ثالثا: عناية عمر رضي الله عنه بالقرآن الكريم:
عرف عمر رضي الله عنه ببصيرته الثاقبة، ما جعله يعد للأمور عدتها وليضع كل شيء في نصابه، ويهيء الرجال والحلول للمعضلات التي قد تطرأ على حال الأمة وعلى دينها، ومن ذلك ما يتعلق بجمع القرآن الكريم، ومع أن الأمر تم في غير خلافته، إلا أنه كان هو المحرك للأمر. فقد أشار على أبي بكر رضي الله عنه بجمع كتاب الله العزيز في حيز واحد بعدما رأى كثرة من استشهد من أهل القرآن في معركة اليمامة، فخشي إن تكرر ذلك في أماكن ومناسبات أخرى أن يذهب كثير من القرآن. فاقتنع أبو بكر رضي الله عنه بالأمر، فتم تكليف زيد بن ثابت رضي الله عنه بتتبع كل ما كان مكتوبا من القرآن وما كان في صدور الرجال، ثم أودع ما جمع عند أبي بكر، ثم صار إلى عمر ثم إلى حفصة أم المؤمنين [1] . [ ص: 64 ]
ولما بدأ الناس يتوسعون في كتابة المصحف ونسخه فإنه نبه على أمور تساعد في صحة ما يكتب منها قوله: "لا يملي في مصاحفنا إلا غلمان قريش وثقيف"، لذلك لما أراد بعض الأنصار موافقة عمر رضي الله عنه على كتابتهم المصحف لم يسمح لهم؛ لأن في لسانهم لحن، وخشي أن يحدثوا في القرآن لحنا [2] .
ومن ناحية أخرى، فإن عمر رضي الله عنه شجع الناس في الأمصار على حفظ القرآن وتلاوته وتدبره، إذ أن الإسلام كان لا يزال هناك غضا طريا لم يشتد عوده بعد، فوجد أن من واجبه تحفيز ذلك والحض عليه، فكتب إلى أمراء الأمصار: "ارفعوا إلي كل من حمل القرآن، حتى ألحقهم في شرف العطاء" [3] ، وفي ذلك تعظيم للقرآن ولأصحابه الذين يحفظونه أيضا، فهو بذلك رفع منزلة أهل القرآن إلى منـزلة أهل بيت النبوة، فسواهم بهم في العطاء.
ومن ناحية أخرى، فإنه كان ينبه الناس على ضرورة إخلاص عملهم لله تعالى في قراءتهم للقرآن الكريم وحفظه، وأن لا يكون ذلك رياء وسمعة، فخطب الناس وقال منبها: "يا أيها الناس! قد أتى علي زمان وأنا أرى من قرأ القرآن يريد الله عز وجل وما عنده، فيخيل لي أن أقواما قرأوه يريدون به الناس، ويريدون به الدنيا، ألا فأريدوا الله بأعمالكم" [4] .
وحتى لا تختلط الأمور على الناس وتشتبه عليهم في هذه المرحلة من تاريخ الإسلام، فإنه نهى عن التعاطي مع كتب الآخرين، فقد بلغه أن رجلا [ ص: 65 ] نسخ (كتاب دانيال) فأرسل في طلبه فضربه تأديبا ونهيا عن إتيان ذلك مرة أخرى، ثم قال: إنما هلك من كان قبلكم بأن أقبلوا على كتب علمائهم وأساقفتهم وتركوا التوراة والإنجيل حتى درسا وذهب ما فيهما من العمل [5] .