بلاغة النص القرآني
- النص القرآني والسمت النظمي:
من مزايا الكلام الجيد البليـغ، تميز صـاحبه ببعض العبارات الأدبية أو النماذج الخاصة التي تقترن باسمه، فإن استعملها أحد بعده فعلى سبيل النقل والتأثر أو الاستفادة، وتتميز هذه النماذج المتفردة بدقة النظر وغموض المسلك، في توخي الصور والمعاني، وهذا هو الذي عبر عنـه شيخ البلاغة عبد القاهر بقوله: "واعلم أن الاحتذاء عند الشعراء وأهل العلم بالشعر وتقديره وتمييزه أن يبتدىء الشاعر في معنى له وغرض أسلوبا، والأسلوب الضرب من النظم والطريقة فيه، فيعمد شاعر آخر إلى ذلك الأسلوب، فيجيء به في شعره"، ومـا من شاعر مـجيد إلا وله أنموذج يعرف به ويحتذى، وهو ما يعرف في لغة العلم بالأسلوب أو النمط أو الأنموذج الخاص Paradigm أو النسق أو الطريقة أو الضرب أو المذهب أو النحو أو المنحى... ونستطيع أن نحصي مئات النماذج لأجاود الشعراء لأنها معان مبتكرة وأوضاع غير مسبوقة، ولو تأملنا لوجدنا القرآن الكريم سباقا إلى الأوضاع الجديدة والنماذج الأسلوبية المتفردة التي يجمعها قولك "النظم القرآني" أو النظم المخصوص ولوجدنا الحديث النبوي الشريف محتذيا كتاب الله تعالى، من خلال ما يعرف في البلاغة النبوية بجوامع الكلم، كقوله صلى الله عليه وسلم : "الآن حمي الوطيس" [1] ... ولوجدنا لكل عصر مئات النماذج المنتقاة. ونضرب على [ ص: 35 ] ذلك مثـالا من القرآن الكريم، من قـوله تعالى: ( ولما سقط في أيديهم ... ) (الأعراف:149)، (الفعل: سقط في يده، يضرب لمن ندم)، قـال أبو القاسـم الزجاجي: "سقط في أيديـهم نظم لم يسمع قبل القرآن، ولا عرفته العرب، ولم يوجد ذلك في أشعارهم، والذي يدل على ذلك أن شعراء الإسلام لما سمعوا هذا النظم واستعملوه في كلامهم خفي عليهم وجه الاستعمال لأن عادتهم لم تجر بـه" [2] .
ومما يجذب الانتباه في هذا الباب قوله تعالى: ( ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ) (فاطر:43)، والمعـنى: لا ينـزل المكر ولا يجـاوز ولا يحيط إلا بأهله. ومثل هذه الآية في القرآن الكريم كثير مما يجري مجرى الأمثال، وهذا هو النوع البديعي المسمى بإرسال المثل، من ذلك قوله تعالى: ( ليس لها من دون الله كاشفة ) ، ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) ، ( الآن حصحص الحق ) ، ( وضرب لنا مثلا ونسي خلقه ) ، ( ذلك بما قدمت يداك ) ، ( قضي الأمر الذي فيه تستفتيان ) ، ( أليس الصبح بقريب ) ، ( وحيل بينهم وبين ما يشتهون ) ، ( لكل نبإ مستقر ) ، ( ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ) ، ( قل كل يعمل على شاكلته ) ، ( وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ) ، ( كل نفس بما كسبت رهينة ) ، ( ما على الرسول إلا البلاغ ) ، ( ما على المحسنين من سبيل ) ، ( هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ) [ ص: 36 ] ، ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ) ، ( آلآن وقد عصيت قبل ) ، ( تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ) ، ( ولا ينبئك مثل خبير ) ، ( كل حزب بما لديهم فرحون ) ، ( ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ) ، ( وقليل من عبادي الشكور ) ، ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) ، ( لا يستوي الخبيث والطيب ) ، ( ظهر الفساد في البر والبحر ) ، ( ضعف الطالب والمطلوب ) ، ( لمثل هذا فليعمل العاملون ) ، ( وقليل ما هم ) ، ( فاعتبروا يا أولي الأبصار ) .
فما أجمل هذه الآيات وما أبدعها وما أخصها بالقرآن الكريم ذي النظم البديع والأسلوب الفريد المتميز.
