ب- إنسان الانحطاط:
وهو إنسان مابعد الموحدين في مسيرة الحضارة الإسلامية، وهو الإنسان الذي يعيش بعد (هجرة الحضارة)، أي في منطقة (السكون) حيث يفقد الفعل الحضاري شروطه وتتفكك الروابط التي كانت تجمع بين الروح والعقل والغريزة.
وهذا الإنسان، يعده بن نبي جوهر المشكلة الإسلامية اليوم، يقول: "وإنسان ما بعد الموحدين في أي صورة كان -باشا أو عالما مزيفا أو مثقفا أو متسولا - يعد عموما عنصرا جوهريا فيما يضم العالم الإسلامي من مشكلات منذ أفول حضارته، وهو عنصر لا ينبغي أن يغيب عن أنظارنا عندما ندرس نشأة المشكلات وحلولها التي تشغل اليوم - فيما يبدو - الضمير الإسلامي... وربما رأينا من الضروري على الأقل أن تقوم ألوان النشاط الدالة على يقظة الضمير الإسلامي في مختلف قطاعات الحياة الاجتماعية على أساس دراسة علمية للعوامل السلبية، وأسباب العطل الضارب بطنبه في حياتنا" (ص38).
إن هذا الكلام من بن نبي، ينبه القارئ المهتم بما ينتجه أصحاب المشاريع الإصلاحية في عالمنا العربي، ويجعله يقلب النظر في تلك الأطروحات /المشاريع، التي قفزت - بشكل واع أو غير واع - على واقع الإنسان العربي، وراحت تستجلب مرة أنموذجا من الماضي تحت غطاء الأصالة والوفاء للتراث، ومرة أنموذجا من واقع الحضارة الغربية تحت غطاء [ ص: 106 ] المعاصرة والانخراط في الحداثة، وقد غفل هؤلاء وأولئك عن جوهر المشكلة، وهو تحليل إنسان الانحطاط بطريقة علمية موضوعية، تكشف عن السلبيات وأسباب العطالة.
وهذه الملاحظة مما يجدر الوقوف عندها ونحن نخوض الجدل حول مسألة العولمة، فكما أشرنا من قبل، فإن النخب العربية والإسلامية - على اختلاف توجهاتها الفكرية والأيديولوجية - انخرطت في النقاشات حول العولمة - ردا أو قبولا - ولكنها في أغلب الأحيان، ابتعدت عن جوهر المشكلة، وهي هل الإنسان المسلم اليوم قادر على الانخراط الفعلي في العولمة، بحيث يكون منتجا وفاعلا؟ - إذا نحن قبلنا العولمة وتحمسنا لها -، وفي حالة رفضها، هل الإنسان المسلم اليوم قادر على رفضها والتصدي الإيجابي لها، بحيث يكون منتجا وفاعلا؟
فالسؤال يبقى مطروحا أيا كان موقفنا... ومن هنا لا فائدة أصلا من النقاش، إن لم نبدأ أولا بجوهر المشكلة، أعني تحليل واقع الإنسان المسلم اليوم، والبحث عميقا في أسباب عطالته الحضارية، وهذا ما جهد بن نبي في التنبيه إليه والتحذير من القفز فوقه، فالمشكلة - أي مشكلة - لا يمكن أن تختفي بمجرد إغماض الأعين عنها أو الرغبة في عدم الحديث عنها، فمهما حاولنا ذلك، سيواجهنا بها الواقع كلما فكرنا في فتح أعيننا ثانية.
وانسجاما مع هذه الفكرة، وجدنا بن نبي يحلل ظاهرة (إنسان ما بعد الموحدين)، فيحاول أن يوصفه ويبرز سماته، كمرحلة ضرورية لتناوله بالنقد والتحليل، طلبا لتغيير واقعه والدخول به في مرحلة التحقق بشروط الحضارة. [ ص: 107 ]
إنسان مابعد الموحدين، هو الإنسان الذي يتموضع تاريخيا بعد سقوط دولة الموحدين، وهي اللحظة التاريخية التي يعتبرها بن نبي لحظة السقوط الحضاري الإسلامي، أو بنص عبارته: "... كان في حقيقته سقوط حضارة لفظت آخر أنفاسها" (ص36).
