15- نموذج تطبيقي:
نموذج تطبيقي للانسجام والتماسك في النسق القرآني: سورة البقرة أنموذجا، على تماسك البنيان وإحكامه [1] :
وهو أنموذج من السور المتجمعة التي التأمت منها سلسلة واحدة من الفكر تتلاحق فيها الفصول والحلقات، ونسق واحد من البيان تتعانق فيه الجمل والكلمات، فقد جمعت السورة بضعا وثمانين ومائتي آية، واشتملت من أسباب نزولها نيفا وثمانين نجما، وكانت الفترات بين نجومها تسع سنين عددا. ففيها ذكر تحويل القبلة، وذكر صيام رمضان، وذكر أول قتال وقع في الإسلام فنزل بسببه قوله تعالى: ( يسألونك عن الشهر الحرام ) (البقرة:217)، وكل أولئك كان نزولهن في أوائل السنة الثانية من الهجرة. وفيها تلك الآية الخاتمة التي نزلت في آخر السنة العاشرة من الهجرة، وهي آخر آية من القرآن: ( واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ) (البقرة:281)، وفيها ما بين ذلك.
وتشترك السورة وباقي سور القرآن كله في الاشتمال على جملة الوشائج اللفظية والمعنوية التي تربط أجزاء السورة الكريمة بعضها ببعض، وفي كل قطعة من قطع السور أسباب ممدودة، في شبكة من العلائق المحكمة النسج.
ولسورة البقرة خط سير إلى غاية، ووحدة نظام معنوي في جملتها، [ ص: 90 ] تدل عـليه ما يوافقها من نظام لفظي موزع في سلسلـة ذات حلقات. ولا يتصور النسق العام للسورة إلا بإحكام النظر في السورة كلها أولا، قبل البحث عن الصلات الموضعية بين الجزء والجزء، وهي تلك الصلات المبثوثة في مثاني الآيات ومقاطعها، فلا بد أن يحكم النظر في السورة كلها بإحصاء أجزائها وضبط مقاصدها على وجه يكون عونا على السير في تلك التفاصيل على بينة؛ فالسورة مهما تتعدد قضاياها فهي كلام واحد يتعلق آخره بأوله، وأوله بآخره، ويترامى بجملته إلى غرض واحد، كما تتعلق الجمل بعضها ببعض في القضية الواحدة. وإنه لا غنى لتفهم نظم السورة عن استيفاء النظر في جميعها، كما لا غنى عن ذلك في أجزاء القضية.
ويضرب الإمام الشاطبي [2] لذلك أمثلة من بعض السور، منها سورة البقرة، فهي كلام واحد باعتبار النظم، واحتوت على أنواع من الكلام بحسب ما بث فيها، منها ما هو كالمقدمات والتمهيدات بين يدي الأمر المطلوب، ومنها ما هو كالمؤكد والمتمم، ومنها ما هو المقصود في الإنزال، وذلك تقرير الأحكام على تفـاصيل الأبواب، ومنهـا الخواتم العائدة على ما قبلها بالتأكيد والتثبيت وما أشبه ذلك.
والمثال على ما تقدم قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) [ ص: 91 ] (البقرة:183) إلى قوله تعالى: ( كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون ) (البقرة:187)، فهـذا كلام واحـد، وإن نزل في أوقات شتى، وحاصله بيان الصيام وأحكامه وكيفية آدابه وقضائه وسائر ما يتعلق به من الجـلائل الـتي لا بد منها ولا ينبـنى إلا عليها. ثم جـاء قوله: ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) (البقرة:188) الآية، كلاما آخر بين أحكاما أخر.
وقوله: ( يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ) (البقرة:189)، وانتهى الكلام -على قول طائفة- وعند أخرى أن قوله: ( وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ) (البقرة:189) الآية، من تمام مسألة الأهلة، وإن انجر معه شيء آخر. وقوله تعالى: ( إنا أعطيناك الكوثر ) (الكوثر:1) نازلة في قضية واحدة.
وسـورة ( اقرأ ) نازلة في قضيتين: الأولى إلى قوله: ( علم الإنسان ما لم يعلم ) (العلق:5) والأخرى ما بقي إلى آخر السورة.
وسورة "المؤمنين" نازلة في قضية واحدة وإن اشتملت على معان كثيرة فإنها من المكيات وغالب المكي أنه مقرر لثلاثة معان أصلها معنى واحد وهو الدعاء إلى عبادة الله تعالى... وما ظهر ببادي الرأي خروجه عنها فراجع إليها في محصول الأمر. ويتبع ذلك الترغيب والترهيب والأمثال والقصص وذكر الجنة والنار ووصف يوم القيامة وأشباه ذلك. [ ص: 92 ]
فمن الخطأ البحث في تـلك الصلات الجـزئية مع غض النظر عن النظام الكلي الذي وقعت عليه السورة، ففي هذا الغض جور عن القصد، وإغفال لنواحي الجمـال في النظـم، وإغفـال لحسن التشـاكل بين الجملة والجملة.
