الخاتمة
صدق من قال: علم ابن تيمية لا ساحل له، ولكن شاءت سنة البحوث أن تتوقف عند نقطة معينة. وحسبي في هذه الخاتمة إبراز بعض خلاصات البحث، وهي الآتية:
- جـدة مصطلح التنـزيل الشيء الذي نتج عنه اضطراب مفهومي بين العلمـاء، الأمر الذي يتطـلب جهـدا لبيان معالم هذا المفهوم وإيضاحـه حتى يتميز عن غيره من المصطلحـات التي تطلق على نحو ترادفي، نحو مصطـلح "الفقه التطبيقي"، ومعلوم أنه لا ترادف بين الكلمات بله بين المصطلحات.
- اختيار المركب الإضافي "فقه التنـزيل" بدل "الاجتهاد التنـزيلي" باعتبار أن البحث لا يناقش الجانب الإجرائي بقدر ما اهتم بالجانب التأصيلي المرجعي.
- يعتبر العدل من المفاهيم المحورية في فكر الإمام ابن تيمية، وتعريفه قريب من المراد من تعريف "فقه التنـزيل" إذ اعتبره: وضع الشيء في [ ص: 163 ] موضعه، فكأن فقه التنـزيل هو الكفيل بتحقيق العدل لاهتمامه بوضع الأحكام في مواضعها - محالها - التي وضعت لها.
يتميز الإمام ابن تيمية بفكر مقاصدي وفقه واقعي مما جعل منه رائدا في تنـزيل الأحكام على محالها.
- عرف مفهوم تحقيق المناط طفرة مفهومية عند الإمام ابن تيمية وذلك بإعطائه بعدا تنـزيليا أكثر منه استنباطيا.
- إعلاء الإمام ابن تيمية من قيمة الاجتهاد في تحقيق المناط وجعله متفقا عليه بين العقلاء بله بين العلماء، معتبرا إياه الكفيل بتحقيق ديمومة الشريعة، كما جعله معيارا يتفاضل به الفقهاء.
- تطرق الإمام ابن تيمية في كلامه عن تحقيق المناط بالنسبة للمجتهد إلى نوعين، هما: تحقيق مناط النوع، وتحقيق مناط العين.
- الاختلاف في تحقيق المناط له أثر على اختلاف العلماء، ذلك أن الإمام ابن تيمية يعتبر هذا النوع من الاجتهاد اجتهادا بالرأي، والرأي قابل للخطأ والصواب.
- الجامع بين النظر في الواقع والمتوقع أثناء تنـزيل الأحكام على محالها هو اعتبار المآل.
- وبمقارنة جهد الإمام ابن تيمية التنظيري بالإمام الشاطبي في اعتبار المآل تظهر الريادة الشاطبية في هذا الباب. [ ص: 164 ]
- جاء أصـل اعتبـار المآل لمعالجـة غلو ما يفضـي إليه التطبيق الآلي للنصوص.
- سد الذرائع وسيلة من وسائل منع الفساد وذلك بمنع الطرق المؤدية إليها، والعلاقة بين قاعدة سد الذرائع ومآلات الأفعال هي السببية والمسببية، فالذريعة إذا كانت تؤدي إلى مفسدة أو ضرر سدت، وإذا كانت تؤدي إلى مصلحة أو خير فتحت، فالمآل مسبب والذريعة سبب.
- إعمال قاعدة الحيل، إنما هو إعمال لقاعدة النظر في المآل عينها، والحكم فيها متحد، إذ الأولى فرع عن الثانية، ولايخالف الفرع أصله في حكمه، وإلا ماكان ليصح التفريع، إذ ليس "التحيل" جزئية من عموم أصل النظر في المآل، وإنما هو قاعدة من قواعده المتفرعة عنه، التي بها يتحقق معناه ومناطه في الخارج.
- للإمام ابن تيمية نظرية كاملة في فقه الموازنات، واعتناء كبير به تأصيلا وتفصيلا إلى درجة اعتباره حقيقة ما جاءت به الرسل، وجعل الأمر بأعرف المعروف، والنهي عن أنكر المنكرين، وترجيح أقوى الدليلين عند التزاحم فقه خاصة العلماء في الدين.
- الجهل بفقه الموازنات مظنة للخطأ في التنـزيل، ذلك أن مقتضيات التنـزيل معرفة خير الخيرين، وشر الشرين.
وقد ظهر أثناء البحث مجموعة من القضايا التي تدعو إلى تحقيقها وتعميقها وتدقيقها نحو التحقيق في وجود نظرية متكاملة في فقه التنـزيل [ ص: 165 ] عند الإمام ابن تيمية، ومقارنتها ائتلافا واختلافا واستمدادا بفقه التنـزيل عنـد الإمـام الشاطـبي باعتباره أبرز من بين أبعـاد التنـزيل في الشريعة الإسلامية.
وضرورة ضبط الفقه التنـزيلي باعتباره الخلفية المرجعية والاجتهاد التنـزيلي باعتباره الجانب الاجرائي حتى يقع العدل المرجو، وفي الأخير توجيه الجهود صوب الاجتهاد التنـزيلي كما تتوجه نحو الاجتهاد الاستنباطي.
هذا وما كان من صـواب فمن الله وحـده، وما كان من خطأ فمني ومن الشيطـان، والله بريء منه ورسـوله، وآخر دعـوانا أن الحمد لله رب العالمين. [ ص: 166 ]