المطلب الرابع: أقسام الموازنات:
- الموازنة بين مصلحة ومصلحة:
في حالة تعارض المصالح مع بعضها، يقدم الأهم على المهم، والواجب على المستحب، والضروري على الحاجي والتحسيني، وتقدم مصلحة الجمـاعة على مصلحـة الفرد، والدائمة على العارضة، والمتـأكد منها على المظنونة.
فإذا كان التعارض بين حسنتين لا يمكن الجمع بينهما، تقدم أحسنهما بتفويت المرجوح [1] . يقول الإمام ابن تيمية: "إذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقـدم أوكدهما، لم يكن الآخر في هذه الحالة واجبا، ولم يكن تاركه لأجـل فعل الأوكد تارك واجب في الحقيقة... وإن سـمي ذلك ترك واجب" [2] . [ ص: 147 ]
- الترجيح بمراتب الحكم:
فيقدم الواجب على المستحب، مثل تقديم قضاء الدين المطالب به على صدقة التطوع [3] .
ويقدم فرض العين على فرض الكفاية، كتقديم نفقة الأهل على نفقة الجهاد الذي لم يتعين، وتقديم نفقة الوالدين عليه. [4]
- الترجيح بخصوصية المصلحة وعمومها:
وتقدم المصلحة العامة على الخاصة، نحو مصلحة التسعير، ففي حالة الغلاء المتعمد الناتج عن الاحتكار ونحوه يفرض التسعير، وإن كان فيه ضرر على البائع؛ لأن مصلحته فردية في حين أن مصلحة الناس جماعية [5] .
وكذلك إذا تعارض الجهاد المعين على الحج المتعين، فهنا تعارض بين واجبين، لكن يقدم الجهاد لأن مصلحته متعدية، ويؤكد هذا جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سئل : أي الأعمال أفضل؟ قال: ( إيمان بالله ورسوله ) قيل: ثم ماذا؟ قال: ( ثم جهاد في سبيله ) قيل: ثم ماذا؟ قال: ( ثم حج مبرور ) [6] .
ومن الأمثلة الفقهية كذلك ما استحبه الأئمة من أن يدع الإمام ما هو عنده أفضل، إذا كان فيه تأليف المأمومين، مثل أن يكون عنده فصل الوتر [ ص: 148 ] أفضل، بأن يسلم في الشفع، ثم يصلي ركعة الوتر، وهو يؤم قوما لا يرون إلا وصل الوتر، فإذا لم يمكنه أن يتقدم إلى الأفضل، كانت المصلحة الحاصلة لموافقته لهم بوصل الوتر أرجح من مصلحة فصله... وكذلك لو كان ممن يرى المخافتة بالبسملة أفضل، وكان المأمومون على خلاف رأيه ففعل المفضول عنده لمصلحة الموافقة والتأليف التي هي راجحة على مصلحة تلك الفضيلة كان جائزا حسنا [7] . وهذا كله يرجع إلى أصل جامع، وهو أن المفضول قد يصير فاضلا لمصلحة راجحة [8] ، فمن فعل المرجوح فقد فعل جائزا، وقد يكون فعل المرجوح أرجح للمصلحة الراجحة، كما يكون ترك الراجح أرجح أحيانا لمصلحة راجحة. [9]
- ترجيح الأنفع للفرد:
إذا تعارضت مصلحتان بالنسبة للفرد الواحد رجح أنفعهما له "فالشخص الواحد يتنوع حاله، ولكن خير الأعمال ما كان لله أطوع ولصاحبه أنفع، وقد يكون ذلك أيسر العملين، وقد يكون أشدهما، فليس كل شديد فاضلا ولا كل يسير مفضولا" [10] ، فالمفضول قد يكون أفضل لبعض الناس لأن انتفاعه به أتم [11] . [ ص: 149 ]
فإذا كان شخـص يحفـظ القرآن وهو محتاج إلى تعلم غيره، فتعلمه لما يحتاج إليه أفضل من تكرار التـلاوة التي لا يحتاج إلى تكرارها، وكذلك إذا كان حفظ من القرآن ما يكفيه وهو محتاج إلى علم آخر.
وكذلك إذا كان قد حفظ القرآن، أو بعضه، وهو لا يفهم معانيه، فتعلمه لما يفهمه من معاني القرآن أفضل من تلاوة ما لا يفهم معانيه [12] .
