بينت سابقا أن من مقاصد الشريعة أن تكون مرهوبة الجانب نافذة أحكامها في الأمة، وقد فصلت القول في بيان وسائل وضمانات الرهبة، وآن لي أن أكمل بيان ضمانات نفوذها في الأمة، وهو بلا شك يتعلق بإجراءات المحاكمة وأطوارها.
وبادئ ذي بدء أقول: إذا كانت الغاية من القضاء، هي إقرار العدل في المجتمع تصديقا لقوله تعالى: ( وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) (النساء:58)، فإن أولى ضمانات العدل أن يكون المتصدي للقضاء والفصل بين الناس في حالة نفسية تسمح له أن يفهم وقائع القضية المطروحة أمامه، وسنصطلح عليها هنا بلفظ "الاعتدال"، ومعلوم أن العدل مأخوذ من الاعتدال [1] ، وترادفت الكلمتان في المنطوق والمضمون [2] .
وأما الضمانة الأخرى للعدل في هذا المستوى فهي المساواة، وسأعود إليها بالبيان والتحليل في العنصر الثاني من هذا المطلب. [ ص: 104 ]
أولا: الاعتدال:
الاعتدال توسط يدخل في مقومات الفضائل، وهو أحسن الدرجات، وإنما وجب له ذلك، لأن الاعتدال أن ينتظر إشارة العقل والدين، فينبعث حيث تجب الحمية وينطفئ حيث يحسن الحلم، وهو الوسط الذي كلف الله به عباده، وهو الصراط المستقيم، فإن عجز فليطلب القرب منه، إذ بعض الشر أهون من بعض وبعض الخير أرفع من بعض [3] ، وهو من الأوصاف التي امتدح الله بها المؤمنين: ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) (البقرة:143).
والفضائل التي تندرج تحت هذا العنوان عديدة، وقد سبقت الإشارة إلى بعضها في مطلب الاستقامة، وعلى هذا الأساس سأقتصر هنا على بيان ضمانات العدل المتفرعة عن الاعتدال في ترويض القوتين الشهوية والغضبية.
لا مراء أن الشريعة الإسلامية وهي بصدد وضعها للمبادئ والأسس التي تضمن بها تحقيق العدالة بين المتخاصمين، قد وضعت نصب عينيها الحالة النفسية التي ينبغي أن يكون عليها القاضي، باعتبار أن الحالة النفسية للشخص، لها تأثيرات على أفعاله وتصرفاته، ومآلها أن لا يتصدى القاضي للقضاء إذا تشوش ذهنه بعارض يمنعه من صفاء التفكير وسلامة الفهم والإدراك ووضع الحق في نصابه، كالهم والحزن والجوع والنعاس والغضب وما أشبه ذلك، [ ص: 105 ] والأصل في كل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان ) [4] ، وذلك لما قد يفوت الغضب عليه من مقاصد الحق بما يتضمنه من اختباط العقل وما يعتريه من الدهشة المانعة من استيفاء الفكر، وبما يفوته عليه من استحضار كثير من مستلزمات الحكم، فلا يستحضر مع الغضب ما يستحضره وهو في حالته الطبيعية من هدوء وطمأنينة، وفيه توجيه القضاة إلى استشعار الحلم والصبر، ودفع بوادر الغضب ما استطاعوا وتوطين أنفسهم على ما يسمعون من ملاحـاة الخصـوم، كي لا يدخـلوا معهم فيما يلامـون عليه من قول أو فعل [5] ، وفي هذا المعـنى جـاء قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه : "إياك والغضب والضجر والتأذي بالناس والتنكر عند الخصوم" [6] .
فينبغي للقاضي إذن أن يعود نفسه على الصبر وعدم الضجر، والتحلي بصفات الهدوء والاتزان والحلم والاعتدال ليقدر على الاجتهاد في النوازل، ويحترس من الزلل في الأحكام، فإن تغيرت حاله بغضب أو حرد تغير فيها عقله وخلقه توقف عن الحكم احترازا من الزلل الموقع في الجور [7] . [ ص: 106 ]
والغضب لا يخلو، إما أن يناط تحريم القضاء به لعينه، أو يناط بما يتضمنه من دهشة وضعف نظر، وتعليله بعينه تحكم محض لا مناسبة فيه [8] ، وإضافته إلى ما يتضمنه مناسب [9] لتصرفات الشرع ورعايته مصالح الخلق [10] ، وهو من باب "تخريج المناط" [11] .
