- صفة المصطفى صلى الله عليه وسلم الخلقية:
ولقد تمثل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبهى صورها، وأكمل معانيها، كيف لا، وهو الذي وصفه الحق عز وجل بقوله: ( وإنك لعلى خلق عظيم ) (القلم:4). وتواتر عن الصحابة، رضوان الله عليهم، وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بحسن الخلق، ومن ذلك حديث أنس بن مالك، رضي الله عنه، الذي وصف فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وصفا مجملا بقوله: "كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأشجع الناس وأجود الناس" [1] ، ورغـم هذا وذاك كان يدعو ربه عز وجل إذا قام في صلاته بأن يحسن خلقه، فيحكي ذلك علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، أنه كان صلى الله عليه وسلم يقول في صلاته: ( واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت ) [2] .
ولقد كان هديه صلى الله عليه وسلم في التعامل الأخلاقي مع من حوله معجزة من المعجزات النبوية، "فلقد عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهراني أعدائه من المشركين أكثر من نصف قرن، ثم أكمل مدة حياته يجاوره اليهود والمنافقون، فلم يستطع أولئك أن ينتقدوه بخلق من أخلاقه، وقد بذلوا [ ص: 45 ] أمـوالهم وسفـكوا دماءهم في حربه وقتـاله" [3] ، وهـذا يؤكد أن أخلاقه مما لم يجدوا فيها مطعنا، ذلك أنه مـؤيد في خلقه من الله عز وجل، فلقد أدبه ربه وأحسن تأديبه، كما جاء في الأثر [4] .
إن مما يجد المسلم الصعوبة فيه هو حصر أخلاقه صلى الله عليه وسلم ووصف حسنها وكمالها، ولكن هذا لا يمنع من الإشارة إلى بعضها وإن لم يستوفها القلم، فقد كان صلى الله عليه وسلم من أشجع الناس، قال عنه البراء بن عازب، رضي الله عنه: ( كنا والله إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به، يعني النبي صلى الله عليه وسلم ) [5] ، وقال عنه أنس بن مالك، رضي الله عنه: "كان أشجع الناس" [6] . ومواقفه صلى الله عليه وسلم في المعارك مشهودة، ومنها في معركة أحد، يروي ابن هشام واصفا أحد تلك المواقف بقوله: "فلما أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول: أين محمد؟ لا نجوت إن نجا. فقال القوم: يا رسول الله، أيعطف عليه رجل منا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعوه، [ ص: 46 ] فلما دنا منه تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة، فلما أخذها منه انتفض انتفاضة تطايروا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله، وأبصر ترقوته من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة فطعنه فيها طعنة تدأدأ - تدحرج - منها عن فرسه مرارا" [7] .
وكان صلى الله عليه وسلم أشد الناس تواضعا، والتواضع خلق كريم يدعو صاحبه المتحلي به إلى عدم الترفع على الآخرين أو الاستعلاء عليهم، لذا كان صلى الله عليه وسلم يجيب من دعاه، من غني، أو فقير، أو شريف، أو كان من عامة المسلمين. وكان يحب المساكين، ويشهد جنائزهم، ويعود مرضاهم، لا يحقر فقيرا.. ومن تواضعه صلى الله عليه وسلم أنه كان يركب ما يحتاجه ويتيسر، فقد ركب الفرس، وركب البعير، وركب الحمار، والبغلة، وكان يردف خلفه عبده أو غيره، وكيف لا يفعل ذلك صلى الله عليه وسلم وهو القائل: ( ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله ) [8] . وكان من وصاياه صلى الله عليه وسلم لأمته: ( إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغ أحد على أحد ) [9] ، ومن تواضعه صلى الله عليه وسلم ، أنه كما قالت السيدة عائشـة، رضي