- السيدة عائشة في مدرسة النبوة:
ولقد ساعدت مكانة عائشة، رضي الله عنها، الاجتماعية على تنمية وتشجيع قدراتها الفطرية، وبفضل هذه المكانة التي كانت تعيش فيها عائشة، رضي الله عنها، والعناية الأبوية والنبوية، اكتسبت عائشة شخصية متوازنة سليمة، ذات عقلية متفتحة معتدلة فريدة في عصرها، خاصة في وسط النساء، لا تخشى في جرأتها أو نقاشها أو استفسارها إلا الله، وتطورت هذه المكتسبات وهي بين أحضان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانت أقرب الناس إليه، فحصلت بذلك على أسباب حسن التلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلمه النظري والتطبيقي، تعلمت كيف تستقل برأيها عندما يتعلق الأمر بإرضاء الله عز وجل، فلقد رفضت أن تستشير أبويها عندما عرض عليها الاختيار بين الحياة الدنيا وزينتها وبين الله [ ص: 195 ] ورسـوله والدار الآخرة، ولم يعتـرض المصطفى صلى الله عليه وسلم على رد فعـلها. فعن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أن عائشة قالت: ( لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي، فقال: إني ذاكر لك أمرا، فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك. قالت: قد علم أن أبوي لم يكونا ليأمراني بفراقه. قالت: ثم قال: إن الله عز وجل قال: ( يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا ) (الأحزاب:28 )، قالت: فقلت: في أي هذا أستأمر أبوي، فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. قالت: ثم فعل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت ) [1] .
وتعلمت منه صلى الله عليه وسلم كيف تعبد الله على بصيرة، فلم يمنعها حبها له وطاعتها له صلى الله عليه وسلم من الاستـفسار والنقـاش، فلقد أسهم الرسول صلى الله عليه وسلم بشـكل خاص في تنمية قدراتها العقـلية بدلا من كبتها، فكانت من بين ثمار ذلك الجهـد فيها أنـها لا تأخذ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك العلم بشـكل تقليدي، بل سمح لها -بتكوينه لها- أن تنقل عنه ذلك العلم بشكل دقيق، وساعدها على تمحيص ما تعلمته من مناقشتها له واستفساراتها منه، مثلما تدل عليه بعض الروايات. وعن عـروة بن الزبير عن عائشـة، ( إن أفلح أخا أبي قعيس استأذن علي، فأبيت أن آذن له، فقال: ائذني له. قالت: يا رسول الله إنما أرضعتني المرأة، ولم يرضعني الرجل، قال: ائذني له فإنه عمك تربت يمينك ) [2] . [ ص: 196 ]
وعن عبد الرحمن بن سعيد بن وهب الهمداني أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: ( سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: ( والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة ) (المؤمنون:23-60) ، قالت عائشة: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات ) [3] . وتقول: ( سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله عز وجل: ( يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات ) (إبراهيم:48) ، فأين يكـون النـاس يومئذ يا رسول الله؟ فقال: "على الصراط ) [4] .
يبدو من خلال هذه الروايات أن عائشة كانت تتلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم وتستوعب ما تتعلمه منه بذكاء. وكان دافع هذا التعلم قويا جدا، وهو أن ترضي الله عز وجل أولا، وتعلمت من المصطفى الحكم الشرعي حول علاقتها بالرجل الأجنبي، وحكم أخيها من الرضاعة. فالانقياد الأول كان لله عز وجل حسب فهمها من رسول الله.
( وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سأل عائشة، رضي الله عنها، كيـف كانت صـلاة رسـول الله صلى الله عليه وسلم في رمضـان؟ قالت: ما كان يزيد في رمضان، ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربـع ركعات، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعا، فلا تسأل عن حسنهن [ ص: 197 ] وطولهن، ثم يصلي ثلاثا. فقلت: يا رسول الله تنام قبل أن توتر؟ قال: "تنام عيني ولا ينام قلبي ) [5] .
ويمكن أن نبصر من خلال هذا الحديث أن عائشة، رضي الله عنها، اعتادت على أن تراه يوتر، واقتدت به في ذلك، فلا تريد أن يفوتها ذلك، فقد يرد عليها، فيذكر لها حكما آخر، وتربط بين الأحـكام بشـكل عقلاني. وهنا يتجلى حرصها على التعلم منه بشكل منطقي متسلسل، ويؤكد هذا القول ما قالته عائشة: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يترك العمل، وهو يحب أن يعمله، كراهية أن يستن الناس به؛ فيفرض عليهم، فكان يحب ما خفف عليهم من الفرائض. فهي لاحظت بذكاء الحدود التي يجب التوقف عندها في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم ، والعمل بما سنه، فميزت بين ما يداوم عليه فيعتبر سنة يستن بها، وما لم يداوم عليه ولم يكن مطلوبا.
لقد تخرجت السيدة عائشة، رضي الله عنها، من مدرسة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهي مرباة بتربية رفيعة وعقلية فذة أهلتها لتتحمل مسؤولية وموقعا فعالا في مجتمعها بعد أن توفي عنها النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك في الثامنة عشرة من عمرها. وتجلت بوضوح ثمار جهود المصطفى في تكوينها، وسبب تلك العناية التي حظيت بها. [ ص: 198 ]