2- المحاولات التجديدية المرتبطة بطموحات النخبة المتغربة:
لا تكتمل صورة الوقفة النقدية التي وقفها بن نبي مع محاولات النهضة - وقد بينا حديثه عن الحركة الإصلاحية - إلا بالحديث عن التيار الثاني، والذي أسماه (التيار التجديدي) في مقابل التيار الإصلاحي.
وأهمية هذه المسألة لا تكمن فقط في كونها استكمالا للوقفة النقدية، وإنما لأنها كانت مناسبة جلى من خلالها بن نبي (روح الحضارة الغربية)، وكشف عن حقيقـة ارتباط النخبة المتغربة في عالمنا الإسلامي بتلك الحضارة وثقافتها.
ونحن نحتاج - أيا كان موقفنا من الحضارة الغربية - إلى معرفتها معرفة نتجاوز بها المظاهر والقشور، لنصل إلى جوهر تلك الحضارة ولب تلك الثقافة، فنقبلها -إن قبلناها- عن علم واقتناع، ونرفضها -إن رفضناها- عن علم واقتناع أيضا، فالجهل بحقيقتها لن يعيننا على الاستفادة من حسناتها، إن كان لها حسنات، كما لن يعصمنا من شرورها، إن كان لها شرور.
يستهل بن نبي الفصل الذي خصصه للحركة الحديثة، بقول (بلزاك): "أو ليس عجابا أن أتجه إلى إصلاح الوطن، بينما قد عجزت على إصلاح فرد في هذا الوطن!!".
وهي مقولة تلخص نظرته للحركة الحديثة أو التيار التجديدي، الذي سبق وأن وصفه بأنه منفصل عن ضمير الأمة، ومرتبط بمصلحة النخبة المتعلمة تعليما غربيا، مما جعله "أقل عمقا وأكثر سطحية" (ص48). [ ص: 149 ]
إن هذا الحكم قد يبدو قاسيا، لأنه يفصل النخبة المثقفة ثقافة غربية عن الأمة فصلا تاما، لكن بن نبي يبرر حكمه بالتنبيه إلى طبيعة الاستعمار من جهة، وعلاقة هذه النخبة بمخططاته من جهة ثانية.
يقول، موضحا حقيقة الأهداف الأوروبية من استعمار العالم الإسلامي: "رأينا أوروبا حين اكتشفت العالم الإسلامي لم تؤته روحها، أي أنها لم تؤته حضارتها كلها، وإنما اقتصرت فيما اصطحبت من الأدوات، على ما يسهل للمستعمر الحصول على رفاهيته العاجلة" (ص63).
فالوجه الحضاري الذي تظهره الدعاية الاستعمارية، ليس في الحقيقة سوى الوسيلة المثلى للسيطرة على الأرض وساكنيها، وتوفير أسباب الراحة للغاصبين، يستوي في ذلك الوسائل المادية أو المعنوية.
فتغيير الوسائل المادية في عملية الإنتاج من وسائل متخلفة إلى أخرى متطورة، لا يختلف من حيث الجوهر عن إعادة تأهيل الإنسان المستعمر، ثقافيا وتقنيا، ليكون في خدمة السياسة الاستعمارية.
وها هنا يكشف بن نبي صلة النخبة المثقفة ثقافة غربية، بمخططات الاستعمار، فما داموا قد تخرجـوا في مدرستـه، فهم قد تأثروا بأهداف تلك المدرسـة، يقـول: "ومع ذلك فقـد جـلبت إلى أبناء المستعمرات (مدرسة) تتفـق ونظرتـها إليهـم، وعن هـذه المدرسـة صدرت الحركة الحـديثة في العـالم الإسـلامي... وتناظر هذه المدرسة في هذا التيـار الحـديث، (المدرسـة) الأخرى الناتجـة عن تيار الإصـلاح، [ ص: 150 ] فهذه تنشر بحكم مشربهـا فكرة إسـلامية فتية، بينما تحـاول تلك أن تدخل في الحياة الإسـلامية عناصر ثقافة جديدة، ولئن تمكنت الأولى من قطع الصلة بماضي الموحدين [1] ، فإن الثانية أحدثت اتصالا معينا بالفكر الغربي" (ص63).