الله عنها، لما سئلت: ماذا يصنع في بيته، فقالت، [ ص: 47 ] رضي الله عنها: ( كان في مهنة أهله ) [10] ، وتفسر السيدة عائشة، رضي الله عنها، مهنة أهله، التي يكون عليها في بيته، فتقول: "يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويرقع دلوه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه، ما كان إلا بشرا من البشر" [11] . ومن تواضعـه صلى الله عليه وسلم أن الأمـة من إمـاء المدينة ( لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت ) [12] ،
وفي فعله صلى الله عليه وسلم قمة التواضع، فالحديث يذكر المرأة دون الرجل، والأمة دون الحرة، وحيث عمم بلفظ الإماء أي أمة كانت، حتى لو كانت حاجتها خارج المدينة والتمست منه مساعدتها في تلك الحاجة على ذلك، وهذا دال على مزيد تواضعه وبراءته من جميع أنواع الكبر صلى الله عليه وسلم [13] ، وهل يفعل ذلك إلا الكمل من الناس؟
وكان صلى الله عليه وسلم من أسـخى الناس، وأكرمهم، وأجودهم، لا يرد سائلا، ولا يتـكاثر شيئا أعطاه، بل يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، ففي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: ( لو كان لي مثل أحد ذهبا لسرني أن لا تمر علي ثلاث ليال وعندي منه شيء إلا شيئا أرصده لدين ) [14] . ومما عرف عنه صلى الله عليه وسلم أنه [ ص: 48 ] ما سئل ( على الإسلام شيئا إلا أعطاه، فجاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين، فرجع إلى قومه، فقال: يا قوم أسلموا، فإن محمدا يعطي عطاء لا يخشى الفاقة ) [15] . وتصفه السيدة خديجة، رضي الله عنها، قبل مبعثه قائلة: ( إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق ) [16] .
ومن مظاهر جوده صلى الله عليه وسلم أن الأعراب تعلقت به في مرجعه من غزوة حنين، وضيقوا عليه ليعطيهم، حتى أنهم أخذوا رداءه صلى الله عليه وسلم ، فقال لهم صلى الله عليه وسلم : ( أعطوني ردائي، فلـو كان عدد هـذه العضاه نعما لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذوبا ولا جبانا ) [17] .
كما كان صلى الله عليه وسلم من أصبر الناس، بل هو إمام الصابرين، فعلى الرغم من ما مر عليه صلى الله عليه وسلم من محن وشدائد حين تبليغه كلمة الله، فلم يتبرم أو يتضجر يوما من الأيام، بل كان التفاؤل حاديه، ولقد صبر، عليه الصلاة والسلام، صبرا جميلا، مصداقا، وامتثالا لقول الحق: ( فاصبر صبرا جميلا ) (المعارج:5). والصبر الجميل هو: "الصبر الذي لا جزع فيه ولا شكوى إلى غير الله" [18] . ولقد كانت الشدائد تتوالى عليه صلى الله عليه وسلم ، وما تزيده إلا ثباتا [ ص: 49 ] وصبرا، فمن اليتم إلى فقد جده كافله بعد والديه، ثم موت عمه أبي طالب، وبعد ذلك وفاة السيدة خديجة، رضي الله عنها، وهي التي كانت تعينه وتصبره، ثم فقده لجميع أولاده عدا، السيدة فاطمة، رضي الله عنها، فكان صبره صبرا جميلا، وما زاد أن قال، عليه الصلاة والسلام، عند وفاة ابنه إبراهيم: ( إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون ) [19] .
ثم فقد عمه حمزة بن عبد المطلب، رضي الله عنه، في وقت كان أشد ما تكون الحاجة إليه، لذا قال عند استشهاده: "لن أصاب بمثلك أبدا" [20] . ومن الصور المشرقة لصبره صلى الله عليه وسلم ، صبره على الفقر، على الرغم من أنه كان يمكنه أن يكون أغنى أهـل الأرض، فعن السيدة عائشة، رضي الله عنها، أنـها قالت: ( إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، فقلت: يا خالة، ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان، التمر والماء ) [21] .