وإن هذا جار مجرى التنبيه بالشيء على ما في معناه، وهو ما يعبر عنه الأصوليون "فحوى الخطاب" [12] ، وإن المراد بذكر الغضب هاهنا العبارة عن كل [ ص: 107 ] حال تقطع الحاكم عن السداد وتمنع من استيفاء الاجتهاد، كالشبع المفرط الموقع في القلق وجمود الفهم، وكالجوع المفرط المؤدي إلى موت الحس وانحلال الذهن، وكالروع العظيم المشغل للنفس المغير للحس، وكالحزن الشديد المؤدي إلى نحو ذلك مما يطول تعداده، وإنما نبه على الغضب لأنه أكثر ما يعرض للحاكم، لأنه لا بد منه مع مراجعة العوام أن تقع منهم الهفوة وتسمع منهم الجفوة [13] .
وعد الفقهاء من جملة آداب القاضي: أن لا يجلس على حال تشويش من جوع أو غضب أو هم أو حال تضيق فيها نفسـه وينشغل باله وينقسم قلبه، أو يدهش عن تمام الفكر، فإن الغضب يسرع مع تمام الجوع، والفهـم ينطفئ مع إفراط الشبع، والقلب ينشغل مع غلبة الهم، فمهما عرض له ذلك أو لحقه حال تغير فيها عقله أو خلقه أو فهمه، لم يجلس للقضاء حتى يعود إلى سكون نفسه وكمال عقله وهـدوء طبعه وظهور فهمه [14] ، وكل حالة منعته من استيفاء حجج الخصوم كما يمنعـه الغضب كان له حكمه في المنع من ذلك [15] . فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يقضي القاضي إلا وهو شبعان ريان ) [16] . [ ص: 108 ]
قال مالك: "يكره للقاضي إن دخله هم أو نعاس أو ضجر أن يقضي حينئذ" [17] ، وفي كتاب ابن المواز: ولا أحب أن يخرج إلى الناس وهو جائع من غير أن يشبع جدا، يريد لا يكون بطينا، لأن الجائع يسرع إليه الغضب والبطين يكون بطيئا [18] .
ولما نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل وهو يدافع الأخبثين، والصلاة لا تحتاج من الاجتهاد إلى ما يحتاج إليه في الأحكام، فكان منع الأخبثين من القضاء أولى، وكان الشعبي (تـ104هـ/ 722م) يأكل قبل الفجر فقيل له في ذلك، فقال آخذ حكمي ثم أخرج فأقضي بين الناس.
قال الشـافعي: والحاكم أعلم بنفسه، فأي حال أتت عليه تغير بها عقله أو خلقه انبغى له أن لا يقضي حتى تذهب [19] .
والمقصود من هذا كله أن يكون القاضي حال القضاء على اعتدال واستقامة فكر، فيتجنب القضاء عند حصول ما هو مظنة للخطأ في الأحكام، وهذا المبدأ من مبادئ الإسلام التي ينبغي أن يلحظه القاضي بعين الاعتبار، فهو أدعى إلى تحري الحق والعدل بين الخصوم.
جاء في شرح "تحفة الحكام" لابن الناظم (تـ829هـ/1425م): "وثالثها حاله التي يكون عليها، والذي ينبغي له أن يكون على حالة الاعتدال، ولا يكون على حالة تشوش فهمه أو تشغب ذهنه من غضب ونحوه لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان ) . [ ص: 109 ]
ويلحق بالغضب كل ما يشغل الفكر ويشوش عن استيفاء النظر وتأمل الحجج من الجوع والعطش المفرطـين والنوم والكسل والحزن، وما أشبه ذلك مما يدخل على القلب داخلة تمنعه من إقامة العدل والنظر في الأمور بالحق [20] .
والحكمة في ذكر الغضب من بين سائر الدواعي التي تشغل الخاطر وتشوش النفس والرأي، أنه يستولي على النفس ويصعب مقاومته بشتى السبل والوسائل، فهو أشد من غيره، وقيس عليه ما كان مثله من كل ما هو مشغل من إفراغ الوسع في التفكير الموصل إلى الصواب في الحكم.
قال ابن العربي: "الفائدة في خصيصة الغضب من بين سائر النظائر التي ذكرناها أنه أعظمها بأسا وأكثرها تفويتا لفائدة القلب من التحصيل للعلم، فإنه قطعة من النار وأعظم جند الشيطان" [21] .