إن خطورة هذه النخبة لا تكمن فقط في كونها وضعت في مقابل حركة الإصلاح المرتبطة بضمير الأمة أو الممثلة للأصالة، وإنما لأنها أيضا مثلت (الجسر) الذي كان يفترض أن تنتقل إلينا من خلاله الحضارة الغربية... فهل كان روادها في مستـوى هـذه المهمـة الدقيقة والخطيرة؟ أو بعبارة أخرى هل تمكنوا من إدراك جوهر الحضارة الغربية وبالتالي هل نجحوا في نقل الأفكار التي تساعدنا على إحداث التطور وبعث النهضة من جديد؟ أم أنهم لم يزيدوا عن أن يكونوا طلائع الاستعمار الجديد أو (الطابور الخامس) كما يصفهم خصومهم؟
إن تحليل بن نبي لبنية هذا التيار وأعمال رواده، يسمح لنا بأن نجيب عن الأسئلة السابقة، من خلال رصد الصفات والخصائص التي ذكرها كعلامات مميزة طبعت هذا التيار، وهذه الخصائص هي: [ ص: 151 ]
- التلقي غير المنهجي للثقافة الغربية:
فالفرد المسلم، إنسان ما بعد الموحدين، الذي يعيش في مجتمع فقد توازنه، لم يستطع عقله أن يتعامل بطريقة منهجية منظمة مع الوافد الثقافي الجديد، فإذا به يحصل خليطا من المفاهيم التي تلقاها من المدرسة الاستعمارية، أو من القراءات غير المنهجية، مضافا إليها الميراث الاجتماعي والعادات الفكرية المتخلفة، يقول بن نبي - عن هذه الثقافة/المعرفة -: "إذ هي مكونة في جوهرها من عناصر خالية من المعنى، مأخوذة عن المدرسة الاستعمارية، ثم يضاف إلى هذه العناصر بعض العناصر الأخرى التي التقطتها اتفاقا الشبيبة الجامعية، التي نشـأت في طبقة متوسطـة، وأقـامت في أوروبا إقامة قصيرة لم تهدف من خلالها إلى معرفة الحضارة الغربية" (ص64).
فالشاب المسلم القادم من مجتمع، أخذ (عناصر خالية من المعنى)، أي ثقافة خاوية من روحها الحقيقية، اكتفى فيها بالأشكال والرسوم، دون أن يحاول اختراق جوهرها وروحها.
ويبدو أن هذه الملاحظة لا تزال تصدق على تعاملنا، إلى اليوم، مع المنتج الثقافي الغربي، فأنت تجد دعاة التيار الحداثي - ولا سيما الشباب منهم- يرددون في أحاديثهم ومقالاتهم، نظريات وأسماء غربية، ويدافعون عن آراء وطروحات، ويتبنون اتجاهات ومذاهب، ولكن حينما تدقق النظر فيما يقولون ويكتبون، تدرك أنه حديث من لا يعي ما يقول!.. فحسبهم من الثقافة الغربية ومن الحداثة ذكر دريدا وريكور وهابرماس وفوكو [ ص: 152 ] وبارت... والتفكيكية والبنيوية والهرمونيطيقا وما بعد الحداثة... ولكنها في النهاية لا تعدوا أن تكون (عناصر خالية من المعنى)!! أو هي معرفة التقطت (اتفاقا/ مصادفة) من الكتب أو الملخصات في وسائل الإعلام!!