كما كان صلى الله عليه وسلم من أرحم الناس وأشفقهم، فهو رحمة من الله للعالمين، ويقول عنه عز وجل: ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (الأنبياء:107)، [ ص: 50 ] ويصفه الحق بقوله: ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ) (التوبة:128)، وقصته صلى الله عليه وسلم مع قومه من قريش حينما كذبوه، فذهب إلى الطائف لعله يجد من يتلقى دعوته وينصره ليبلغ كلمة الله، ولكنهم خذلوه وأغروا به صبيانهم وخدمهم، يرمونه بالحجارة حتى أدميت قدماه، فجاءه جبريل، عليه السلام، وهو عائد إلى مـكة، قائلا له: ( إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي، ثم قال: يا محمد، فقال ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهـم الأخشبين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا ) [22] . وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه يتلمس اليسر في الأمور، فعن السيدة عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت: "ما خير النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما" [23] . بل بلغت رحمته صلى الله عليه وسلم الحيوان، فثبت عنه، أنه أوصى بالرحمة حتى للحيوان، فيقول صلى الله عليه وسلم : ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم [ ص: 51 ] شفرته، فليرح ذبيحته ) [24] . وأمر من يصـلي بالناس أن يخفف عليهم؛ لأن فيهم الضعيف والكبير، فقال صلى الله عليه وسلم : ( إذا صلى أحدكم للناس فليخفف، فإن منهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء ) [25] .
وكان صلى الله عليه وسلم من أحلم الناس، "والحلم ضبط النفس عند وجود السبب المحرك لها، فلا يندفع الإنسـان، بل يتحمل ويحلم ويعفو.. ولا يملك الحلم إلا من استـطاع أن يضبـط نفسه ويهذبـها" [26] ، ومن يكـون كذلك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان لا ينتقم لنفسه، ولا يغضب لها، إلا أن تنتهك حرمات الله، فيكون لله ينتقم، ومن صور حلمه صلى الله عليه وسلم وضبطه لنفسه موقفه مع بعض الأعراب؛ يصف أنس بن مالك، رضي الله عنه، الموقف قائلا: ( كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذ بردائه جبذة شـديدة، قال أنس: فنظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد، مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء ) [27] ، [ ص: 52 ] قال ابن حجر تعليقا على الحديث: "وفي الحديث بيان حلمه صلى الله عليه وسلم وصبره على الأذى في النفس والمال والتجاوز على جفاء من يريد تألفه على الإسلام، وليتأسى به الولاة بعده في خلقه الجميل من الصفح والإغضاء والدفع بالتي هي أحسن" [28] .
وأثنى صلى الله عليه وسلم على من يتحـلى بهـذا الخلق، وهو الحلم فيقول للأشج، أشج بن عبد القيس، رضي الله عنه: ( إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم، والأناة ) [29] . وذكره صلى الله عليه وسلم لهاتين الخصلتين في معرض المدح، فالمحب لهما الله عز وجل.
وكان صلى الله عليه وسلم من أشـد الناس وفاء، وأكثرهم حفظا للعهد، فلا يخون، ولا يغدر، ولا يخلف وعد، وعرف بهذا حتى قبل مبعثه، فلقد وصفه أبو سفيان عند هرقل، في بدء مبعثه صلى الله عليه وسلم بأنه "يأمرهم بالصلاة، والصدق، والعفاف، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة" [30] . ومن صور وفائه حفظه لعهد السيدة خديجة بنت خويلد، زوجته الأولى، رضي الله عنها، ومن ذلك أنه كان صلى الله عليه وسلم يبش، وترتاح نفسـه لمن يذكره بها، ومن ذلك ماروته السيدة عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت: ( جاءت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف أنتم، [ ص: 53 ] كيف حالكم، كيف كنتم بعدنا؟ قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله. فلما خرجت قلت: يا رسول الله، تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟ فقال: يا عائشة، إنها كانت تأتينا زمان خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان ) [31] .
وهذا التعاهد منه صلى الله عليه وسلم لصويحبات السيدة خديجة، هو ما جعل عائشة بنت الصديق، رضي الله عنها، تقول: ( ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة، ولقد هلكت قبل أن يتزوجني بثلاث سنين، لما كنت أسمعه يذكرها، ولقد أمره ربه أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب، وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليذبح الشاة ثم يهدي في خلتها منها ) [32] .
