلعبن معها لحداثة سنها. عن هشام عن أبيه عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: ( كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسـول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل يتقمعن [5] منه، فيسربهن إلي فيلعبن معي" [6] ؛ وكان يسمح لها بالتفرج على السودان وهم يلعبون بالدرق [7] والحراب.. عن عروة عن عائشة قالت: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه، وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد، حتى أكـون أنا التي أسـأم، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن، الحريصة على اللهو ) [8] .

          ويعتبر موقفه صلى الله عليه وسلم من اللعب والتفرج على الألعاب إقرارا منه أن اللعب والتسلية من الأمور الفطرية في الطفل، سواء كانت بنتا أو ولدا، فكبت هذه الفطرة فيهم قد يؤدي إلى تعطيل قدراتهم العقلية، بحكم أن اللعب جزء من عالم الطفل الخاص به في ذلك السن. [ ص: 187 ]

          وكان الجانب النفسي من بين الجوانب التي أولاها النبي صلى الله عليه وسلم اهتماما خاصا، ويتجلى هذا أكثر في معاملته لها في مواضع أخرى. فعـن عائشة، رضي الله عنها، قالت: ( قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت علي غضبى، قالت: فقلت: من أين تعرف ذلك؟ فقـال: أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنت علي غضبى قلت: لا ورب إبراهيم. قالت: قلت: أجـل، والله يا رسـول الله ما أهجر إلا اسمك ) [9] .

          تعرضت عائشة، رضي الله عنها، لظروف وأحداث خاصة، وهي عند خير خلق الله، سواء داخل الأسرة أو خارجها. فلقد تناول بعض الكتب [10] مثلا مسـألة الضرائر بشيء من التفصيل، وسـأتناولها أنا بشـكل مختصر؛ لأن الإطناب فيها لا يخدم الموضوع الذي أصبو إليه. وردت روايات متنوعة حول هذا الموضوع، والطريف منها ما حصل بينها وبين زينب بنت جحش، رضي الله عنهن. تقول عائشة، رضي الله عنها: ( ... فأرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي التي كانت تساميني منهن في المنزلة [ ص: 188 ] عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم أر امرأة قط خيرا في الدين من زينب، وأتقى لله، وأصدق حديثا، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد ابتذالا لنفسها في العمل الذي تصدق به وتقرب به إلى الله تعالى ما عدا سورة من حدة كانت فيها تسرع منها الفيئة. قالت: فاستأذنت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع عائشة في مرطها، على الحالة التي دخلت فاطمة عليها وهو بها، فأذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت: يا رسول الله، إن أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة، قالت: ثم وقعت بي فاستطالت علي، وأنا أرقب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأرقب طرفه هل يأذن لي فيها، قالت: فلم تبرح زينب حتى عرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا يكره أن أنتصر، قالت: فلما وقعت بها لم أنشبها حتى أنحيت عليها، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبسم: إنها ابنة أبي بكر ) [11] .

          لقد كانت ردود أفعال النبي صلى الله عليه وسلم من غيرة أمهات المؤمنين متلائمة مع فطرتهن، وعندما وصلت حد المبالغة هجرهن لمدة شهر لتعديلها فيهن [12] .

          ويمكن أن نشير هنا إلى أن الغيرة التي كانت بينهـن، رضوان الله عليهن، لم تكن لتصل حد المكر أو المعصية، بقدر ما كانت مجرد ردود أفعال أنثوية طبيعية، لا تنقص من قيمة المرأة شيئا، وخير دليل على خوف أمهات المؤمنين من المـولى عز وجل أن عائشة، رضي الله عنها، أثنت على زينب بنت جحش ثناء حسنـا، كما رأينا في الروايـة السـابقة، رغم ارتبـاط شهادتـها لها بالموقف الحرج. [ ص: 189 ]

          ونخلص إلى القول: إن الغيرة هي مسـألة فطرية في الجنسين، سواء المرأة أو الرجل، أودعها الله عز وجل في الإنسـان لحكمة يريدها. فلـولا الغيرة على دين الله ما كنا نسمع عن الجهاد وغير ذلك، إذا كان الرجل يغار على زوجاته فكيف بالزوجـات على رجـل واحـد. وبعبارة أخرى: إن غيرة الرجل على زوجته -أو زوجاته- قوية، فهو يقتل إذا تعرض أحد لإحداهن بسوء. فكيف بالمرأة ذات العاطفة الجياشة، والتي إذا أحبت أخلصت؟ فلم نحمل تلك الصحابيات ما لا تطيقه فطرتهن، إنهن اجتمعن حول رجل واحد، ومن هو؟! خير خلق الله، لو لم تكن هناك غيرة بينهن لكان الأمر غير طبيعي، ولخرجن عن الفطرة الإنسانية. وعليه، فإن قضية الغيرة لا تؤثر في موقع عائشة في الوسط النخبوي.

          التالي السابق


          الخدمات العلمية