وقد يكون العبد عاجزا عن العمل الأفضل، إما عاجزا عن أصله، كمن لا يحفظ القرآن ولا يستطيع حفظه، أو عاجزا عن فعله على وجه الكمال مع قدرته على فعل المفضول على وجه الكمال... فليس كل ما كان أفضل يشرع لكل أحد، بل كل واحد يشرع له أن يفعل ما هو أفضل له.
فمن الناس من تكون الصدقة أفضل له من الصيام وبالعكس، وإن كان جنس الصدقة أفضل، ومن الناس من يكون الحج أفضل له من الجهاد كالنساء، وكمن يعجز عن الجهاد، وإن كان جنس الجهاد أفضل [13] .
وهنا يجب التمييز بين الأفضلية والمشقة فليس كل عمل شاق فاضلا وكل عمل غير شـاق مفضـولا، كما أن "الأعمال لا تتفاضل بالكثرة وإنما تتفاضل بما يحصل في القلوب حال العمل" [14] . [ ص: 150 ]
- الترجيح باعتبار فوت المصلحة:
إذا تزاحمت مصلحتان بحيث إذا فعلت إحداهما فاتت الأخرى وكانت إحداهما إذا فاتت لا يقوم غيرها مقامها، وكانت الأخرى إذا فاتت يقوم غيرها مقامها بدلا عنها، فإننا نحصل المصلحة التي تفوت إلى غير بدل ونهمل التي تفوت إلى بدل تطبيقا لقاعدة إذا دار الأمر بين تفويت أحد الأمرين على وجه يتضمن تحصيل أحدهما، كان تحصيل ما يفوت إلى غير بدل أولى من تحصيل ما يقوم بدله مقامه" [15] .
وإذا تزاحمت مصلحتان إحداهما تفوت والأخرى لا تفوت، قدمت التي تفوت على التي لا تفوت " كما تقدم إجابة المؤذن على الصلاة والقراءة، لأن هذا يفوت وذلك لا يفوت، وكما إذا اجتمعت صلاة الكسوف وغيرها، قدم ما يخاف فواته" لأن ما يخشى فوته لا يمكن تداركه بخلاف الآخر، فكان ذلك جمعا للمصلحتين [16] .
- الموازنة بين مفسدة ومفسدة:
إذا وقع التعارض بين سيئتين لا يمكن الخلو منهما فيدفع أسوأهما باحتمال أدناهما [17] ، لذلك يقرر الإمام ابن تيمية وجوب "دفع أعظم [ ص: 151 ] الفسادين باحتمال أدناهما" [18] ، فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا دفع أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين [19] ، لذلك فما لم يمكن إزالته من الشر يخفف بحسب الإمكان [20] فلم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرما في الحقيقة، وإن سمي هذا فعل محرم باعتبار الإطلاق لم يضر [21] .
ومن أدلة وجوب اختيار الأخف والأهون من المفاسد، الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم عن سلمان بن ربيعة، رضي الله عنه، قال: قال عمر، رضي الله عنه: قسم النبي صلى الله عليه وسلم قسما فقلت: يارسول الله، والله لغير هؤلاء أحق به منهم فقال: ( إنهم خيروني أن يسألوني بالفحش أو يبخلوني، فلست بباخل ) [22] يقول الإمام ابن تيمية: "إنهم يسألوني مسألة لا تصلح، فإن أعطيتهم وإلا قالو: هو بخيل، فقد خيروني بين أمرين مكرهين لا يتركوني من أحدهما: الفاحشة والتبخيل. والتبخيل أشد، فأدفع الأشد بإعطائهم" [23] .
وكذلك ما روي عن ابن مسعود وابن عباس، رضي الله عنهم: "لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أحلف بغيره صادقا"، فالحلف بغير الله شـرك، والشـرك أعظم من الكذب [24] ، فقد رجـح مصلحة التوحيد [ ص: 152 ] على مصلحة الصدق وفضل درء مفسدة الشرك على درء مفسدة الكذب؛ لأن مصلحة التوحيد أهم من مصلحة الصدق، ومفسدة الشرك أسوأ من مفسدة الكذب [25] .
ويشهد لهذا كذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم فقد "كان صلى الله عليه وسلم وأصحابه يفرحون بانتصار الروم والنصارى على المجوس، وكلاهما كافر، لأن أحد الصنفين أقرب إلى الإسلام" [26] .
