المبحث الأول
نزاهة القاضي
المطلب الأول: حقوق (الغير):
قد تتوافر في القاضي الأهلية الكاملة للقضاء، ومع ذلك يمنع من النظر في بعض النـزاعات المعروضة عليه، صيانة لمنصب القضاء، وتنـزيها للقاضي، وليكون الحكم الصادر أقرب ما يكون إلى العدل.
هذه الأسباب التي تنال من صلاحية القاضي لنظر النـزاع، كفيلة بإثارة الشكوك والشبهات حوله عند قيام سبب منها لديه. فلكي يبتعد عن مظنة المحاباة والتحيز، أو التأثر بالعواطف التي قد تؤدي إلى الود العميق أو البغض الشديد لأحد الخصوم في القضية موضوع النـزاع، فينعكس ذلك بدوره على الإجراءات التي يتخذها بصددها، عد القاضي غير صالح لنظر النـزاع بقيام سبب لديه منها.
فأحكام عدم الصلاحية إذا، تشكل ضمانة مهمة للعدالة، وسياجا متينا للقاضي تعصمه من الزلل. [ ص: 157 ]
وأولى هذه الأسباب، أنه ليس للقاضي أن يحكم لنفسه ولو رضي خصمه بذلك، فإن حكم على نفسه فيكون كالإقرار منه بما ادعي عليه، ولا يحكم لشريكه في المشترك
[1] .
أما حكمه لنفسه فمردود كما ترد شهادته لنفسه، لأنه مؤتمن في حق غيره لا في حق نفسه.
ولا يجـوز قضـاؤه لمن لا تقبل شهادته له، لأن مبنى القضاء على الشهادة، ولا يصح شاهدا لمن لا تقبل شهادته له، فلا يصح قاضيا لمكان التهمة [2] .
وأما أن يقضي عليهم فجائز؛ لأنه لو شهد عليهم لجاز فكذا القضاء
[3] . [ ص: 158 ]
ولا ينفذ قضاؤه لوالده وإن علا ولا لولده وإن سفل، وهو ما ذهب إليه الحنفية والشافعية والحنابلة [4] .
ذكر السمرقندي [5] في "تحفة الفقهاء": أنه لا يجوز للقاضي أن يقضي لنفسه، ولا لأبويه وإن علوا، ولا لزوجته، ولا لأولاده وإن سفلوا، ولا لكل من تجوز شهادته لهم [6] .
وخـالف أبـو يوسف [7] مـن الحنفيـة، والمزنـي [8] وأبـو ثور [9] [ ص: 159 ] من الشـافعية، وأبو بكر [10] من الحنابلة، فقالوا: ينفذ حكمه؛ لأنه حكم لغيره فأشبه الأجانب.
وللمالكية في قضاء القاضي لأقاربه الذين لا تجوز شهادته لهم أربعة أقوال: المنع لمطرف، والجواز لأصبغ في حالة ما إذا كان القاضي من أهل القيام بالحق، واستثنى من الجواز الزوجة وولده الصغير ويتيمه الذي يلي ماله. وعند ابن يونس [11] لا يحكم لعمه، إلا أن يكون مبـرزا في العدالة. والرابع التفرقة، فإذا قال: ثبت عندي لـم يجز، وإن حضر الشهـود وكانت الشهادة ظاهرة جاز إلا لزوجته وولده الصغير ويتيمه، وعند ابن يونس لا ينبغي للقاضي أيضا أن يحكم بين أحد من عشيرته وبين خصمه [12] .
والراجح ما ذهب إليه الجمهور للبعضية والتهمة، وهي طاعن في نزاهة القاضي، وإن كان هناك رأي آخر ينتهي إلى جواز الحكم لهم، وإن لم يجز أن يشهد الإنسان لهم؛ لأن طريق الحكم ظاهر. [ ص: 160 ]
ورأي آخر ينتهي إلى جواز الحـكم لهـم؛ بالإقرار وعدم جواز الحكم لهـم بالبينـة؛ لأنه قـد يتهم بأن يعـدل فيهـا من ليس بعـدل ولا يتهم في الإقرار [13] .
وهذان الرأيان على وجاهتهما مردودان لما سبق بيانه، ولأن التهمة فيهما غير منتفية، وللحيلولة دون محاباة القاضي لأحد أقربائه، ودفعا لمفسدة قطع الأرحام إذا ما قضى على والده أو ولده أو قضى لأحدهما على الآخر.
وإذا كانت القرابة في الشريعة الإسلامية تعدم صلاحية القاضي لنظر النـزاع، فالعـداوة أيضـا إذا ثبتت تمنع القـاضي من الحكم على عدوه [14] ، ولكنها لا تمنعه من القضاء له، وهو قول جمهور العلماء [15] .
ذكر ابن المواز أنه: "إذا حكم القاضي فأقام المحكوم عليه بينة أن القاضي عدو له، فلا يجوز قضاؤه عليه" [16] .
والعلة في المنعين واحدة، وهي مظنة التهمة، ولأن نزاهة القضاء تقتضي الابتعاد عن كل ما من شأنه أن يفتح باب الطعون على القاضي، أو النيل من عدالة القضاء وتحريه للحق. [ ص: 161 ]
وأما في القانون الوضعي، فإن الأسباب التي تنال من صلاحية القاضي لنظر النـزاع نوعان:
النوع الأول منها يجعله غير صـالح لنظر النـزاع متى قام لديه سبب من هـذه الأسباب، حتى ولو لم يتمسك الخصوم بذلك، وتسمى بأسباب عدم الصلاحية.
النوع الثاني يعطي للخصم حق طلب تنحية القاضي عن نظر النـزاع، إذا لم يتنح من تلقاء نفسه، وتسمى بأسباب الرد. فإن لم يرده الخصم الذي له حق الرد، فإنه يكون صالحا لنظر النزاع ما لم يكن سبب الرد يشكل في الوقت نفسه سببا لعدم الصلاحية.
وبجانب ذلك يعطي القانون للقاضي حق التنحي عن نظر قضية معينة، حتى ولو لم يكن هناك سبب يوجب عدم الصلاحية أو سبب يجيز الرد [17] .