وهكذا فإذا قلنا: إن الشعر متفرد بنظمه وأساليبه وعباراته ونماذجه الفذة؛ فإن القرآن الكريم من باب أولى وأحرى أن نتحدث فيه عن التباس (ترابط) المعاني فيما بينها في العبارة الواحدة، وتماسكها واتساقها وكأنها صبت في ذلك القالب اللغوي إصبابة واحدة وسبكت سبكا واحدا، ولم يعد للفظ الواحد وجود إلا بسابقه وتاليه، ولو أبدلت لفظا مكان لفظ لارتبك التعبير واضطرب ولخرج من باب البلاغة إلى باب الكلام المألوف، فلما أخرجت عبارات القرآن العظيم ذلك الإخراج الكريم تميز بناؤه اللغوي والبلاغي وتفردت عباراته البديعة، وأصبحت أمثالا تضرب ونماذج تحتذى، مما لم يسمع مثلها في بلاد القول.
فتبين من هذه الجهة أن أخص أسباب ارتقاء النظم القرآني والعبارة القرآنية، في الظهور والغلبة، والتميز والتفرد، "فلو جاء القرآن مثل كلام [ ص: 37 ] العرب في الطريقة والمذهب، وفي الصفة والمنزلة لما صلح أن يكون سببا لما أحدثه، ولذهب مع كلام العرب، ثم لتدافعته العصور والدول إن لم يذهب، ثم لبقي أمره كبعض ما ترى من الأمور الإنسانية؛ لا ينفرد ولا يستعلي" [3] .
ففي القرآن الكريم وحديث النبي صلى الله عليه وسلم، من العبارات النوابغ، والكلم الجوامع، والنعم السوابغ، ما أنعم به الله على هذه الأمة، فاقتفت آثار العبارات البليغة، ونسجت على منوالها ما به يسمو كلامها، وهذا مبحث طويل وباب واسع لمن أراد أن يلجه.
وسنتحدث في هذا العرض عن النص القرآني بوصفه كلام الله سبحانه وتعالى من أوله إلى آخره، ليس فيه حرف مقحم ليس منه، ولا حرف مسقط هو منه، ولا حرف مغير عن مكانه، ولا حرف زائد يستغنى عنه، ولا حرف وضع في غير موضعه وغيره أولى منه في ذلك المكان.
وإذا كان كل ذلك منفيا عن القرآن الكريم، بدليل من نصوص القرآن الكريم وتراكيبها ودلالتها، انتهينا بالعقل والنقل إلى أن القرآن الكريم من أوله إلى آخره نص واحد كامل متكامل، متماسك مؤتلف، ليس فيه فراغ ولا زيادة ولا نقصان ولا تغيير ولا تبديل ولا تحريف. فمن أين جاء هذا الائتلاف وهذا الانسجام وهذا التماسك، أو هذه النصية البليغة؟ ومن المعلوم أن علماء علوم الآلة (النحو والبلاغة والأدب) وعلماء علوم القرآن الكريم (التفسير وعلم أسباب النزول والناسخ والمنسوخ والوقف والابتداء [ ص: 38 ] والقراءات...) وعلماء الأصول والفقه، حاولوا، على تفاوت بينهم، أن يثبتوا لنا صفات الكمال والإعجاز والتماسك والانتظام في النص القرآني، وأن يثبتوا لنا أن هذه الوحدة إنما هي وحدة البنيان. فما هي مظاهر هذا الجمال في هذا البنيان المشيد؟
الحقيقة أن نصوص القرآن الكريم تعالج من جهتين:
- من جهة كون الإعجاز القرآني حقيقة عقدية وشرعية وعلمية، وليس مقصورا على الإعجاز البياني والنظمي، على نحو ما فهمه كثير من القدماء والمعاصرين الذين ركزوا على جانب النظم وحصروا فيه مزايا الإعجاز وقصروها عليه، وغفل كثير منهم عن أسرار أخرى للإعجاز كأمور الغيب وحقائق التاريخ والفهم الدقيق لمكنون النفس البشرية وحسن مخاطبتها في الإرشاد والهـداية، وعجـائب آيات الله في خلقه وغير ذلك مما اكتشفه وما زال يكتشفه المتخصصون في كل حقل من حقول المعرفة [4] ، وما زالت جوانب الإعجاز تظهر وتسع باتساع دائرة المعرفة الإنسانية: ( إن هو إلا ذكر للعالمين * ولتعلمن نبأه بعد حين ) (ص:87-88).