بل ذهب بعضهم إلى أنه ليس عليه أن يتعب نفسه فيقضي النهار كله، لأن ذلك يدخل عليه الضجر، فيمنع كمال الفهم وصحة التفكر ويقطعه عن استيفاء حجج الخصوم، فلا يؤمن معه الزلل، ولا أن يقضي ماشيا للعلة ذاتها [22] ، قال مالك: "ولا ينبغي للقاضي أن يكثر ويتعب نفسه من طول الجلوس، إذا يخلط" [23] .
وقد عد بعض الفقهاء الحر الشديد والبرد الشديد المانعين من تمام القصد، موجبان تجنب القضاء خوف مجانبة الحق، واختار بعضهم أن لا يجلس القاضي [ ص: 110 ] للحكم إلا إذا استوفى حظه من النوم والدعة وقضى وطره من الجماع حتى يغض بصره عن الحرام [24] ، وعلى هذا إذا قضى القاضي في أي حال من الأحوال التي مضى بيانها، هل ينفذ الحكم إذا وافق الحق؟
اختلف الفقهاء في ذلك فمنهم من حمل المنع في الحديث المتقدم على التحريم، فأبطل القضاء لأجل ضمان عدالة القضاء، وما ذاك إلا لأن الغضب مظنة الخطأ في الحكم، ومنهم من أمضاه وهم جمهور الفقهاء، وحملوا النهي على الكراهة [25] ، وهذا متفق مع القواعد من أجل ضمان استقرار الأحكام، حتى لا يتخذ الغضب وسيلة إلى الطعن في الأحكام.
ومدرك الفقهاء في هذا قضاء النبي صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة [26] ، وذلك أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير بن العوام رضي الله عنه في ماء ينزل من شراج الحرة بالمدينة يسقي منه كلاهما، وكان الزبير أقرب إلى الماء، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يسقي ثم يرسل الماء. فقال الأنصاري: أن كان -أي الزبير- ابن عمتك، فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ( اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى [ ص: 111 ] الجدر ) [27] ، فكان في الحكم الأول استنزل فيه الزبير عن كمال حقه، ثم وفاه في الحكم الثاني، وقد أمضاه في غضبه، فدل على نفوذ حكمه [28] .
والملاحظ أن القوانين الوضعية لم تشر إلى هذه الأحكام، وهو ما يعني ريادة الفقه الإسلامي وتفرده في توفير كل الضمانات التي تحمي مبادئ العدالة، ولا غرو فإن هذا الحرص التشريعي على تجنيب القضاة مثل هذه الأحوال ليعتبر ضمانة مهمة في لبنة عدالة القضاء الإسلامي.
ثانيا: المساواة:
تعتبر المساواة أصلا تشريعيا وقاعدة كلية، وإحدى ضمانات العدالة القضائية [29] ، وقد مر بنا غير بعيد بيان جانب منها في مجال وجوب تكافؤ فرص تعيين القضاة، ونستكمل هنا بعض الجوانب الأخرى المتعلقة بهذا الأصل.
وبادئ ذي بدء أقول: إن اهتمـام الإسـلام بمبدأ المساواة بين الخصوم لم يقتصر على جانب وقت سماع الدعوى فقط، كما هو الحال في القوانين الوضعية، ولكن المساواة تكون حتى قبل سماع الدعوى [30] .
هذا الأمر يدفعني إلى القول: إن المساواة في التشريع الإسلامي من الأهمية بمكان، وفي القضاء على وجه الخصوص أحد أهم أسس العدالة، وقاعدة تبنى [ ص: 112 ] عليها أصول إجراءات المحاكمات الحقوقية، ذلك أن هذا المبدأ يطمئن نفوس المتقاضين الطالبين للعدالة، ويجعلهم واثقين بأن قضاياهم في مأمن من الحيف، كما أنه يعطيهم ضمانات تحفظ دماءهم وأعراضهم وأموالهم من الاعتداء. وبهذا يكون القضاء قد اكتسب هيبة وقوة واحتراما في نفوس الناس.
ذكر بعضهم أن رجلا نزل بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فمكث عنده أياما ثم تقدم إليه في خصومة لم يذكرها له، فقال له: أخصم أنت؟ قال: نعم، فقال له: تحول عنا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يضاف خصم إلا ومعه خصمه [31] .