- تقديم المفسدة المؤقتة على الدائمة:
وذلك نحو تقديـم المرأة المهاجرة لسفر الهجرة بلا محرم على بقائها بدار الحرب، كما فعـلت أم كلثـوم، رضي الله عنها، التي أنزل الله فيها آية الامتحان. ( يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات ) (الممتحنة:10) [27] ، فسفرها -على قول من يشترط المحرم- مفسدة مؤقتة، أما بقاؤها في دار الحرب فدائمة، فوجب الترجيح بأقل الضررين دواما.
دفع أعظم الضررين بتحصيل أدناهما:
إذا تعارضت مفسدتان روعيت أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما.
والشرع أصل لهذه المسألة، فقدم قطع يد السارق ورجم الزاني وجلد الشارب على مضرة السرقة والزنا والشرب، وكذلك سائر العقوبات المأمور [ ص: 153 ] بـها، فإنه أمر بـها مع أنها في الأصل سيئة وفيها ضرر، لدفع ما هو أعظم ضررا منها، وهي جرائمها، إذ لا يمكن دفع هذا الفساد الكبير إلا بهذا الفساد الصغير [28] .
وكذلك لما كثر شرب الخمر واستخف بعض الناس حدها، كان عمر، رضي الله عنه، يضرب فيها ثمانين، وينفي فيها، ويحلق الرأس [29] .
فهنا مفسدتان: مفسدة زيادة العقاب على المذنب، ومفسدة التهاون والتساهل في أمر الله والاستخفاف بحدوده، فاحتملت مفسدة زيادة العقاب على مستحقه - وهي أخف المفسدتين - لتجنب الاستخفاف بشرع الله الذي هو أعظم المفسدتين [30] .
ومن أمثلته كذلك الصلاة خلف الإمام المظهر للبدعة، "فإذا لم يمكن منع المظهر للبدعة والفجور إلا بضرر زائد على ضرر إمامته، لم يجز ذلك، أي لم يجز ترك الصلاة خلفه، بل يصلي خلفه ما لا يمكنه فعلها إلا خلفه، كالجمع والأعياد والجماعة إذا لم يكن هناك إمام غيره، فإن تفويت الجمعة والأعياد والجماعة أعظم فسادا من الاقتداء فيها بإمام فاجر" [31] . [ ص: 154 ]
وكذلك في باب الجهاد وإن كان قتل من لم يقاتل من النساء والصبيان وغيرهم حراما، فمتى احتيج إلى قتال قد يعمهم مثل الرمي بالمنجنيق والتبييت بالليل، جاز ذلك، كما جاءت فيها السنة في حصار الطائف ورميهم بالمنجنيق، وفي أهل الدار من المشركين يبيتون، وهو دفع لفساد الفتنة أيضا بقتل من لا يجوز قصد قتله [32] .
ومن الأمثلة أيضا إذا سقطت بقرة وخيف موتها "فذبحها خير من تركها حتى تموت، وهو نظير خرق صاحب موسى السفينة لينتفع بها أهلها مرقوعة، فإن ذلك خير لهم من ذهابها بالكلية، ومثل هذا لو رأى الرجل مال أخيه المسلم يتلف بمثل هذا فأصلحه بحسب الإمكان، كان مأجورا عليه، وإن نقصت قيمته، فناقص خير من تالف" [33] .
- تخفيف الضرر:
ومن الأمثلة الفقهية إذا كان هناك مال موقوف على الفقراء، ووجد عدد من الفقراء منهم واحد مضطر، فدفع ضرورة هذا الفقير واجب، وإذا لم تندفع ضرورة هذا إلا بنقص كفاية غيره من الفقراء من هذا الوقف من غير ضرورة تحصل لهم تعين ذلك. [ ص: 155 ]
فهنا مفسدتان: الأولى بقاء الحاجة والضرورة لهذا الفقير، والثانية نقص قدر كفاية الفقراء الآخرين، فتسد الحاجة الضرورية لذلك الفقير؛ لأن بقاءها أعظم ضررا من نقص كفاية غيره من الفقراء [34] .