إن ثقافة أو معرفة غير ممنهجة، لا يمكن أن تقود إلى عمل صحيح منتج... ولكم كان العقل المسلم في بواكيره عقلا مبدعا وأصيلا حينما تعامل مع التراث الإنساني (الأجنبي) بطريقة واعية، استطاع من خلالها أخذ ما يتوافق مع منظومته القيمية، بما جعله قادرا على تطويره و (تبيئته)، فكان الإبداع وكانت الحضارة.
- سطحية الثقافة وسذاجة النظرة إلى الأمور:
فالتلقي غير المنهجي للثقافة الغربية، جعل هذا التيار يقف عند حدود الظاهر من المسائل، وانعكس ذلك على نظرته للأمور وتقييمه لها، وهذا يشـكل خـللا في معرفته بأوروبا وفي طريقة الاقتبـاس عنها، فلا يدري ما يأخذ وما يدع مما يراه أمامه من أفكار ومفاهيم وسلوكيات وأشياء!
هذه الصورة يبينها بن نبي - وهو يصف طريقة تفكير (طالب) قدرت له ظروف تلك المرحلة أن يتصل بأوروبا - فيقول: "فمن الوجهة العامة نرى أن الطالب المسلم لم يجرب حياة أوروبا، بل اكتفى بقراءتها، أي أنه تعلمها دون أن يتذوقها، فإذا أضفنا إلى ذلك أنه ما زال يجهل تاريخ حضارتها، أدركنا أنه لن يستطيع أن يعرف كيف تكونت وكيف أنها في طريق التحلل والزوال، لما اشتملت عليه من ألوان التناقض، وضروب [ ص: 153 ] التعارض مع القوانين الإنسانية، ولأن ثقافتها لم تعد ثقافة حضارة، فقد استحالت بتأثير الاستعمار والعنصرية (ثقافة إمبراطورية).
فإذا حدث يوما، أن ساقه فضوله إلى البحث عن شيء من ذلك، فلن يصادف في بحثه غير الواقع، أي لن يتصل إلا بأوروبا التي تعيش في القرن العشرين عارية عن تقاليدها القديمة، متبرجة براقة أخاذة، سيلقى أوروبا الحديثة بما حوت من مادية عملية [2] دانت بها الطبقة المتوسطة، ومادية جدلية دانت بها الطبقة العاملة.
فالمثقف الذي لم يتعلم فيما تعلمه بالمدرسة الأوروبية، معنى (الفاعلية الواقعية) التي يتقدم بها المسيحي اليوم على المسلم، هذا المثقف سيقبس من مادية أوروبا اتجاهها البرجوازي، أعني أذواقها المادية، أكثر مما سيقبس اتجاهها البروليتاري، أعني منطقها الجدلي" (ص 68-69).
فالنظرة السطحية للثقافة الأوروبية - كما يؤكد بن نبي - قادت النخبة الحديثة إلى الانبهار، ومن ثم الذهول عن حقائق الأشياء، فكانت النتيجة أن وقعوا وأوقعوا معهم الأمة في مأزق (استعارة الأذواق) ، وهو تعبير عن استعارة (الروح الاستهلاكية ) ، بدل تفعيل الروح الإبداعية المنتجة، مما جعلنا نأخذ وضع (الزبون) لما أنتجته الحضارة الغربية، بدل أن يكون لنا وضع المنتج والمساهم. [ ص: 154 ]
