المجال الثاني: إصلاح محتويات مناهج العلوم الإسلامية:
لئن كانت الأهداف التعليمية تعنى بتحديد تلك القيم والمبادئ الثابتة، وضبط تلك الغايات المثلى، التي يسعى المعلم إلى إحداثها في حياة المتعلم، فكرا وسلوكا، فإن محتويات المناهج تمثل الميدان الذي يتم من خلاله ترجمة تلك الأهداف ترجمة عملية وتحويلها إلى واقع ملموس قابل للتقويم والمقايسة، مما يعني أن إصلاح الأهداف لا تحقيق له إذا لم ينعكس ذلك في المقررات والمواد التعليمية، التي يتوصل من خلالها إلى الأهداف المرسومة سلفا.
واعتبارا بتنـوع المواد والمقـررات والموضوعات، التي تتشابك وتتداخل عند الهم بترجمة الأهـداف وتطبيقها في الواقع، لذلك، لا غرو أن يختلط الحـابل بالنـابل عند تحديد المواد المناسبة والمعـبرة عن الأهداف التعليمية، ولا عجب أن تختلف الرؤى والأنظار حول ما ينبغي تقديمه وتأخيره من المواد حسب المراحل!
وانطلاقا مما أسلفناه من ضرورة كون الأهداف التعليمية متسمة بالوضوح والشمول، والواقعية، فإن هذه السمات الأساسية يجب أن تتسم بها المواد والمقررات المعبرة عن محتوى المناهج بصورة أكبر، ذلك لأنها في النهاية هي التي تعكس الأهداف وتترجمها، وتجعلها واقعا ملموسا.
وعليه، فإنه يمكن القول: إن هذه المحتويات ينبغي لها أن تنتظم كل "..الخـبرات والمعارف والمفاهيم والمهارات، التي تساهم في بناء الإنسان
[ ص: 117 ] الصـالح كله: وجـدانه، وعقله، وجسمه، تعتبر هامة ويجب تضمينها في محتوى المنهج.."
[1] .
نعم، ليس من مرية في أن أهم مسألة تتوجه إليها الأنظار عند الحديث عن إصلاح مناهج العلوم، هي مسألة المحتويات، وبتعبير أدق هي المادة التعليمية، التي تقدم للنشء لإحداث تغيير في فكره وسلوكه وتصرفاته مع نفسه، والعالم من حوله. بل إن سائر الهجمات والانتقادات التي توجه إلى مناهج العلوم الإسلامية تتركز في كثير من الأحيان حول المادة التعليمية، وذلك بحسبانها العنصر المؤثر والقادر على إحداث التغيير في فكر المتعلم وسلوكه، وباعتبارها الترجمة العملية والصياغة الواقعية للهدف التعليمي، مما يجعلها جديرة بوافر الاهتمام، وعظيم العناية.
واعتبارا بأن المعلومات والمعارف، التي تصاغ في شكل مقررات ومواد تعليمية لا تخلو من أن تكون أصولا عامة، وقواعد كلية، ومقاصد سامية تتسم بالثبات والخلود، وتسمو على المراجعة والتطوير والتغيير والتبديل، كما لا تخلو أن تكون تلك المعلومات فروعا، ووسائل، بل أحكاما اجتهادية لا تتسم بالثبات ولا تسمو على المراجعة والتطوير والتغيير والتبديل لتأثرها بظروف الزمان والمكان والحال، لذلك، فإنه ينبغي على القائمين على صياغة محتويات المواد التعليمية استحضار هذا الفرق العظيم بين مستويات المعلومات، ودرجات المعارف، التي توضع في المقررات بحيث يتم إبراز بعدي الزمان
[ ص: 118 ] والمكان فيما يقدم للنشء ليقوى على التفريق بين الثوابت والمتغيرات، وبين القطعي من الأحكام والظني منها، وبين الكلي من القواعد والجزئي منها، وبين المقاصد والوسائل.