- ثم من جهة كون القرآن كله وحدة بنائية بكل سوره وآياته وأجزائه وأحزابه وكلماته، كالجملة الواحدة أو البناء المحكم الذي يمتنع [ ص: 39 ] اختراقه لمتانته وقوته [5] ، ولا يقبل بناؤه وإحكام آياته التعدد فيه أو التجزئة في آياته، ولولا هذه الوحدة البنائية لما استوعب القرآن "خبر ما بعدنا" حيث استوعب مستقبل البشرية [6] .
وعليه، جاء هذا العرض ليضع اليد على أهمية المقاربة النصية اللسانية في معالجة دلالات النصوص وبنياتها، حتى يبلغ بهذا المنهج اللساني النصي درجة من الدقة في فهم النصوص، ويتجنب المزالق في الفهم ومواطن الخلل فيه، وهي مزالق ناتجة عن إخراج النص عن مواضعه ومقاصده، والنص القرآني الكريم أولى النصوص بالعناية والاهتمام، وهذا باب كبير من أبواب العلم ينبغي أن تصرف إليه العناية، ويبلغ في ذلك العلماء الغاية، وفي ذلك قال الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي: "لما كان القرآن العزيز أشرف العلوم كان الفهم لمعانيه أوفى الفهوم؛ لأن شرف العلم بشرف المعلوم" [7] . وقد بدأ يظهر في ساحة المناهج مقاربات نصية حديثة تقوم على التماس مواطن الانسجام والتماسك في بناء النص القرآني والبحث عن كل عناصر التساند في البنية اللفظية والمضمون الدلالي والمقاصد الشرعية، التي تقود إلى طريق نهجة في النظر السديد والتأويل المفيد، بعد أن نال التفسير ما ناله من شطط في الفهم وابتعاد عن روح النص ومقاصده العليا. [ ص: 40 ]
ففي المقاربة النصية ما يخدم الغرض ويفيد في الاستدلال على أسرار النص القرآني وأعماقه الجمالية والنصية، التي ترتكز على الاستمداد من بنيته النصية نفسها، التي تتوافق وسياقه الخارجي ومقاصده العليا ولا تعارضها، وفي هذه المقاربة النصية أيضا رد حجاجي برهاني على الأقاويل التاريخانية والأباطيل التأويلية والنظريات الفـلسفية المستـوردة التي تعتسف الطريق إذ تتخذ من النص القرآني، قسرا، مطية لشحذ أسلحتها وتحمله وجوها من الفهم وأفكارا بعيدة لا يؤيدها السياق الخارجي الذي أحاط بنـزول النص ولا يؤيدها الخطاب العلمي الذي رافقه وبين منهج فهمه وتنزيله والاستنباط منه، من سيرة نبوية وسنة وسير صحابة واجتهاد علماء وتفسير مفسرين واستنباط فقهاء، مع التأكيد أن الاعتماد على تلك العتبات أو النصوص الموازية والمرافقة، لن يسقط عن الناظر في النص القرآني، العارف بشروط الفهم والتفسير وقواعد الاستنباط، الإقرار بأن بسط الدين على واقع الناس لا بد أن يأخذ بعين الاعتبار قضايا العصر ومشكلات الناس الذين هم محل الحكم الشرعي، وهي أمور وقضايا تستلزم البحث في علوم الآلة الجديدة، المسماة اليوم بالعلوم الاجتماعية والإنسانية، فإن هذه العلوم المستحدثة تعد إلى جانب الأدوات القديمة المألوفة، أدوات ضرورية لفهم الواقع وإدراك أبعاد الإنسان. وتقدم من المعارف والنتائج ما تصبح معه ضرورة شرعية.
إن تنـزيل أحكام الشريعة المستنبطة من النص القرآني على واقع الناس إنما يراعى فيه هذا الواقع بأعرافه وتقاليده ونظمه وأسلوبه في الحياة وثقافته [ ص: 41 ] وفكره، وهي خصوصيات جديرة بأن تراعى في فهم النص والاستنباط منه لتنـزيل الأحكام، إذا كانت تستحق ذلك ولا تعارض صريح الدين والقطعي من الأحكام، فيكون هذا الاجتهاد في فهم النص واستيعاب حقيقته مبنيا على أدب خاص وقواعد تتناسب وطبيعته، وتستخدم فيه وسائط آلية للتحليل والتصنيف والرصد، قائمة على أسس علمية غير متروكة للتلقائية والعفوية.