لكنه - وانطلاقا من الملاحظة المنهجية التي قدمها بخصوص الدراسة التاريخية - فإن بن نبي يؤكد أن سقوط دولة الموحدين لم يكن سوى النتيجة الحتمية لمقدمات بدأت منذ العصر الأول، إذ الأسباب البعيدة ترجع إلى موقعة (صفين)، تلك اللحظة التي شكلت أول صدمة للضمير المسلم وكانت البذور لما تلاها من صـدمات شطرت - كما أسلفنا- الوعي الإسلامي ولا تزال تمارس دورها إلى يوم الناس هذا، يقول: "لم يكن الانقلاب فجائيا، إذ هو النهاية البعيدة للانفصال الذي حدث في (صفين)، فأحل السلطة العصبية محل الحكومة الديمقراطية الخليفية، فخلق بذلك هوة بين الدولة وبين الضمير الشعبي، وكان ذلك الانفصال يحتوي في داخله جميع أنواع التمزق والمناقضـات السياسية المقبلـة في قلب العالم الإسلامي... فإذا تناولنا الظواهر في جانبها السياسي، وجـدنا أن هذا الانفصال الأول، إنما كان إحدى (الأزمات) التي تغير نظام بلد معين خلال التاريخ، لكن يأتي يوم ينعدم فيه الفرد القادر على حفظ السلطان، الفرد القادر على تولي الأمر وتسويته على نظم جديدة، وحينئذ يخر الصولجان من تلقاء ذاته، فيتحطم ويستحيل إلى (صويلجانات) يتلقفها صغار الملوك. [ ص: 108 ]
هذه اللحظة هي نقطة الانكسار في منحنى التطور التاريخي، وهي لحظة انقلاب القيم داخل حضارة ما.
وهنا لا نواجه تغيرا في النظام السياسي، بل إن التغير يصيب الإنسان ذاته، الإنسان المتحضر، الذي فقد همته المحضرة، فأعجزه فقدها عن التمثل والإبداع، وليس من الصواب أن نبحث عن النظم بل عن العوامل الإنسانية المتمثلة في عجز الناس عن تطبيق مواهبهم الخاصة على التراب والوقت.
إن التركيب الأساسي نفسه قد تحلل، فتحللت معه الحياة الاجتماعية، وأخلت مكانها للحياة البدائية.
ويؤرخ لتلك الظاهرة في التاريخ الإسلامي بسقوط دولة الموحدين" (ص36) [1] .
فمسألة الانحطاط الحضاري الذي يعاني منه المسلم اليوم، لم تكن وليدة لحظة تاريخية بعينها، إنما تكثفها في لحظة ما أمكننا - تجاوزا - أن نعد تلك اللحظة بداية، بحيث يمكن أن نقول: "يبدأ تاريخ الانحطاط بإنسان ما بعد الموحدين" (ص36)!!
وهذا - فيما يبدو لنا - ليس تحديدا صارما من بن نبي؛ لأن الحقب التاريخية أشبه ما يكون بالمياه الإقليمية، لا يكون الحديث عن الحدود والفواصل بينها إلا على سبيل الفرض والتجاوز، ولكن وضع نقطة ما للبدء، [ ص: 109 ] أمر تقتضيه الدراسة والتحليل، وعليه يمكن لأي دارس آخر أن يحرك هذه النقطة فيتقدم بها قرونا أو يتأخر بها أخرى، ولكن في النهاية لابد من نقطة ما نجعلها منطلقا للتشخيص... ولحظة (سقوط دولة الموحدين) هي لحظة تكثفت فيها مظاهر التخلف الحضاري سياسيا واجتماعيا وثقافيا ولهذا عدها بن نبي نقطة البدء في الحديث عن الانحطاط الحضاري للإنسان المسلم.