إن إدراك الدارس هذا الفرق من شأنه حماية فكره وعقله من الخلط الفادح بين ثوابت الدين ومتغيرات العصر، كما أنه من شأنه صونه من اعتبار الثوابت متغيرات، واعتبار المتغيرات ثوابت، بل إن إدراك النشء المبكر لطبائع المعلومات والمعارف من حيث القطع والظن يحميه من الغلو والتطرف والتزمت والانغلاق مما يجعله قادرا على حسن تفهم (الآخر) وخاصة أخاه من أهل القبلة تفهما واعيا، فيتعامل معه في المتفق عليه بينهما، ويعذره فيما اختلفا فيه، اعتبارا بأن اختلافهما في المتغيرات، والمظنونات، والفروع، والوسائل اختلاف مشروع وواقع لا محال!
وفضـلا عن هذا، فإن إصـلاح محتويات المناهج يتطلب أيضا وعيا دقيقا للمراحل العمرية للنشء، وربط المعلومات والمعارف، التي تقدم له بتلك المراحل بشكل متوازن قائم على مراعاة كل مرحلة عمرية عند صياغة المقررات وتقديمها لهم!
ومن ثم، فإنه قمين بالقائمين على المؤسسة التعليمية في ديارنا تمكين مصممي المناهج مما بات يعرف في العصر الحديث بعلم النفس التربوي، الذي يعرف الدارس مراحل النمو المعرفي للطفل وخصائص كل مرحلة، وطرق التعامل معها بشكل مؤثر، إيجابا وسلبا!
[ ص: 119 ]
إن الالتفات إلى هذا البعد عند صياغة المقررات من شأنه انتقاء تلك المعلومات والمعارف المناسبة - كما ونوعا - للمرحلة العمرية للنشء من جهة، وحماية ذهنه من التشتت والتخبط إزاء ما يقدم له من معلومات ومعارف من جهة أخرى!
على أن مراعاة هذا البعد تقتضي ضرورة تعهد المناهج بالمراجعة الدائمة في ضوء ما يطرأ على المعارف والمفاهيم البشرية من تغير وتطور وتبدل وتحول، الأمر الذي ينبغي الاستناد إليه عند اختيار المحتويات والمواد الدراسية، وبتعبير آخر، ينبغي أن تكون المعلومات والمعارف، التي تقدم للنشء في العصر الراهن ذات علاقة وثيقة بالواقع، الذي يعيش فيه بعيدا عن الإغراق في شحن ذهن الناشئ بالتاريخيات من الموضـوعات والمعلومات والمفاهيم الظرفية، التي يمتلئ بها الدرس الفقهي والكلامي والتربوي، وذلك على حساب الموضوعات والمعلومات والمفاهيم المستجدة، التي يعايشها النشء، ويحتاج إلى استيعابها، والتمكن منها تمكنا يجعله قادرا على التوجيه والتسديد!
وبتعبير آخر، نرى أن إصلاح محتويات المناهج يمكن أن يتم من خلال الانطلاق من المرتكزات المنهجية الآتية:
- المرتكز الأول: الاقتصاد في عرض المسائل الخلافية ذات الأبعاد السياسية التاريخية الظرفية البائدة:
إذا كان من المعلوم أن الدرس الفقهي والعقدي والتربوي يعج بجملة حسنة من المسائل الخلافية، التي تحمل بين طياتها أبعادا سياسية ظرفية، فإن الحكمة تقتضي اليوم إعفاء النشء من التوسع في دراسة العديد من تلك المسائل
[ ص: 120 ] بحسبانها مسائل تاريخية بائدة لا تأثير لها في حياة النشء، وبدلا منها تعريف النشء بما استجد من آراء ونظريات حول المسألة العقدية وتحدياتها المتنامية.