ومن أمثلة تخفيف الضرر إذا كان حاصلا من أعان المظلوم على تخفيف الظلم عنه، أو على أداء المظلمة، فهو وكيل المظلوم، لا وكيل الظالم، بمنـزلة الذي يقرضه، أو الذي يتوكل في حمل المال له إلى الظالم. ومثال ذلك ولي اليتيم والوقف، إذا طلب ظالم منه مالا، فاجتهد في دفع ذلك بمال أقل منه إليه، أو إلى غيره بعد الاجتهاد التام في الدفع فهو محسن، وما على المحسنين من سبيل [35] .
ومن وسائل الترجيح بين المفاسد، الترجيح بمراتب الضروريات الخمس:
- الترجيح بمراتب الضروريات الخمس:
- بين حفظ الدين وحفظ النفس:
إذا تعارضا يقدم حفظ الدين، ويؤصل لهذا ما جاء في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي قصة أصحاب الأخدود، وفيها: أن الغلام أمر بقتل نفسه لأجل مصلحة ظهور الدين، ولهذا جوز الأئمة الأربعة أن ينغمس المسلم في صف الكفار، وإن غلب على ظنه أنهم يقتلونه، إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين، فإذا كان الرجل يفعل ما يعتقد أنه يقتل به لأجل [ ص: 156 ] مصلحة الجهاد، مع أنه قتله نفسه أعظم من قتله لغيره، كان ما يفضي إلى قتل غيره لأجل مصلحة الدين التي لا تحصل إلا بذلك، ودفع ضرر العدو المفسد للدين والدنيا الذي لا يندفع إلا بذلك الأولى [36] ففتنة الكفر أعظم فسادا من فتنة القتل، كما قال تعالى: ( والفتنة أكبر من القتل ) (البقرة: 217) [37] .
- بين حفظ النفس وحفظ النفس:
كما لو أكره رجل رجلا على قتل مسلم معصوم، فإنه لا يجوز له قتله باتفاق المسلمين، وإن أكرهه بالقتل، فإنه ليس حفظ نفسه بقتل ذلك المعصوم أولى من العكس، فليس له أن يظلم غيره فيقتله لئلا يقتل هو [38] .
فقتل المعصوم لا يباح بالإكراه بلا نزاع، لأنه ليس له أن يحيي نفسه بموت ذلك المعصوم وليس ذلك بأولى من العكس، بل طلبه إحياء نفسه بالاعتداء على غيره ظلم محض [39] .
- بين حفظ العقل وحفظ النفس:
مثال ذلك شرب الخمر لدفع الغصة فهو مباح باتفاق [40] ؛ لأن مفسدة فوات النفس أعظم من مفسدة الاغتذاء به [41] . [ ص: 157 ]
ومن أمثلة ذلك أيضا عدم نهي الإمام ابن تيمية التتار عن شرب الخمر، يقول حاكيا عن نفسه: "ولهذا كنت آمر أصحابنا أن لا يمنعوا الخمر عن أعداء المسلمين من التتار والكرج ونحوهم، وأقول: إذا شربوا لم يصدهم ذلك عن ذكر الله وعن الصلاة، بل عن الكفر والفساد في الأرض... فهذا في حق الكفار، ومن الفساق الظلمة من إذا صحا كان في صحوه من ترك الواجبات وإعطاء الناس حقوقهم، ومن فعل المحرمات والاعتداء في النفوس والأموال ما هو أعظم من سكره" [42] . وليس هذا إباحة للخمر والسكر، ولكنه دفع لشر الشرين بأدناهما [43] .
- بين حفظ العقل وحفظ المال:
إذا تعارضـا قـدم حفظ العقـل، ويمثـل لذلك ما ثبت عن عمر ابن الخطاب، رضي الله عنه، أنه أمر بتحريق حانوت كان يباع فيه الخمر لرويشد الثقفي [44] .
- الموازنة بين مصلحة ومفسدة:
يعتبر هذا الباب من أوسع أبواب الموازنات وأهمها لعموم البلوى به، وكثرة الاضطراب فيه، "لا سيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار [ ص: 158 ] النبوة وخلافة النبوة، وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل، ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة، فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الاشتباه والتلازم، فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب وإن تضمن سيئات عظيمة، وأقوام قد ينظرون إلى السيئات فيرجحون الجانب الآخر وإن ترك حسنات عظيمة، والمتوسطون الذين ينظرون الأمرين، قد لا يتبين لهم أو لأكثرهم مقدار المنفعة والمضرة، أو يتبين لهـم فلا يجدون من يعينهم على العمل بالحسنات وترك السيئات، لكون الأهواء قارنت الآراء، ولهذا جاء في الحديث: ( إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات ) [45] .