وحتى تلك الاستعارة للأذواق، عندما خلت من الوعي، أنتجت في المجتمعات العربية والإسلامية أوضاعا تتناقض مع القيم السائدة فيها والتطلعات التي تطمح إليها، وهذه ظاهرة لا تزال إلى اليوم تطبـع العديد من مجالات الحياة في عالمنا العربي والإسلامي، خصوصا وقد بتنا نعيش في زمن السموات المفتوحة والمعلومات التي لا تعترف بالحدود والموانع... فنظرة سريعة إلى وسائل الإعلام العربية - وهي تستخدم أحدث التقنيات -تكشف عن هذا التناقض الرهيب، بدءا بفلسـفة الإعـلام التي تجاري النمط الغربي في تغليب الجانب الترفيهي، وانتهاء بتحويل قنوات التلفزيون إلى ما يشبه (البارات) أو (بيوت الدعارة) التي تقتحم على المسلم بيته، بل وغرفة نومه، لتضرب كل قيمة أخلاقية، والغريب أن أغلب هذه القنوات (المزابل بتعبير روجيه غارودي) [3] ، تفتتح إرسالها بالقرآن الكريم، وفيها من يوقف البرنامج - وقد يكون عرضا لأغنية مصورة تطفح بالعري- كي ينقل الأذان أو الصلاة مباشرة من الحرمين!!... إنه التناقض الذي سببته ظاهرة استعارة الأذواق. [ ص: 155 ]
يقول بن نبي - وهو في بداية القرن العشرين، نتائج سلوك ذلك المثقف السطحي، التي استعار تلك الأذواق-: "ولما كان لم يتناول في استقرائه لحضارة أوروبا، ما يتصل بمنتجاتها من علاقات تكوينية تربطها ببيئتها الطبيعية، فإن استعارته لهذه الأذواق سوف تصرفه عن ملاحظة علاقاتها بالحياة الإسلامية، وهكذا وجدنا هذه الحياة تغص بآلاف الأذواق المستعارة دون أن ندري سببا لوجودها.
هذا الاستعداد في العالم الإسلامي لجمع منتجات مستعارة، يدلنا على ما تتسم به الحركة الحديثة من طابع بدائي، إذ ليست الحضارة تكديسا للمنتجات، بل هي بناء وهندسة، فلو أننا قصرنا نظرنا على عناصر الحضارة ومنتجاتها، فلن نرى حتما بناء المجتمع الغربي، لن نرى ما ترمز إليه تلك الفضائل الدائمة المتجسدة في العامل والفنان والعالم والفلاح البسيط على حد سواء، بل سننخدع بما تدل عليه أشكالها المؤقتة كالطائرة والمصرف، وليس في بناء العـالم الإسـلامي شيء يمكن إدراكه بوضوح، فالناس هنا أو هناك يأخذون بناحية ما يعدونه أكثر سهولة ويسرا" (ص69).
- العجز عن إدراك روح الحضارة الغربية:
وهذا مظهر آخر من مظاهر قصور النخبة المتغربة، وهو هنا بمثابة النتيجة للمظهرين السابقين، فالثقافة الفوضوية الخالية من المنهج والروح، والمعرفة السطحية، أدتا إلى عجز المثقف المسلم الذي تثقف ثقافة غربية عن إدراك روح الحضارة التي يظن نفسه انخرط فيها وفي ثقافتها. [ ص: 156 ]
وبحسب بن نبي، يمكن بيان هذا العجز من خلال المظاهر التالية:
أ- النظرة (الثنوية) للحضارة الغربية: يقول بن نبي: "فنظر الطالب المسلم إلى الحضارة خاضع للقيود النفسية التي صنعت بيئة ما بعد الموحدين، تلك التي تجعل للأمر احتمالين: فهو إما طاهر مقدس، وإما دنس حقير، دون أن تعرف بينهما وسطا". (ص 66).
ب- عدم التعمق في مفهوم الثقافة ومن ثم إدراك أبعادها: "فهو حين انتقل من دراسة علوم الدين إلى العلوم الحديثة، لم يقف عند (فكرة الثقافة)، وإنما انطلق واضعا على عينيه غشاوة تحول بينه وبين تأمل الحضارة إلا من جـانبها النظـري، أو أشيائها التافهـة، تجاوبا مع استعـداده الخاص للجد أو للهزل، وبهذا الاستعداد ينتسب - عموما - إلى كلية ما، في عاصمة من العواصم الأوروبية" (ص66- 67).