وعليه فينبغي للقاضي أن لا يدخل عليه أحد الخصمين دون صاحبه، لا في مجلس قضائه ولا في خلوته لا وحده ولا في جماعة، وإن كان الذي بينهما خاصا، إلا أن يجلس خارجا في مجلسه الذي يجلس الناس معه فيه في غير مجلس قضائه فلا بأس أن يجلس أحد الخصمين فيه إن شاء.
ولا ينبغي أن يضيف أحـدهما أو يخـلو معه أو يقف معـه، فإن ذلك مما يدخل عليه سوء الظن، ولا ينبغي أن يجيب أحد الخصمين في غيبة الآخر [32] .
وإجمالا فإن "الحاكم مأمور بالعدل والإنصاف بين المتحاكمين، فيسوي بينهما في الإذن بالدخول عليه معا ولا يفرد أحدهما به" [33] .
ومن التسوية ألا يخص أحدهما بالقيام، والأولى ألا يقوم لهما جميعا، إذ قد يكون أحدهما شريفا والآخر وضيعا، فإذا قام لهما علم الوضيع أن قيامه [ ص: 113 ] للشريف، وكذلك يعلمه الشريف، فيزداد تيها، ويزداد الوضيع كسرا، فترك القيام لهما أقرب إلى العدل، وأنفى للتهم، وعلى هذا مضت سير الحكام الماضين [34] ، فإن قام القاضي لأحدهما ظنا أنه لم يأت محاكما، فإما أن يقوم لخصمه كقيامه له جبرا لما فعله، أو يعتذر إليه بأنه قام له ولم يشعر بمجيئه مخاصما [35] .
والمساواة بين الخصوم تقتضي إجمالا عدم التمييز بينهم أثناء جلوسهم بين يديه، وذلك كالمقعد واللحظ والإشارة ورفع الصوت على أحدهما دون الآخر، ولا يقرب أحدهما إليه ولا يقبل عليه دون خصمه ولا يميل إلى أحدهما بالسلام ولا بالترحيب ولا يرفع مجلسه ولا يسأله عن حاله ولا عن خبره ولا عن شيء من أمورهما في مجلسه، لأن ذلك يشعر بعناية القاضي به، والتفرقة في هذه الأمور وما شاكلها تعتبر في نظر الإسـلام ظلما فادحا وجورا كبيرا، إذ تترك في نفس الخصم الذي لم يحظ بـها الآثار النفسية، وتخلق في أعماقه حرجا معنويا عميقا يعسر مداواته، حيث يشعر بالإهانة في الوقت الذي يتمتع فيه خصمه بالتكريم [36] ، وهي إلى ذلك تهون منصب القضاء وتذهب حرمته من [ ص: 114 ] النفوس، وتجرئ الخصوم على القاضي وتطمعهم فيه؛ وما جر إلى التهاون بحدود الله فهو ممنوع.
جاء في "تنبيه الحكام" لابن المناصف (تـ620هـ/1223م) ما نصه: "وإذا حضر الخصوم أمامه، فعليه أن يساوي بين المتنازعين في جميع أحواله من النظر إليهما، والتسليم عليهما، والتكلم معهما، ولا يزيد أحدهما فضيلة على الآخر في تسليم يرده أو ترجيح يخصه، أو بشاشة وجه، فإن ذلك مما يوهن جانب خصمه، ويضعف نفسه عن مقاومته" [37] ، ولأن في تقديم أحد الخصمين موجب لإيغار صدر الآخر وحقده، ومن العدل اجتناب إيغار الصدور [38] .
وفي هذا المعنى يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ( من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لفظه وإشارته ومقعده ) [39] ، وفي رواية: "فليسو بينهم في النظر والمجلس والإشارة" [40] .
ولعل ورود لفظتي "فليعدل" و"فليسو" في نفس السياق، دفع بعضهم إلى القول: إن المقصود بالعدالة في القضاء الإسلامي التسوية بين المتخاصمين في كل شيء حتى في الأمور التي قد يبدو للبعض أن عدم التسوية فيها هين ويسير ولا يترتب عليه مخاطر كبيرة [41] . [ ص: 115 ]
من ذلك أن أبا خرشة المرادي كان صديقا للقاضي أبي خزيمة، وكان قد خوصم إليه في جدار. فمر به يوما فسلم عليه فلم يرد عليه، فلما سئل عن ذلك قال: ما كان ذلك إلا أن خصمك خفت أن يرى سلامي عليك فيكسره ذلك عن بعض حجته [42] .