وبناء عليه، فإنه لا بد من الاستغناء عما يجده المرء في الدرس العقدي من عرض مبالغ فيه لذلك الصراع الفكري السياسي التاريخي (الظرفي) بين المذاهب الكلامية الموروثة من ماتردية ومعتزلة وأشاعرة حول ما يعرف بمبحث الأسماء والصفات، والحقيقة أن كل ما أثر بل كل ما يذكر من صراع مرير بين المذاهب المذكورة حول هذا المبحث نحسبه صراعا ظاهره عقدي، وباطنه سياسي، وبتعبير أوضح كان توظيفا ذكيا للخلاف العلمي بين المذاهب من أجل تحقيق أغراض سياسية مستبطنة، إذ كان السياسي يوظف - عبر التاريخ - المسألة الدينية المتمثلة في اختلاف أهل العلم حول المعاني المرادة مـن النصـوص الظنية، ثبوتا أو دلالة، لتصفية حساب له على خصومه من خلال انتقاء أحد المعاني المحتملة، وفرض ذلك المعنى على الجميع، واعتبار المخالف لذلك المعنى المختار خارجا من الملة، مما يبرر تصفيته، والاعتداء عليه بشتى طرق ووسائل الاعتداء!
مما يجعلنا ننتهي إلى القول: إنه لا حاجة اليوم البتة إلى التوسع في عرض هذه المسألة ومثيلاتها في الدرس العقدي والفقهي بوصفها مسائل تاريخية عفا عليها الزمن ولا أثر لها في حياة المكلفين!!
وبطبيعة الحال لا يعد هذا المثال سوى أنموذج لجملة حسنة من الأمثلة لتلك المعلومات والمفاهيم والمعارف التاريخية، التي يتم استحضارها ودراستها للنشء، الذي يجد صعوبة بالغة لفهمها واستيعابـها اعتبارا بأن الواقع المعاصر
[ ص: 121 ] لم يعد فيه وجود لهذه الفرق الكلامية البائدة، على الرغم من محاولة بعض المتأولين - المولعين بإلصاق التهم بالمخالفين لهم - اعتبار بعض المدارس الفكرية الحديثة امتدادا لتلك المدارس التاريخية البائدة!
وما درى أولئك المتأولة بأنه قد كان الانتماء في الدولة الأموية إلى أهل الحديث شرفا عظيما، كما كان الانتماء هو الآخر إلى المعتزلة في الدولة العباسية شرفا أيما شرف، بل إن الانتماء إلى الأشاعرة في الدولة السلجوقية كان ذات يوم شرفا لأهله!!
وأما وقد غدا الانتماء الظاهر اليوم إلى أي من هذه الفرق الكلامية البائدة (المعتزلة، والأشاعرة) في كثير من الأرجاء محل خشية، وتهمة، لذلك، فليس من حصيف الرأي استغلال مساحة كبيرة من حياة النشء لدراسة هذه الفرق إذ لا يجد لها حضورا حقيقيا في الواقع، الذي يعيش فيه! وبدلا من ذلك ينبغي تعريفه بالمدارس الفكرية الحديثة القائمة كالمدرسة الوجودية، والمدارس الإلحادية المختلفة المنتشرة في الأصقاع!
على أنه من الحري تقريره أن هذا الوجود الطاغي للموضوعات والمفاهيم والمعارف التاريخية في الدرس العقدي يجده المرء حاضرا بقوة شديدة في الدرس الفقهي والأصولي، إذ إن جل المسائل الفقهية المتعلقة بأحكام الرق، وتفاصيل أحكام الطهارة والمياه والذبائح وسواها، وأحكام الذمة والأمان لم يعد لكثير منها حضور في الواقع المعاصر، بل أمسى جلها تاريخا يصعب على الناشئ فهمها واستيعابها بالشكل المطلوب!
[ ص: 122 ] - المرتكز الثاني: تغليب دراسة الأصول والقواعد على دراسة الفروع والمسائل:
لئن أمست الحاجة اليوم إلى تصفية الدرس الفقهي والعقدي والتربوي من العديد من المسائل التاريخية الظرفية البائدة، فإن الحاجة تمس أيضا إلى التخفيف من غلواء دراسة الفروع على حساب الأصول والقواعد، وبتعبير آخر، يجب تغليب دراسة الأصول العامة والكليات والقواعد على دراسة الفروع والجزئيات تمكينا للنشء من إنتاج المفاهيم والمعارف الجديدة.
