الفصل الثالث
رعاية مصالح الأمة
أولا: منهج عمر رضي الله عنه في حفظ مصالح الأمة:
لا شك في أن التربع على عرش السلطة، وما يعنيه ذلك من نفوذ وقوة وسطوة وهيمنة، ثم ما يتبع ذلك في النظم - قديمها وحديثها - من حلقات متتابعة من أشخاص وفئات يصرفون جهودهم لإظهار كل معاني الطاعة والولاء والانقياد لشخص الحاكم، فإذا طال العهد على ذلك، تحول الأمر إلى تعظيم، فتقديس، ثم نوع من التأليه الذي قل من يجرؤ على مخالفته، كل ذلك كفيل بتحويل معادلة الحكم المنطقية إلى لامنطقية، إذ يفرض المنطق أن يقوم الواحد - أي الحاكم - على خدمة الجماعة - أي الأمة - فذلك هو المنطق الأخلاقي الرصين، الذي يقوم عليه العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم، غير أن مسار التاريخ يشهد أن هذا المنطق معكوس، إذ تجتهد الجماعة - الأمة - على تلبية حاجات الواحد - الحاكم - وذلك خرق أخلاقي فاضح.
هنا وقف عمر رضي الله عنه بين قلة قليلة من الحكام في التاريخ وضعوا المعادلة في سياقها الأخـلاقي الصحيح. فكل جزئية في سـكناته وحركاته تقول: إن عمر رضي الله عنه اجتهد أن يكون خادما لهذه الأمة ولمصالحها. وإنه تجرد تماما عن تحقيق أية منفعة غير شرعية لنفسه أو لأسرته أو لعشيرته، بل إنه كان في غالب [ ص: 79 ] الأحوال يؤخر هؤلاء، مشددا عليهم في النكير، حزما منه من أن تمتد يد أحدهم إلى مصالح الأمة بوجه غير مشروع؛ لأن فوق الجميع - ببساطة - ربا يسأل عن مثاقيل الذر ويحاسب عليها. لذا فإنه ليس أمام عمر رضي الله عنه -حتى ينجو - إلا أن يضع لنفسه منهجا صارما يبعده عن كل مغريات الحاكم والسلطة والقوة والنفوذ. وكان على رأس هذا المنهج أن يكون زاهدا في رغائب الدنيا وشهواتها. فالزهد حصن حصين يأمن من يدخله من المغريات كلها. فلما دخل عمر رضي الله عنه هذا الحصن، اجتهد كثيرا أن لا يثلم ذلك أحد من أهله وعشيرته فيفسد عليه ما قرره لنفسه، فيكون ذلك خط الحماية الثاني - بعد الزهد - الذي يقي الحاكم من خيانة الأمانة.
وهنا قرر عمر رضي الله عنه حقيقة دوره "إني والله لأكون كالسراج، يحرق نفسه ويضيء للناس" [1] ، بما يعني أنه قرر أن يصرف كل جهده وقوته ووقته وتفكيره لتحقيق مصالح الأمة في كل جوانبها، من دون أن يجد في ذلك مغنما له. ثم إن عمر رضي الله عنه وجد في نفسه قوة وقدرة وكفاءة لخدمة أمته، ثقة بما عنده وليس غرورا: "أيها الناس! إني قد وليت عليكم، ولولا رجاء أن أكون خيركم لكم، وأقواكم عليكم، وأشدكم استصلاحا بما ينوب من مهم أموركم، ما توليت ذلك منكم..." [2] .
وكان في منهج عمر رضي الله عنه أيضا أن لا يدخر وسعا في متابعة أمر الرعية، ولم يقتصر ذلك على الرعية في العاصمة، بل شملت مسؤوليته متابعة أحوالها [ ص: 80 ] ومصالحها وحقوقها في الأقاليم أيضا، إما بالسؤال والمكاتبة، أو بالسفر مباشرة إلى هناك للمتابعة الميدانية. وكان من ذلك كتابه إلى أبي موسى الأشعري، يوصيه بوجوه القوم في ناحيته، وأن يتعهدهم بالرعاية والإكرام، فإن هؤلاء يرفعون حوائج الناس إلى الولاة والعمال [3] .