ولكن الأهم من هـذا أن بن نبي يؤكد أن (إنسان ما بعد الموحدين) لا يزال يمارس تأثيره القوي على واقع الإنسان المسلم اليوم، يقول -ولنتذكر أن الحـديث في منتصف القرن الماضـي-: "هذا الوجه المتخلف الكئيب ما زال حيا في جيلنا الحاضر، نصادفه في المظهر الرقيق البريء الذي يتميز به فلاحنـا الوديع القاعـد، أو راعينـا المترحـل [2] ، المتقشف المضياف، كما نصادفه في المظهر الكاذب الذي يتخذه ابن أصحاب (المليارات) نصف المتعلم، الذي انطبع في الظاهر بجميع أشكال الحياة الحديثة، فأكسبه (مليار) أبيه وشهادة (البكالوريا) مظهر الإنسان العصري، بينما تحمل أخلاقه وميوله وأفكاره صورة (إنسان ما بعد الموحدين)" (ص37).
لننس لحظـة الزمن الذي قيل فيه هـذا الكلام، ولنحاول استحضاره - أي الكلام - ونحن نناقش العولمة - قبولا أو ردا - هل تغير حال المسلم عما كان عليه يوم أطلق بن نبي تشخيصه هذا؟ أم أن (إنسان ما بعد [ ص: 110 ] الموحدين) ما زال حاضرا بيننا، في صورة أكثر كآبة، من خلال إخفاقاتنا المتتالية، ومظاهر التخلف التي تطبع حياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية؟
إن كان الأمر كذلك، فلا بد أن نتعرف على سمات (إنسان ما بعد لموحدين)، كي نضع أقدامنا على طريق الفهم ومن ثمـة التغيير... وباستقراء ما كتبه بن نبي، يمكن أن نضع لإنسان الانحطاط/ما بعد الموحدين السمات التالية:
1- أنه إنسان منشطر بين زمانين:
"فليس من باب اللعب بالألفاظ، بل من الضرورة المنطقية أن نـقرر هـنا أن العـالم الإسـلامي لا يعيـش الآن في عـام1949م، بل في عـام 1369هـ" (ص35) [3] .
فالزمن الذي يكون عاملا فاعلا في إنتاج حضارة ما، ليس هو الزمن الفيزيائي، الذي يمكن أن يقاس بالساعات والدقائق والثواني، وهو الزمن الذي قد نشترك فيه بيولوجيا /ماديا مع غيرنا من الناس أو حتى مع بقية الموجودات الأخرى، وإنما الزمن الفاعل هو الزمن الحضاري، الذي يكون مرتبطا بالقيم السائدة في المجتمع... ومن هنا تبرز مشكلة الإنسان/المجتمع الذي يعيش بعد سقوط حضارته أو هجرتها - كما يلاحظ بن نبي - في الانشطار بين زمانين، وهو بالفعل ما حدث للإنسان المسلم، ولا يزال [ ص: 111 ] يمارس فعله على حياته وحركته، فنحن - فيزيائيا/بيولوجيا/ ماديا - نعيش مع غيرنا في زمن، لكن (قيميا) نعيش في زمن آخر !!
ومن هنا ينكشف سر فشل الدعوات الإصلاحية بشقيها ( الأصالي والحداثي) في إحداث النهضة المرجوة وتحقيق الانبعاث الحضاري المأمول، فالمشاريع الإصلاحية منذ زمن وهي تخاطب الإنسان المسلم بخطابات تقع خارج الزمن الذي يعيـش فيه حقيقة، فـكانت النتيجة أن بقي الخطـاب الإصلاحي أو النهضوي أو التنويري أو التجديدي، خارج الوجدان العربي والمسلم.