فلئن كان من المعلوم لدى المحققين أن الفروع، التي تعج بها المدونات الفقهية والعقدية والتربوية نتاج تلك العقول، التي استوعبت الأصول والقواعد والكليات، إذ إنهم تمكنوا من الأصول، وأشرفوا على الكليات، فأنتجوا هذا الكم الزاخر من الفروع والجزئيات، التي تمتلئ بها مكتباتنا، لذلك، فإنه لا بد من تمكين النشء من تلك الأصول والقواعد والكليات ليتمكنوا من إنتاج مزيد من الفروع والجزئيات في ضوء الواقع، الذي يعيشون فيه!.
إن تنقية مقررات العلوم الإسلامية المختلفة من غلواء الفروع والجزئيات أمست اليوم أمرا ضروريا في العصر الراهن، إذ إنه من الواضح الجلي أن المراحل الدراسية الجامعية الأولى في جامعاتنا وكلياتنا ومعاهدنا تعنى بتدريس النشء الفروع الفقهية والكلامية والتربوية، وتتوسع في ذلك توسعا كبيرا، وأما الأصول العامة للشريعة، والقـواعد الكلية، والنظريات الكبرى، والمقاصـد العليا، فإنها لا تدرس في الغالب الأعم إلا في المراحل الدراسية المتأخرة، مما يؤثر تأثيرا بالغا على فهم النشء هذه الأصول، وتلك القواعد، والنظريات.
[ ص: 123 ]
وبتعبير أدق، إن عامة الجامعات والكليات والمعاهد في ديارنا تؤجل تدريس النشء الأصول العامة للشريعة، والقواعد الكلية، والنظريات الكبرى، والمقاصد الشرعية إلى سني التخرج، ظنا منها أن النشء يكون في المراحل الأخيرة (السنة الثالثة أو الرابعة) أقدر على فهم تلك الأصول والقواعد والنظريات، وأنه ليس بإمكانه فهمها قبل ذلك؛ وليس من شك في أن هذا التصور، وهذا المنهج في التدريس يعد أحد الأسباب الرئيسة إلى وجود كثرة كاثرة من حفظة الفروع الفقهية والكلامية، التي يختصر دورهم على استحضار ما قاله السابقون وما انتهوا إليه من آراء وأنظار في ضوء واقعهم الفكري والسياسي والاجتماعي والخلقي، كما أن هذا المنهج هو المسؤول اليوم عن ذلك الشح الشديد في عدد أولئك المتمكنين من استيعاب الأصول العامة، والقواعد الكلية، والمقاصد السنية، والقادرين على توليد آراء وأنظار متجددة في تلك المسائل التي سبق للأسلاف أن أوسعوها جانب النظر والتأمل، سواء في باب الفقه أم في باب العقيدة أم في باب التصوف!
وإذا كان من الثابت عند علماء النفس التربوي أن القدرة على الاستيعاب والفهم والإدراك تتأثر بتقدم العمر، وأن استعداد الذهن للتلقي يتقد كلما قلت المشاغل وندرت المشاكل، فإن هذا يعني أن النشء في المراحل الجامعية الأولى أقدر على استيعاب تلك الأصول والقواعد والنظريات، وفهمها، وتمثلـها، إذ إن أذهانهم أكثر حفاظا على تلك الأصول والقواعد، مما يجعل البدء بها أولى وأجدر وأرسخ.
[ ص: 124 ]
وفضلا عن هذا، فإن البدء بدراسة هذه الأصول والقواعد والنظريات من شأنها تمكين النشء من توجيه الخلافيات والفروع وربطها بالأصول ربطا محكما، مما يجنبه التحامل على المخالفين، والإساءة إلى مرادهم ومواقفهم.
وبناء على هذا، فإن ما نشهده اليوم في واقع المقررات الدراسية المعاصرة في الجامعات والكليات والمعاهد والمدارس من إرهاق مقصود، وتشتيت شديد لذهن الطالب مرده إلى قيام تلك المقررات على مطالبة النشء بهضم كم هائل من الفروع والجزئيات المتناثرة في أبواب الفقـه والعقيـدة والتربيـة، حـتى إذا ما وصل الطالب إلى نهاية المرحلة الدراسية، يجد نفسه منهمكا لا يقدر على استذكار الأصول العامة، ولا على استحضار القواعد الكلية، ولا على استيعاب المقاصد العلية، كما يجد نفسه عاجزا عن توظيف تلك الأصول واستحضارها والاحتكام إليها، وذلك نتيجة ما سيطر على فكره وذهنه من أقاويل أهل العلم، التي أثمرت فروعا وجزئيات متعددة في الدرس الفقهي، والعقدي والتربوي... الخ.