وكتب إلى عماله أن يبعثوا إليه برجال يعرفون بالشدة والجلد والصدق والجرأة، ليسأل كلا منهم عن أحوال الرعية في ناحيته [4] ، ثم قرر أن يكون أكثر عمقا في المتابعة: "لئن عشت - إن شاء الله - لأسيرن في الرعية حولا، فإني أعلم أن للناس حوائج تقطع دوني، أما عمالهم فلا يرفعونها إلي، وأما هم فلا يصلون إلي، فأسير إلى الشام فأقيم بـها شهرين، ثم أسير إلى الجزيرة فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى الكوفة فأقيم بـها شهرين، ثم أسير إلى البصرة فأقيم بها شهرين، والله لنعم الحول هذا!" [5] ؛ ويكشف هذا أن ثم هاجسا كان يقلقه على الدوام، أن الناس في الأطراف لا ينالون منه الرعاية التي ينالها الناس في الحاضرة، لذلك عزم أن يرحل إليهم بنفسه، فقصد الشام أكثر من مرة، إلا أن المنية لم تسنح له أن ينفذ برنامجه هذا بالكامل.
كان عمر رضي الله عنه يدرب نفسه دوما على رهافة الحس، فكان إذا بلغه أن الغلاء قد حل بناحية من النواحي، جعل عيشه كعيشهم ويقول: "كيف [ ص: 81 ] يكونون مني على بال إذا لم يمسني ما يمسهم!!" [6] ، استشعارا منه بحال الناس هناك حتى ينصلح حالهم فيعود هو أيضا إلى حاله وعيشه المعهود عنه.
وخص اليتامى بجانب من وقته، فكان يخرج إليهم ويزورهم، يشرف على أموالهم ويتفقد مصالحهم [7] ؛ كما خص الغرماء - الذين ثقلت عليهم ديونهم - بعنايته، إذ كان يخرج مناديه فينادي: إنه من كان له على فلان دين، فليأتنا بالغداة [8] ، بغية أن يقضي عن المدينين ديونهم. ووجده الأحنف بن قيس يباشر إبل الصدقة بنفسه، فقال له: يا أمير المؤمنين! فهلا تأمر عبدا من عبيد الصدقة فيكفيك؟ فقال عمر: "وأي عبد هو أعبد مني ومن الأحنف؟! إنه من ولي أمر المسلمين يجب عليه لهم ما يجب على العبد لسيده من النصيحة وأداء الأمانة" [9] .
ولما لم يكن هناك جهاز للشرطة والأمن بعد، وجد عمر رضي الله عنه أن من اللازم أن يقوم بهذا الدور بنفسه عند الحاجة، تحملا منه لأعباء مسؤولية الحفاظ على مصالح الناس، فكان يخرج ليلا، مصطحبا أحد الصحابة معه، يعس المدينة ويحرسها من عابث أو لص، أو ربما صاحب حاجة فيلبي له حاجته [10] .
ورب قائل يقول: هل هذه هي واجبات الخليفة؟ ألا ينبغي له أن يصرف همه نحو ما هو أكبر من ذلك؟ ألا يعبر موقف عمر رضي الله عنه عن تبسيط للأمور في [ ص: 82 ] الرؤية والتفكير؟ في الحقيقة فإن الحيثيات، التي جعلت عمر رضي الله عنه يباشر مثل هذه الأمور بنفسه تتمثل في الجوانب الآتية:
1- استشعاره عمق المسؤولية الملقاة على عاتقه، فالحاكم ليس رجلا متسلطا على الأمة يتنعم بصلاحيات ونفوذ لا حدود لها، بل إن العبء الذي يتحمله لا يتيح له - في الحقيقة - أن يتنعم بملاذ السلطة، إن كان صادقا في حمل الأمانة.
2- إن الدولة لم تكن قد تبلورت فيها المؤسسات والتفاصيل، التي تعين على متابعة كل هـذه الواجبات والمهـام، مع أن وجود مثل هذه المؤسسات لا يعفي الخليفة من عبء متابعتها من أجل الاطمئنان على سلامة العمل.
3- ثم إنه أراد بذلك أن يكون القدوة والأسوة لمن هو دونه في المسؤولية ليقتدوا به في عملهم وإدارتهم لشؤون الأمة ومصالحها، كما إنه ليس أحسن من التدريب العملي ليدرك هؤلاء ما يترتب عليهم عمله تجاه الأمة.