والواقع أن المساواة صورة من العدل الذي يتعين على القاضي الالتزام به، فالقوي المعتدي على حق الآخرين ضعيف في نظر الإسلام حتى يؤخذ الحق منه، والضعيف قوي حتى يؤخذ الحق له، وهذا لأن في القضاء بالحق إظهار للعدل ورفع للظلم، وإنصاف المظلوم من الظالم وإيصال الحق إلى المستحق، وهو ما يدعو إليه عقل كل عاقل.
جاء في رسالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه : "آس
[43] بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك" [44] ، ومخالفة ذلك يوهم الخصم الآخر ميل القاضي إلى خصمه فيضعفه عن القيام بحجته [45] . [ ص: 116 ]
قال ابن خـلدون: "يأذن القـاضي في إحضار الخصوم غير مسامح لنفسه بفلتة لسان أو لفتة ناظر أو حركة خاطر حتى يكونوا عنده في الحق سواء، ولا يأخذه في الله لومة لائم" [46] .
ومن هذا ما يروى أن الأشعث بن قيس دخل على شريح القاضي في مجلس الحكومة، فقال له شريح: مرحبا وأهلا بشيخنا وسيدنا وأجلسه معه، فبينما هو جالس معه، إذ دخل رجل يتظلم من الأشعث، فقال له شريح: قم فاجلس مجلس الخصم وكلم صاحبك، قال: بل أكلمه في مجلسي، فقال له: لتقومن أو لآمرن من يقيمك، فقام امتثالا لأمر القاضي [47] .
بل إن المساواة في مجلس القضاء في الشريعة الإسلامية لتذهب إلى أبعد من ذلك، فلا ينبغي للقاضي أن يكني في الخصومة أحدا دون صاحبه، من ذلك أن رجلا ادعى على علي بن أبي طالب عند عمر بن الخطاب، رضي الله عنهما، وعلي جالس، فالتفت إليه عمر وقال: يا أبا الحسن، قم فاجلس مع خصمك، فقام فجلس مع خصمه متنـاظرا، وانصرف الرجل ورجع علي إلى مجلسه، فتبين لعمر التغيير في وجه علي، فقال: يا أبا الحسن، مالي أراك متغيرا؟ أكرهت ما كان؟ قال: نعـم، قال: وما ذاك؟ قال: كنيتني بحضرة خصمي، هلا قلت: يا علي قم فاجلس مع خصمك [48] .
هكذا نرى أن مفهوم (العدل/المساواة) في القضاء في الإسلام لا يتعلق بجانب دون آخر، بل هو مفهوم عام يشمل كل الأطر الشكلية والظروف [ ص: 117 ] النفسية للمتخاصمين، ويحرص أن تطبق مبادئه في الجزئيات قبل الكليات، بناء على أن الأصل في التشريع التسوية بين المسلمين، "فإذا علمنا أن المسلمين سواء بأصل الخلقة واتحاد الدين تحققنا أنهم أحقاء بالتساوي في تعلق خطاب الشريعة بهم، لا يؤثر على ذلك التساوي مؤثر من قوة أو ضعف، فلا تكون عزة العزيز زائدة له من آثار التشريع ولا ضعف الذليل حائلا بينه وبين مساواته غيره في آثار التشريع" [49] .
وإن نحن قابلنا المساواة بين المتخاصمين أمام القاضي في الشرع الإسلامي والمساواة بين المتخاصمين في القانون الوضعي، ألفيناه يرى أن المساواة في هذا المستوى لا تعدو أن تكون مسألة أخلاقية لا تأثير لها على تحقيق العدل، وهي مسألة نظرية لا تحقق لها في الواقع.
ومن قواعد أصول المحاكمة التي تستوجبها المساواة ويقتضيها العدل، واجب القاضي أن يسمع طرفي الخصومة [50] لقوله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن قاضيا: ( فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء ) [51] ، فلا ينبغي للقاضي إذا جلس الخصمان بين يديه أن يشغل نفسه عنهما بشيء، بل يجعل فهمه وسمعه وبصره احتجاجهما [52] . [ ص: 118 ]
والواقع أن الفهم الصحيح لمجريات المحاكمة، يجلي للقاضي كثيرا من قضايا الخصومة ومغالطات الخصوم، وهو أساس إصابة الحق، وهذا الذي عناه عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال: "فافهم إذا أدلي إليك"، وأكده ابن القيم الجوزية بقوله: "إن صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله، التي أنعم الله بها على عبده" [53] .