- ومن مزايا القـرآن الكريم النظمية في سورة البقرة: حسن التأليف بين المختلفات:
ذكر الباقـلاني أن نظم القرآن العجيـب وتأليفه البديع "لا يتفاوت ولا يتباين، على ما يتصرف إليه من الوجوه التي يتصرف فيها، من ذكر قصص ومواعظ واحتجاج، وحكم وأحكام، وإعذار وإنذار، ووعد ووعيد، وتبشير وتخويف، وأوصاف... وغير ذلك من الوجوه التي يشتمل عليها. ونجد كلام البليغ والشاعر المفلق، والخطيب المصقع، يختلف على حسب اختلاف هذه الأمور... وإذا تأملت شعر الشاعر البليغ، رأيت التفاوت في شعره على حسب الأحوال التي يتصرف فيها، فيأتي بالغاية في البراعة في معنى، فإذا جاء إلى غيره قصر عنه، ووقف دونه، وبان الاختلاف في شعره... ثم نجد من الشعراء من يجود في الرجز، ولا يمكنه نظم القصيد أصلا، ومنهم من ينظم القصيد، ولكن يقصر تقصيرا عجيبا، ويقع ذلك من رجزه موقعا بعيدا... ومن الناس من يجود في الكلام المرسل، فإذا أتى بالموزون قصر ونقص نقصانا بينا... [ ص: 93 ]
وقد تأملنا نظم القرآن، فوجـدنا جميع ما يتصرف فيه من الوجوه على حد واحـد، في حسن النظـم وبديع التأليف والرصف، لا تفاوت فيه ولا انحطـاط عن المنـزلة العليا، ولا إسفاف فيه إلى الرتبة الدنيا.
وكذلك قد تأملنا ما يتصرف إليه وجوه الخطاب، من الآيات الطويلة والقصيرة، فرأينا الإعجاز فيها على حد واحد لا يختلف.
وكذلك قد يتفاوت كلام الناس عند إعادة ذكر القصة الواحدة، فرأيناه غير مختلف ولا متفاوت، بل هو على نهاية البلاغة وغاية البراعة، فعلمنا بذلك أنه مما لا يقدر عليه البشر؛ لأن الذي يقدرون عليه قد بينا فيه التفاوت الكثير، عند التكرار وعند تباين الوجوه..." [3] .
لقد ألف القرآن الكريم كثيرا بين المعاني المختلفة في السورة الواحدة، وألقى بينهـا تداعيا معنويا ونظميا، ولم يكن يسترسل في الحديث عن الجنس الواحد استرسالا يبعث على الملل، ولم يكن ينتقل من معنى إلى آخر انتقالا يخرجه إلى حد المفارقات التي تجمع أشتاتا من غير نظام. فلم يكن يدع الأجناس المختلفة والأضداد المتباعدة حتى يجاور بينها ويبرزها في صورة مؤتلفة، وحتى يجعل من اختـلافها نفسه قواما لائتلافها؛ فتقويم [ ص: 94 ] النسق وتعديل المزاج بين الألوان والعناصر المختلفة أشد عناء من تعديل أجزاء العنصر الواحد.
فالعبرة في ذلك كله: النظر إلى النظام المجموع والسلك العام المنتظم. وقد ضرب الأستاذ محمد بن عبد الله دراز، رحمه الله، مثلا بسورة البقرة، فهي سورة على طولها تتألف وحدتها من مقدمة، وأربعة مقاصد، وخاتمة. فأما "المقدمة" ففي التعريف بشأن القرآن الكريم، وبيان أن ما فيه من الهداية قد بلغ حدا من الوضوح لا يتردد فيه ذو قلب سليم. وإنما يعرض عنه من لا قلب له، أو من كان في قلبه مرض.
وأما "المقصد الأول" ففي دعوة الناس كافة إلى اعتناق الإسـلام.
وأما "المقصد الثاني" ففي دعوة أهل الكتاب دعوة خاصة إلى ترك باطلهم والدخول في هذا الدين الحق.
وأما "المقصد الثالث" ففي عرض شرائع هذا الدين تفصيلا.
وأما "المقصد الرابع" ففيه ذكر الوازع والنازع الديني الذي يبعث على ملازمة تلك الشرائع وينهى عن مخالفتها.
وأما "خاتمة" السورة ففي التعريف بالذين استجـابوا لهذـه الدعوة الشاملة لتلك المقاصد وبيان ما يرجى لهم في آجلهم وعاجلهم [4] . [ ص: 95 ]
هذه السـورة تشتمل على مقدمة ومقاصد واختتام، مثلما تشتمل باقي السور على البناء، ولا شك أن أهم ما يطبع النص القرآني عنصر الاكتمال، آية كان أم سورة، وهذا ما يعبر عنه في لسانيات النص بعنصر الاختتام (Clôture)، والنص الذي لا يختم بخاتمة يفقد اتساقه وغائيته. اكتمال النص، مقوم من مـقومات النصية، وليس طـول النص أو حجمه أو أبعاده معيارا [5] .
وما يقال في سورة البقرة يقال في كل سورة من سور القرآن الكريم، فلكل سورة وحدة موضوعية تشد أجزاء السورة وتربط آياتها ومعاني جملها، وما اشتملت عليه السورة من معان جزئية إنما هو مشتق من الموضوع الكلي للسورة أو موصول به بوجه من الوجوه [6] . [ ص: 96 ]