وهذه السطحية، جعلته يذهل عن التحول الذي حصل في الثقافة الغربية، حيث لم تعد ثقافة حضارة، وإنما استحالت بتأثير الاستعمار والعنصرية (ثقافة إمبراطورية) (ص68).
ومما يدل أيضا على أن الطالب المسلم (الذي اتصل بالحضارة الغربية = النخبة المتغربة) لم يتعمق في فهم وإدراك بنية الحضارة الغربية وثقافتها، أنه "اكتفى بقراءتها، أي أنه تعلمها دون أن يتذوقها" (ص68).
ج- الوقوف عند مظـاهر الحضارة وأشيائها: فالعجز عن تعمق الحضارة الغربية، جعل العقل المسلم حبيس المظاهر والأشكال، لا يكاد [ ص: 157 ] يتجـاوزها بحثا عن الدوافع الأخلاقية أو الجمالية أو العلمية أو التطبيقية، وهي - كما أسـلفنا - أسس الفعل الثقافي كما هي نظرية بن نبي في الثقافة ومكوناتها.
يصف بن نبي هذه الظاهرة من خلال الصورة التي يعطيها (للحي اللاتيني)، وهو يمثل تجسيدا للطريقة التي تفاعل من خلالها (العقل المسلم/الشرقي) مع الحضارة الغربية، يقول: "إن الأحياء اللاتينية واحدة في كل مكان، وهي تعرض دائما الجانب العلمي الجدلي من الثقافة، كما تعرض الجانب السطحي بمسراته وملاهيه، والطالب لا يمكنه أن يرى فيها تطور الحضارة، وإنما يرى هنا منها نتيجتها، فهو لا يرى المرأة التي تجمع قبضات العشب لأرانبها، وإنما يرى تلك التي تصبغ أظافرها وشعرها، وتدخن في المقاهي والندوات، وهو لا يرى الصانع والفنان منكبين على عملهما ليحققا فكرة في صفحة المادة، لأنه وقد خضع لتأثير معنى المنفعة لم يعد يلاحظ الطاقات الخفية، الطاقات التي تخلق القيم الأخلاقية والاجتماعية، والتي تجعل الإنسان المتحضر في وضع يمتاز فيه عن الإنسان البدائي، فإن الثقافة تبدأ متى تجاوز الجهد العقلي الذي يبذله الإنسان حدود الحاجة الفردية.
ولن يتـاح له أيضـا، أن يدرك الجانب العام من الحضارة، ذلك الجانب الذي يغـذي نشـاط الإنسـان المتحـضر، ويهب عبقريته الدفعـة الخالقة، وكم كان حقـا ما قاله بعضهم من أن (الأفكار الكبيرة إنما تنبع من القلب). [ ص: 158 ]
لقد خرج ذلك الطالب من عالم باع آثاره ومخطوطاته للسائحين الأمريكيين، فإذا ذهب إلى مجال الحياة الأوروبية، فلن يستطيع أن يجد معنى لتعلق الأوروبي (بالأشياء القديمة)، التي تصل الماضي بالمستقبل، بل لن يلاحظ كيف يتعلم الطفل معـنى الحياة، واحتـرام الحياة، وهو يدلل قطة أو يغرس زهرة، بل لن يلفت نظره ذلك الفلاح الكادح وهو يقف في نهاية خط محراثه ليحكم على عمله متفاعلا مع التربة، تفاعلا هو الخميرة التي تصنع منها الحضارات.