إن المرء لن يكون مبالغا إذا زعم اليوم بأن 80% من المعلومات والمعارف، التي تقدم للنشء في مرحلة مبكرة يدور كلها حول المسائل الفرعية والجزئية وخاصة في الدرس الفقهي والعقدي.
فعلى سبيل المثال يقضي الطالب الجامعي السنوات الأولى (=المستوى الأول والثاني والثالث) في دراسة جملة حسنة من المسائل الفقهية والعقدية والتربوية دون أدنى ربط بين تلك المسائل والأصول العامة والقواعد الكلية، التي تحكمها، وترتد إليها. فيدرس كون النية شرطا لصحة سائر العبادات
[ ص: 125 ] والأعمال، وقد كان من الممكن البدء بتمكين الطالب من قاعدة: "الأمور بمقاصدها"، كما يدرس الطالب مختلف أبواب المعاملات المالية من بيوع وشركات وعقود، فيدرس بأن القراض وشركات العنان والمفاوضة والأعمال والشركات والبياعات والعقود الحديثة وسواها جائزة، وقد كان ينبغي البدء بتمكينه من قاعدة: "الأصل في المعاملات الإباحة"، وهكذا دواليكم!!
وبطبيعة الحال، يجد المرء حضورا لذلك التوسع في الفرعيات والجزئيات على حساب الأصول والقواعد والكليات في الدرس العقدي، حيث ينتعش توسع مكروه في دراسة المسائل المتعلقة بالأسماء والصفات وعرض ما أثير من خلافات بين المعتزلة والأشاعرة وأهل الحديث حول تلك الفروع، وقد كان من الممكن البدء بتدريس قاعدة: الإجمال في النفي، والتفصيل في الإثبات
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=11 ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) (الشورى:11)!
وأيا ما كان الأمر، فإن البدء بتدريس النشء الأصول، وتلقينهم القواعد، وتفهيمهم الكليات من شأنه تمكينهم من حسن التفاعل والتعامل مع ما يرد عليهم من مسائل ومستجدات، كما من شأن ذلك تمكينهم أيضا من إنتاج مزيد من الفروع في ضوء واقعهم، مما يحقق لهم تصرفا رشيدا من الموروث الفكري الزاخر للأمة!
وبناء عليه، فإنه لا أمل في تمكين النشء من إنتاج المعارف والمفاهيم الجديدة ما لم يستوعبوا الأصول، وما لم يتمكنوا من الكليات والقواعد، ولذلك، فإنه يجب البدء بتمكين النشء من استيعاب الأصول، وهضم
[ ص: 126 ] القواعد، وفهم الكليات، ولا تحقيق لذلك ما لم يخصص المساحة الكبرى لتدريس الأصول والكليات والنظريات الكبرى!
وصفوة القول، إن الحاجة تمس اليوم ضرورة البدء بتمكين النشء، في المراحل الدراسية الأولى، من استيعاب الأصول العامة، وهضم القواعد الكبرى، وإدراك المقاصد العليا، مع التركيز المستمر على ضرورة تعظيم الجوامع، والاعتناء الأعظم بالمتفق عليه، والتقليل قدر الإمكان من الاهتمام بالخلافيات، وذلك كله أملا في تمكين النشء من التبرؤ العلمي المنهجي الموضوعي من مشاعر الكراهية والتنازع والتباغض بين أتباع المذاهب النابعة من مهاجمة ذهن النشء في وقت مبكر بالخلافيات، والتركيز غير المبرر في المراحل الدراسية على الخلافيات فضلا عن الإعلاء المتعمد لشأن المختلف فيه على حساب المتفق عليه.