كما ينكشف لنا أيضا سر المفارقة التي نراها في حياتنا الاجتماعية والسياسية وحتى الثقافية والفكرية، والمتمثلة في الهوة السحيقة التي تفصل بين استخدامنا لآخر منتجات الحضارة وبين بقائنا خارج نطاق التحضر، فمنذ أكثر من قرنين من الزمان ونحن نقتني أشياء الحضارة ونراكم أو نكدس منتجاتها، بل قد نسبق المستهلك الغربي ذاته في اقتناء آخر المنتجات ومع ذلك لم نكد نتقدم خطوة نحو الغوص في جوهر القيم الحضارية التي كانت وراء تلك المنتجات، يبرز هذا في استعمالنا للسيارة والكمبيوتر والهاتف النقال، كما يبرز في تبنينا لشعارات الديمقراطية والمؤسسات الدستورية وحقوق الإنسان والانتخابات والمواطنة ودولة القانون، كما يبرز في التباهي بالكلام عن المناهج الحديثة في الفلسفة والأدب والفكر عموما!!
إننا نتعامل مع كل هذه المنتجات - على اختلاف مجالاتها - بعقلية المستهلك، الذي لا يكاد يتجاوز ظواهر الأشياء وآثارها النفعية القريبة. [ ص: 112 ]
ولا شك أن هذا - كما أسلفنا - مظهر من مظاهر الانشطار الزماني الذي نعاني منه، فنحن نتعامل مع منتجات الحضارة بنفسية وعقلية إنسان يعيش في زمن تسيطر فيه قيم التخلف.
وعليه يكون من المفيد ونحن نواجه (العولمة)، أن نطرح السؤال على أنفسنا: (في أي زمن نعيش؟)، كما طرح بن نبي السؤال ذاته وهو يتصدى لمعالجة ظاهرة الاستعمار... وطرح مثل هذا السؤال لا يدخل - إطلاقا - ضمن اللعب بالألفاظ أو الترف الفكري، وإنما سيضعنا أمام مساءلة أطروحات أولئك الذين يرحبون - دون تحفظ - بـ (العولمة) من خلال الترويج لمقولات (الحوار الإنساني) و (المثاقفة) و (التبادل الحضاري)، متغافلين على أن كل مقولة من هذه المقولات تقتضي (الندية) و (التكافؤ) بين طرفيها أو أطرافها، وأن من التكافؤ أن نكون متوافقين زمانيا!!
2- أنه ظاهرة اجتماعية وثقافية:
فإنسان ما بعد الموحدين - كما يرى بن نبي - ليس فردا ولا حتى مجموعة من الأفراد يكونون كتلة أو مجتمعا، وإنما هو (ظاهرة) ذات أبعاد اجتماعية وثقافية، تغذيها منظومة من القيم، ولكنها - مع الأسف - قيم متخلفة، والأخطر من ذلك أنها فاعلة، لا تزال تمارس تأثيرها على حياة المسلمين منذ قرون، فتساهم في نشر التخلف وتوريثه.
يقول ابن نبي: "فإذا نظرنا إلى هذا الوضع نظرة اجتماعية، وجدنا أن جميع الأعراض التي ظـهرت في السياسة أو في صورة العمران، لم تكـن [ ص: 113 ] إلا تعبيرا عن حالـة مرضية يعانيها الإنسان الجديد - إنسان ما بعد الموحدين - الذي خلف إنسان الحضارة الإسلامية، والذي كان يحمل في كيانه جميع الجراثيم التي سينتج عنها في فترات متفرقة جميع المشاكل التي تعرض لها العالم الإسلامي منذ ذلك الحين.
فالنقائص التي تعانيها النهضة الآن، يعـود وزرها إلى ذلك الرجـل الذي لم يكن طليعة في التاريخ، فنحن ندين له بمواريثنا الاجتماعية، وبطرائقنا التقليدية التي جرينا عليها في نشاطنا الاجتماعي، ليس ذاك فحسب، بل إنه يعيش الآن بين ظهرانينا، وهو لم يكتف بدور المحرك الخفي الذي يدفعنا إلى ما ارتكبناه من خيانة لواجبنا، وأخطـاء في حق نهضتنـا، بل لقد اشترك معنا في فعلنا، لم يكتف بأن بلغنا نفسه المريضة التي تخلقت في جو يشيع فيه الإفلاس الخلقي والاجتماعي والفلسفي والسياسي، فبلغنا ذاته أيضا" (ص37).