بل لن يفيد درسا من بعض الأعمال التي تعد ضربا من الجنون، كجنون ذلك العبقري (برنارد باليسي) وهو يحرق آخر أمتعته وأرضية حجرته كي يحصل على طلاء (المينا)، بل لن يرى ذلك الجـانب الرهيب من تلك الحضـارة التي أدمجـت الناس في سلسلة إنتاج، تتولاهم خلالها الآلة فتنهكهم، وتستنـزف دماءهم، وتحيلهم (أجهزة من لحم ودم)، بل لن يرى المرأة الأوروبيـة تغادر مسـكنها لتكسب بعرقها كسرة الخبز، في جو يهدر كرامتها فيحرمها أنوثتها، كما يحرم الرجل رجولته... ولن يرى أيضا هذا الجانب المفزع من الحضـارة الأوروبية، الذي يعد مجتمع ما بعد الموحـدين - مهما احتوى من انحطاط - بالقياس إليه ممتازا في بعض نواحيه، ممتازا أحيانا على حضـارة فقدت معنى الإنسان، وكيف يراه وعلى عينيه غشاوة من المادية اللاشعورية والغرام الشديد بالمنفعة العاجلة" (ص 67- 68 ). [ ص: 159 ]
هكذا إذن تقف النخبة المثقفة ثقافة غربية، في نقطة التيه، عاجزة عن إدراك حقيقة الحضارة الغربية، ومن ثم عاجزة عن رؤية إيجابياتها الحقيقية وسلبياتها القاتلة، فهي في حالة انبهار واندهاش، وغياب عن الوعي، وأنى لعقل غائب أن تكون منه هداية أو دلالة على الطرق السليمة للخروج من الأزمة!
وهذا التخبط في إدراك المخرج، قاد النخبة المتغربة إلى نتيجتين، لا زلنا إلى اليوم نلمس آثارهما - وقد مضى على تشخيص بن نبي أكثر من نصف قرن -، هاتان النتيجتان هما:
الأولى: خواء الخطاب الحداثي: وذلك بأن فقد فيه الكلام فعاليته، والكلمات معانيها، فهو يحدث الناس - شأنه في ذلك شأن الخطاب الإصلاحي في بعض جوانبه - حديثا يفصل بين الفكرة وتجلياتها في الواقع... فهو خطاب مجرد من كل طاقة اجتماعية أو قوة أخلاقية (ص69-70).
الثانية: افتقاره إلى مشروع بناء: يقول بن نبي: "فالحركة الحديثة، ليس لها في الواقع نظرية محددة، لا في أهدافها ولا في وسائلها، والأمر بعد هذا لا يعدو أن يكون غراما بالمستحدثات، فسبيلها الوحيد هو أن تجعل من المسلم (زبونا) مقلدا - دون أصالة - لحضارة غربية تفتح أبواب متاجرها أكثر من أن تفتح أبواب مدارسها، مخافة أن يتعلم التلاميذ وسائل استخدام مواهبهم في تحقيق مآربهم" (ص71).
والنخبة المثقفة ثقافة غربية، ازدادت مع مرور الزمن خطورتها في الأمة، إذ بعد انقضاء مرحلة الاستعمار، ودخول العالم الإسلامي مرحلة (الدولة [ ص: 160 ] الوطنية)، وجدت تلك النخبة نفسها في مواقع صنع القرار، ووجد فيها الاستعمار ما يضمن بقاءه واستمرار مصالحه في حياتنا السياسية والثقافية والاقتصادية... ووجدت المجتمعات العربية نفسها في تبعية لا تختلف كثيرا عما كانت عليه قبل (الاستقلال).
والأخطر من هذا كله، أن النخب المتغربة، دأبت على قيادة الأمة في المسارات الخاطئة، تحت شعارات التحديث ومقولات اللحاق بالغرب.
وبن نبي الذي كتب (وجهة العالم الإسلامي) في النصف الأول من القرن العشرين، ونبه إلى خصائص هذه النخبة، عاد ليحذر من خطورة مسلكها عندما كتب في خاتمة واحد من أواخر كتبه: "فالعالم الإسلامي اليوم تتقاذفه أفكار متناقضة، الأفكار التي تضعه وجها لوجه مع مشكلات الحضارة التقنية دون أن تؤصله نماذجه السلفية، رغم جهود مصلحيه المشكورة.