وينبغي للقاضي إلى ذلك أن يشتد حتى يستنصف الحق، ولا يدع من الحق شيئا ويلين في غير ضعف، قال أشهب: "حيث ينبغي ذلك لغير ترك شيء من الحق، وينبغي له أن يعتذر إلى كل من يخاف أن يقع في نفسه منه شيء، ويبين ويقيس حتى يقوم الخصم وقد علم أنه فهم عنه حجته" [54] .
وقد جمع بعضهم هذا فقال: تأملتهم إذ غالطونـي بمكرهم
فلم ألق فيهم غيـر نذل مـوارب [الطويل] فقل مستطيلا في مرادك ناطـقا
بألسن أسياف قواض قواضـب لعمرك إن اللين ليس بنـافع
لديهم وقـد ميزتـهم بتجـاربـي ففي الروع لا يغني اليراع
[55] عن القنا ولا الكتب في الهيجاء مثل الكتائب [56] .
وإذا ناظرنا ذلك بما يجري عليه العمل القضائي اليوم، نجد أن لفقهاء الإسلام فضل السبق، فالقاضي حاليا يعهد إليه بدراسة ملف الدعوى دراسة عميقة، ويفهم ما فيها فهما جيدا حتى تستبين له جلية الأمر، مسترشدا في كل ذلك بالمستندات وأقوال الإشهاد، مستعينا بالقرائن والأمـارات والأدلة، حتى إذا ما وصل إلى تحديد مفصل النـزاع، أجرى الحكم عليها وفق ما ترجح لديه، فصحة الفهم طريق إلى الحق، والحق قرين العدل، والعدل في الخصومة هو التسوية، ذكر القرافي تعليقا على قوله تعالى: ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) (النحل:90): "والعدل: التسوية في كل شيء حتى يقوم المخصص، فلا تسمع بينة أحدهما دون الآخر" [57] .
والمخصص هنا لدد [58] الخصوم، وذلك إذا قام أحد الخصوم على صاحبه بإذاية أو إضرار، وجب على القاضي أن يكف بعضهم عن بعض ويعاقب الظالم منهم بما يؤديه إليه اجتهاده. وكذا إذا آذى القاضي، لحرمة الشرع، ولأن حرمة القاضي من حق الله، والاجتراء على القضاة والحكام بمثل هذا توهين لأمرهم، وداعية إلى الضعف عن استيفاء الحقائق في الأحكام، والأدب في مثل هذا أولى من التجافي عنه وأمثل من العفو [59] . ومن المخصص أيضا أن [ ص: 120 ] يشد على عضد أحدهما إذا رأى ضعفه عن صاحبه، وخوفه منه، ليبسط أمله في الإنصاف، وحسن رجائه للعدل، بل ذهب بعضهم إلى أن للقاضي أن يلقنه حجة عمي عنها، إلا أن تكون حجة فجور فليس له أن يفعل ذلك [60] ، لأنه من باب التعاون على الإثم والعدوان.
وذهب بعضهم إلى القول: إن التلقين واجب إذا كان الخصم جاهلا ضعيفا عنها، وهو ظاهر كلام الفقهاء، وإلا فكيف يحكم عليه بحجة صاحبه وحجته صحيحة إلا أنه لضعف عقله لم يبينها[61] ؟
قال في "التبصرة": ولا بأس أن يلقن أحدهما حجة عجز عنها [62] ، فلو علم إنسان أن الخصم مظلوم جاز تلقينه ما ينفعه، لأنه من باب إنقاذ المظلوم من الظلمات، قاله البرزلي [63] .
وهـذا لعمري من الإحسان الداخل في العدل، الواجب بأمر الله: (النحل:90).
وهـذا لا يتناقض مع وجوب الاقتصار على العدل في قوله تعالى: ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان * إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) (النساء:58). [ ص: 121 ]
ومن مقتضيات التسوية في مجلس القضاء عدم التمييز بين الخصوم في نظر دعاواهم، فيقدم السابق وهكذا [64] ، ومدرك الفقهاء في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من سبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلم فهو له ) [65] .
إلا أن هذا الأصل لا يعتبر بإطلاق، بل من شروط تطبيقه مراعاة مقصد العدالة، فإذا أخل الأصل بالمقصد، عدلنا عن الأصل حفاظا على المقصد الذي من أجله شرع الأصل.