فالمشكلة إذن أعقد من تلك التصنيفات التي اعتدنا عليها في المشاريع (الإصلاحية)، والتي تنظر إلى واقع التخلف الذي نعانيه من زاوية الثنائيات البسيطة من قبيل: (عقـل/نقل)، (عـلم/دين)، (علمـانية/دينية)... وهي - المشكلة - بالتالي أبعد من أن تكون في متناول الحلول البسيطة والسطحية التي تقترحها النخب الإصلاحية، والتي تقوم أغلبها على أساس التنافي بين المكونات المتوهمة للمشكلة، بحيث يصبح خلاصنا مما نحن فيه، يكمن لدى البعض في نفي الدين لحساب العلم أو استبعاد النقل لحساب العقل أو فرض العلمانية على حساب الارتباط الديني!! [ ص: 114 ]
3- أنه يشكل حالة انتكاسة من قيم التحضر إلى قيم البداوة:
فلئن كانت النقلة النوعية التي قفزت بالإنسان العربي من حالة البداوة إلى حالة الحضارة، هي الوجه المشرق للبعث الحضاري الذي أحدثه الإسلام في واقع المجتمع العربي، فإن إنسان مابعد الموحدين - كما يلاحظ بن نبي - شكل الوجه الآخر لنقلة ارتدادية معاكسة لمنحنى التحضر، حيث انقلب الإنسان العربي/المسلم على قيمه الحضارية ليرتكس إلى قيم أسلافه (فيتبدى) بعد ما كان (متحضرا).
يقول بن نبي: "حتى إذا كان القرن الثامن عشر، كان العالم قد أتم منذ بعيد دورة حضارته، فإذا الفرد انتكس مرة أخرى إلى حياة يسيرها له مجتمع متحلل مشلول النشاط، فيما عدا بعض البلدان التي ظلت محتفظة برمق الحضارة، كفاس والقيروان ودمشق، وهي بقايا مهيبة تعد الشاهد الوحيد على ماض ضائع؛ لأن إنسان ما بعد الموحدين قد آثر العودة على حياة أسلافه البدو على أن يركن إلى حياة متحضرة" (ص43).
وغير خاف، أن بن نبي هنا، لا يقصد العودة إلى حياة البدو، بمعنى أن الإنسان العربي هجر المدن ليعيش حياة الشظف في الصحراء، يسكن الخيام ويستقل الإبل ويرعى الأغنام، فإن شيئا من هذا لم يحدث، ولكن المقصود هو الارتداد إلى (قيم البداوة) [4] ، تلك القيم السابقة على مرحلة التحضر، وهو [ ص: 115 ] ارتداد ذو طبيعة ثقافية، يلقي بظلاله على نظرة الإنسان إلى الحياة وعلى كيفية تعامله حتى مع أرقى المنتجات الحضارية الغربية، المادي منها والمعنوي!!
إنها القيم التي تشل كل قدرة على الإبداع، وتحول الإنسان إلى كائن استهلاكي، همه أن يلاحق آخر ما ينتجه (الآخر)، مع الاكتفاء من هذه المنتجات بمنافعها القريبة، دون الغوص وراء الأفكار التي أبدعتها أو الآثار التي قد تترتب عليها، وهذا ما صور بن نبي بعض جوانبه بقوله:
"فمنذ قرون مضت، كان الفكر الإسلامي عاجزا عن إدراك حقيقة الظواهر، فلم يكن يرى فيها سوى قشرتها، وأصبح عاجزا عن فهم القرآن، فاكتفى باستظهاره، حتى إذا انهالت منتجات الحضارة الأوروبية على بلاده اكتفى بمعرفة فائدتها إجمالا، دون أن يفكر في نقدها، وإذا كانت الأشياء قابلة للاستعمال فإن قيم هذه الأشياء قابلة للمناقشة، ومن ثم وجدنا المسلم لا يكترث بمعرفة كيف تم إبداع هذه الأشياء، بل قنع بمعرفة طرق الحصول عليها، وهكذا كانت المرحلة الأولى من مراحل تجديد العالم الإسلامي، مرحلة