وكما كان صلى الله عليه وسلم ملتزما بالوفاء في دائرة المحيط الصغير، الزوجة والأسرة، فهو أشد وفاء في أمور أعظم، ومنها الحرب والصلح والمعاهدات، ومن ذلك ما كان من وفائه مع قريش في صلـح الحديبية لما جـاءه أبو بصير رضي الله عنه ، فارا بدينه، وكان من شروط الصلح أن من جاء من المشركين إلى المسلمين ردوه إليهم، فلما بلغ أبو بصير رضي الله عنه ، رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء في طلبه رجلان منهم. فقالوا له صلى الله عليه وسلم : العهـد الذي جعلتـه بيننا. فدفعه إليهم، وقال صلى الله عليه وسلم : ( يا أبا بصير، إن هؤلاء القوم صالحونا على ما علمت، وإنا لا نغدر، فالحق بقومك. فقال: أتردني إلى المشركين يفتنوني عن ديني ويعذبونني؟ [ ص: 54 ] قال: اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك فرجا ومخرجا ) [33] . فالموقف كان صعبا جدا، وهو أن يرد مسلم إلى الكفار، وقد يفتن عن دينه، ولكنه العهد والوفاء به.
ومن صفاته صلى الله عليه وسلم الخلقية أنه كان أكثر الناس تبسما، فيصفه أحد الصحابة رضي الله عنه بقوله: "ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله صلى الله عليه وسلم " [34] ، وكان صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقـول إلا حقا، ففي الحديث أن بعض الصحابة، رضـوان الله عليهم، قالـوا له صلى الله عليه وسلم : ( يا رسول الله إنك تداعبنا، قال: إني لا أقول إلا حقا ) [35] . وكان من السماحة أنه يرى اللعب المباح فلا ينكره، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: ( بينا الحبشة يلعبون عند النبي صلى الله عليه وسلم بحرابهم دخل عمر فأهوى إلى الحصـى فحصبهم بها فقال: دعهم يا عمر ) [36] ، ولم يكتف صلى الله عليه وسلم بهـذا، بل جعل زوجه تنظر إليهم، فعن السيدة عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت: ( رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه وأنا أنظر إلى [ ص: 55 ] الحبشة يلعبون في المسجد، حتى أكون أنا التي أسأم، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو ) [37] .
ودخل عليه أبو بكر، رضي الله عنه، في يوم عيد، وبين يديه جاريتين تغنيان، وحاول، رضي الله عنه، أن يوقفها فمنعه الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتصف القصة السيدة عائشة، رضي الله عنها، قائلة: ( أن أبا بكر رضي الله عنه دخل عليها وعنـدها جـاريتان في أيام منى تغنيان وتدففان وتضربان والنبي صلى الله عليه وسلم متغش بثوبه، فانتهرهما أبو بكر، فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن وجهه فقال: دعهما يا أبا بكر، فإنها أيام عيد، وتلك الأيام أيام منى ) [38] .
ومن كمال خلقه صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن فاحشـا، ولا متفحشا، ولا سبابا، ولا لعانا. وإذا عاتب مما لا بد له من عتاب فلا يكون إلا بلطف، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قـال: ( لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم سبابا، ولا فحاشا، ولا لعانا، كان يقول لأحـدنا عنـد المعتبة: ما له، ترب جبينه ) [39] . وتربت يداك: أي افتقرت وصارت على التراب، وهي من الألفاظ التي تطلقها العرب عند الزجر ولا يراد بها ظاهرها. [ ص: 56 ]
ويجلي الصورة أكثر عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما، عن جانب من جوانب شخصيته صلى الله عليه وسلم فيقول: ( إن هذه الآية التي في القرآن: ( يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ) ، قـال في التوراة: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب بالأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح ) [40] .
لأجل ذلك كله وصفه الله عز وجل بقوله: ( وإنك لعلى خلق عظيم ) (القلم:4) والخلق العظيم هنا، كما ذكر بعض المفسرين، أنه الطبع الكريم، وحقيقته ما يأخذ به الإنسان نفسه من الآداب، فسمي خلقا؛ لأنه يصير كالخلقة في صاحبه [41] .