ومن ذلك قضايا المسجونين ومن يلحقه ضرر من تأخير دعواه إما لفوات الأدلة أو لزوال معالم الحق ونحو ذلك، إذ "ليس الضعيف كالقوي، ولا الغريب كالمقيم، ولا من نظر في أمره كمن لم ينظر فيه، وآخر إن دعاه قطع أمره، وآخر يخاف في تأخير أمره الضرر به، يأخذ في ذلك لنفسه ولرعيته بجهد رأيه" [66] ، وعلى الجملة يفعل في دعوى الخصوم بالذي هو أعدل وأحسن [67] .
ولعل من مقتضـيات المساواة في الشريعة الإسلامية أمام القضاء، أن جميع الأفراد يرفعون نزاعاتهم أمام نفس المؤسسة القضائية، وهو ما يعبر عنه بوحدة القضاء، فلم نلحظ في تاريخ القضـاء الإسـلامي ما عرفته أوروبا خلال القرن السادس عشر من محاكم طبقية، بعضها مخصص لنـزاعات النبلاء وأخرى محاكم شعب. [ ص: 122 ]
الخاتمة
لعلي أعرض أهم نتائج البحث فيما يلي:
1- لما كان الاجتماع البشري ضرورة حيوية في نهوض حياة إنسانية معتدلة، مع ما يقتضيه هذا الاجتماع من تبادل المنافع والمصالح والتعاون والتناصر على جلب المصالح ودرء المفاسد، وما يعرض له من مظاهر الانحلال والانخرام والفساد، كانت إقامة نظام القضاء ضرورة ملحة ومقصدا شرعيا يحد من جماح الشهوات، ويسد ثلمات الهرج والفتن والاعتداء، ويقيم مصالح الأمة على أساس العدل والحق.
2- نحت الشريعة الإسلامية في اختيار القضاة منحى الاعتدال والمساواة، وحرصت أن تحيط عملية الاختيار هذه بجملة من الضوابط الشرعية، وهي في جملتها تؤكد مقصد وجوب نصب قضاة يسوسون الأمة بالعدل، فلم تعهد إلى الخليفة أن ينصب القضاء من يشاء أو من يحرص عليه، بل قيدت تصرفه هذا بقاعدة "تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة"، فكان من لوازم الاختيار تنصيب الأصلح، فإن لم يوجد الصـالح فأمثل موجود، فإن لم يوجد في الأمة إلا المفسدون فالأقل فسادا والأقل فجورا، لأن حفظ بعض الحقوق مع قيام الولاية أولى من تضييع الكل مع انعدامها.
3- إن القضاء في الإسلام فرض محكم، يجب على إمام المسلمين إقامته، كما يجب على أفراد المسلمين أن يعاونوا إمامهم على إقامته على الوجه الذي يحقق المصلحة والعـدالة في الأمـة، وذلك كأن تكون الحقوق مضاعة بجور أو عجز والأحكام فاسدة بجهل أو هوى، فيقصد إنسان من أهل القضاء أن يحفظ الحقوق ويحرس الأحكام، مع وجوب الحاجة إليه وغيره لا يقوم مقامه، فيجب عليه والحال هذه أن يسعى لطلب القضاء المنهي عنه في أصل الشرع، لأن في تفويت الطلب تفويتا للمقصد الأعظم من القضاء، وهو رفع التهارج ورد النوائب، وقمع الظالم ونصر المظلوم، وقطع الخصومات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكف الظالم عن ظلمه.
4- ليس نظام القضاء في الإسلام هيكلا ثابتا، ولا تحكمه قواعد جامدة، بل إن فيه من المرونة ما يجعله قادرا على أن يتأقلم في كل زمان ومكان بحسب ما تمليه المصلحة وتقتضيه الضرورة، فمقصود القضاء إقرار العدل وهو الغاية الثابتة التي لا تتحول، وأما طرائق العدل فمتعددة، فمن أي طريق تحقق العدل فثمة شرع الله.
5- إن القضاء من أهم الولايات التي تتعلق بحياة الناس، فهو ذو مسؤولية خطيرة تقتضي الكفاءة العلمية والخلقية في من يتولى القضاء، وجماع هذه الكفاءات وأساسها المتين الاستقامة والاعتدال؛ الاستقامة في الحياة الخاصة والعامة، والدين والسلوك، والاعتدال في الحكم والنظر في القضايا.