تقتني أشكالا دون أن تلم بروحها، فأدى هذا الوضع إلى تطور في الكم، زاد في كمية الحاجات دون أن يعمل على زيادة وسائل إشباعها، فانتشر الغرام بكل ما هو (مستحدث) في جميع طبقات المجتمع ... ولعلنا لو رجعنا إلى سنوات الرخاء التي تلت الحرب العظمى عام 1925م، لرأينا تحت الخيام سيارات فاخرة رابضة يبيض فيها الدجاج ويفرخ، ورأينا صنابير الماء على أحواض من القاشاني في بيوت الطبقة المتوسطة تزين غرف النوم الحديثة" (ص65-66 ). [ ص: 116 ]
4- أنه يجسد القابلية للاستعمار:
وهذه السمة تكاد تكون محصلة لما سبق من سمات، فالانشطار بين زمنين والانقلاب على قيم التحضر، لن يؤديا في النهاية إلا إلى حالة نفسية تتجاوز ظاهرة الولع بالغالب - التي رصدها ابن خلدون- إلى ظاهرة القابلية للاستعمار، وهي الظاهرة التي جهد بن نبي في بيانـها والتنبيه إلى خطورتها، إذ ما كان للآخر أن يستعمـرنا لو لا أنه وجـد فينا قابلية لذلك، وهي حالة تتشابك فيها الثقافة المغشوشة والتدين الأجوف المتمحور حول الطقوسية والشكلانية، كما يسـاهم فيها التقدير الخاطئ للذات، تاريخا وتراثا وحضارة.
وخير من جسد هذه الوضعية البائسة هو إنسان ما بعد الموحدين... يقول بن نبي: "فإذا كان عسيرا أن نتعرف على (إنسان ما بعد الموحدين) إلا إذا تشخص في سمات رجل ك (آغا خان) فإنه على أية حال تجسيد للقـابلية للاستـعمـار، والوجـه النمـوذجي للعصر الاستعمـاري، والبهـلوان الذي أسنـد إليه المستعمر القيام بدور (المستعمر)، وهو أهل لأن يقوم بجميـع الأدوار، وحتى لو اقتضاه الموقف أن يقوم بدور (إمبراطور)" (ص38).
تلكم هي سمات إنسان ما بعد الموحدين، كما رصدها بن نبي من خلال استقراء حركة تاريخ الأمة الإسلامية وكذا الوقائع التي يعايشها في [ ص: 117 ] منتصف القرن العشرين، تاريخ تأليفه لكتاب (وجهة العالم الإسلامي)... ولا شك أن إنسانا بهذه المواصفات، يعد في النهاية عقبة كأداء أمام كل عملية إصلاحية جادة، تستهدف إيقاظ العالم الإسلامي من رقدته، والدفع به ثانية إلى مسرح الأحداث، فاعلا ومؤثرا لا منفعلا ومتأثرا.
ولنا نحن اليوم، ونحن في مستهل القرن الواحد والعشرين، وفي غمرة حـديثنا عن العولمة، أن نتساءل: هل تخلص الإنسان المسلم اليوم من أمراض إنسان ما بعد الموحدين، بحيث أصبح قادرا على مواجهة العولمة إن قبولا أو ردا؟
وهذا سؤال مشروع؛ لأن الإجابة عنه تحدد حقيقة وجهتنا، وتعصمنا من إهدار المزيد من الأوقات والجهود، إن بالسير في المسارات المستحيلة ذات الشكل الدائري فنرجع في كل مرة إلى نقطة البدء أو تلك التي لا مخرج في نهاياتها، وإن بالدخول في معارك وهمية نقاتل فيها الأوهام ونطارد الأشباح، فتكون النتيجة البقاء على هامش التاريخ، كائنات بائسة، ممزقة بين شعور الرهبة من الغازي والإعجاب به.
وطرح الأسئلة، في أغلب الأحيان، أهـم من البحث عن الأجوبة... بل لا مطمع من الوصول إلى الحل إذا لم نصغ المشكلة في سؤال يحولها إلى ظاهرة قابلة للتحليل والتفكيك. [ ص: 118 ]