وبدافع الافتتان، أو بسائق منزلقات وضعت تحت قدميه، فهو معرض لخطر الانجراف في الأيديولوجيات الحديثة، في الوقت الذي بدأ يكتمل إفلاسها في الغرب حيث ولدت.
وإذ كان يحاول أن يقتـفي أثر أوروبا في سـائر الميادين، كما يبدو من أجوائه، أو ربما رغبة (غير معلنة من نخبته)، فإنه معرض لخطر السير متخلفا عن التاريخ بمرحلة، بمعنى أنه لا بد أن يعيد على حسابه جميع التجارب التي أخفقت" [4] . [ ص: 161 ]
- سر الفشل المزدوج:
من خلال النقد الذي وجهه بن نبي لجهود (النهضة) بشقيها، الإصلاحي والتجديدي، يظهر للقارئ أن تلك الجهود قد منيت بفشل مزدوج، قسم ولا يزال يقسم مجتمعاتنا إلى اليوم... فلا الإصلاحيون (وامتداداتهم في الحركة الإسلامية) استطاعوا أن يحققوا مشاريعهم على أرض الواقع، ولا التجديديون (وامتداداتهم في الحداثيين والعلمانيين) وصلوا إلى غاياتهم، وإنما كان حصيلة هؤلاء وأولئك (مكاسب) فرضتها التوازنات السياسية الظرفية، ولا يمكن بأي حال من الأحوال، عدها انتصارات للأفكار والمشاريع.
- فما السر الكامن وراء هذا الفشل المزدوج؟
يجيب بن نبي عن هذا السؤال، بإعادة ربط الحركات النهضوية بشقيها، بالواقع،... واقع إنسان ما بعد الموحدين.
فلا الإصلاحي استطاع التخلص من معوقات التخلف الثقافي التي تربى عليها في مجتمعه وتلقاها من تراثه.
ولا التجـديدي استـطاع الإفـلات من ذات المعوقات، وإن اتصل - في الظاهر- بالثقـافة الغربية؛ لأنه أخذ من الغرب ثقافة بلا روح وأشكالا بلا معنى. [ ص: 162 ]
وهذا الفشل المزدوج، يتجلى - كما بين بن نبي- في الخطاب الذي استعمله الإصلاحيون والتجديديون، فهو خطاب واحد من حيث جوهره القاصر، وإن بدا خطابين من حيث الشكل الظاهر.
يقول: "فالكلام الذي انطلق خلال الحركة الإصلاحية، وخاصة منذ قضاء زعمائها الكبار، لم يكن قائما على ضرورة اجتماعية، كما أن الكلام الذي أطلقته الحركة الحديثة لم يكن يهدف إلى إحداث أثر، بل لم يكن يستتبع دفع الكلمات دفعا إلى مجال العمل.
فالخطـأ الذي وقـع فيه المحدثون ودعاة الإصلاح، ناتج أن كليهما لم يتجه إلى مصدر إلهامه الحق... فالإصلاحيون لم يتجهوا إلى أصول الفكر الإسلامي، كما أن المحدثين لم يعمدوا إلى أصول الفكر الغربي" (ص70).
وهذه من عللنا الثقافية، وهو ما يمكن أن نسميه (ظاهرة الأصول والنسخ المشوهة) ، فالتيـاران اللذان يقسمـان الأمة اليوم، يعانيان بشكل أو بآخر من هذه الظاهرة، فأنت تستمع لمن يحدثك عن الفكر الإسلامي ورموزه وهو نسخة مشوهة عنه، فقد تجد متشيعا لابن تيمية، وهو لم يبلغ معشار ما كان عليه الرجل من سعة إطلاع وقدرة على سجال الخصوم!!
وتجـد في الطـرف المقـابل من يحدثك عن الفكر الغربي ورموزه وهو نسخـة مشوهـة عنه، يكلمـك عن ماركس أو دريدا أو فوكو وهو لم يستوعب فلسفة أي منهم فضلا عن أن يبدع كما أبدعوا!! [ ص: 163 ]