فإذا تعارضت المصالح والمفاسد أو الحسنات والسيئات أو تزاحمت، فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد، وتعارضت المصالح والمفاسد، فإن ترجيح الأمر والنهي وإن كان متضمنا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسـد أكثر، لم يكن مأمـورا به بل يكون محرما إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته، لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة [46] . [ ص: 159 ]
وترجيح الراجح يكون باعتبار الأغلب، فإن كانت المصلحة أغلب جلبت، وإن كانت المفسدة أغلب درئت، وهذا عين ما فعله الشارع "فإن الشارع حكيم، فإن غلبت [47] مصلحته على مفسدته شرعه، وإن غلبت مفسدته على مصلحته لم يشرعه، بل نهى عنه، كما قال تعالى: ( كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) (البقرة:216) ، وقـال تعالى: ( يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ) (البقرة:219) ولهذا حرمها الله تعالى بعد ذلك [48] .
فالشارع لا يحظر على الإنسان إلا مـا فيه فساد راجح أو محض، فإذا لم يكن فيه فساد، أو كان فساده مغمورا بالمصلحـة لم يحظره أبدا [49] ، فكل ما أمر به الله ورسوله، فمصلحته راجحة على مفسدته، ومنفعته راجحة على المضرة، وإن كرهته النفوس: ( كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ) (البقرة:216) [50] . [ ص: 160 ]
فالمسلم قد يترك المستحب إذا كان في فعله فساد راجح على مصلحته، كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم بناء البيت على قواعد إبراهيم، وقال لعائشة، رضي الله عنها: "لولا أن قومك حديثو عهد بالجاهلية لنقضت الكعبة ولألصقتها بالأرض ولجعلت لها بابين، بابا يدخل الناس منه، وبابا يخرجون منه" [51] ، فترك النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر الذي كان عنده أفضل الأمرين للمعارض الراجح، وهو حدثان عهد قريش بالإسلام، لما في ذلك من التنفير لهم، فكانت المفسدة راجحة على المصلحة [52] .
ومن أمثلة ذلك إذا تعذر إقامة الواجبات من العلم والجهاد وغير ذلك إلا بمن فيه بدعة مضرتها دون مضرة ترك ذلك الواجب، كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدة مرجوحة معه خيرا من العكس [53] .
ومن أمثلة ذلك أيضا، إذا كانت مفسدة بيع الغرر هي كونه مظنة العداوة والبغضاء وأكل الأموال بالباطل، فمعلوم أن هذه المفسدة إذا عارضتها المصلحة الراجحة قدمت عليها... فالحاجة الشديدة يندفع بها يسير الغرر، والشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضتها مصلحة راجحة أبيح المحرم [54] . [ ص: 161 ]
إذا كان لا يتأتى فعل الحسنة الراجحة إلا بسيئة دونها في العقاب، فللمسألة صورتان:
إحداهما: إذا لم يمكن إلا ذلك، فهنا لا يبقى سيئة، فإن ما لا يتم الواجب أو المستحب إلا به فهو واجب أو مستحب. ثم إن كان مفسدته دون تلك المصلحة لم يكن محظورا، كأكل الميتة للمضطر ونحو ذلك من الأمور المحظورة، التي تبيحها الحاجات، كلبس الحرير في البرد، ونحو ذلك..
فإن كثيرا من الناس يستشعر سوء الفعل، ولا ينظر إلى الحاجة المعارضة له، التي يحصل بها من ثواب الحسنة ما يربو على ذلك، بحيث يصير المحظور مندرجا في المحبوب أو يصير مباحا إذا لم يعارضه إلا مجرد الحاجة، كما أن من الأمور المباحة، بل والمأمور بها إيجابا أو استحبابا، ما يعارضها مفسدة راجحة تجعلها محرمة أو مرجوحـة، كالصيام للمريض، وكالطهارة بالماء لمن يخـاف عليـه المـوت، كما قال صلى الله عليه وسلم : " قتلوه قاتلهم الله هلا سألوا إذا لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال" [55] [56] . [ ص: 162 ]