ومهما يكن من شيء، فإن تحقيق هذا البعد من مراجعة محتويات المناهج يقتضي اليوم تخصيص السنتين الأوليين - على الأقل - من المرحلة الجامعية لتدريس الأصول العامة، والقواعد الكلية، والنظريات الكبرى في الدرس الفقهي، والعقدي، والتربوي، كما يقتضي هذا الأمر تأجيل دراسة الفروع والجزئيات الفقهية والعقدية والصوفية المتشعبة إلى السنتين الأخيرتين. وبطبيعة الحال، إننا نبادر إلى تقرير القول: إن هذا الأمر لا يعني بأي حال من الأحوال تدريس الأصول العامة والقواعد الكلية والنظريات الكبرى مجردة بل لا بد من ربطها - كالعادة - بالأمثلة العملية ذات الصلة بحياة النشء.
إن القيام بهذا الإصلاح يعد اليوم الأمل الأخير في إعداد ذلك الجيل القادر على إنتاج المعرفة، وتسديد الحياة بتعاليم الشرع في يسر وسهولة!
[ ص: 127 ] - المرتكز الثالث: التوسع في تدريس المتفق عليه، والتقليل من تدريس المختلف فيه:
لئن كان تغليب تدريس الأصول والكليات والقواعد، والبدء بذلك في الدرس الفقهي والعقدي والتربوي أمرا مهما في مسيرة الإصلاح المنشود لمحتويات المناهج، فإن ثمة قضية أخرى ذات ارتباط وثيق بهذا البعد، وتتمثل في ضرورة الكف عن التوسع في تدريس المختلف فيه بين المصلين في الدرس الفقهي والدرس العقدي والدرس الصوفي، وبدلا من ذلك يجب التوسع في تدريس النشء المتفق عليه، وتعظيمه، وإبراز كون المتفق عليه أكبر وأكثر وأوسع من المختلف فيه، وكون المختلف فيه مرفوع الإثم عن كل المصلين، وكون الاهتمام الزائد بالمختلف فيه تضييعا للجهد والمال والوقت، وتشتيتا للشمل، وشقا للصف، في الوقت الذي تحتاج الأمة فيه إلى لم الشمل، وجمع الكلمة، ووحدة الصف!
أجل، إنه مما يرثى له اليوم ما نراه من ذلك التوسع المذهل في عرض الخلافيات، والتركيز عليها بشكل يجعل العاقل يتساءل عن مدى صحة كون ذلك المختلف فيه مرفوع الإثم عند الله تعالى اعتبارا بأن الحق في المختلف فيه يتعدد عند محققي الأصوليين بتعدد المجتهدين وإن كان الحق نفسه لا يتعدد عند الله جل جلاله!!
وبتعبير أوضح، إذا كان كل مجتهد في المسائل العقدية والفقهية والتربوية المختلف فيها مصيبا، ومأجورا غير مأزور، فإن التوسع في إبراز هذا المختلف
[ ص: 128 ] فيه على حسـاب المتفـق عليه لا يعدو أن يكون تضييعا للوقت والجهد، ولا أجر في ذلك البتة!
وعليه، فإن ما نشهده من تركيز - نحسبه منكورا ومكروها - على المختلف فيه هو الذي ربى ولا يزال يربي لدى النشء شعورا متصاعدا بأن أهل القبلة - المصلين - يختلفون في كل شيء، سواء في مجال العقيدة، أم في مجال الفقه، أم في مجال التربية، بل يخيل إلى كثير من الجيل الصاعد - وهم على حـق - أن مسـاحة الاتفاق بين الأمة تكاد أن تكـون شبه معدومـة، وأن مساحة الاختلاف بينهم واسعة لا حدود لها!
نعم، إن الإفراط في تدريس المختلف فيه في باب الفقه، وباب العقيدة، وباب التربية، وسواه، كان ولا يزال السبب الرئيس في تفريق كلمة الأمة، واختلاف صفها، وتناحر أبنائها، وتشتيت جهودها، إذ يسعى كل فريق إلى بذل المال والنفس من أجل فرض رأيه المظنون في المختلف فيه، سواء في المجال الفقهي أم في المجال العقدي، والحال أنه لم يكلف الشرع الحكيم أحدا من العالمين بأن يضيع جهده أو ماله من أجل فرض رأيه الاجتهادي المظنون على غيره، سواء في باب الفقه أو في باب العقيدة أو في باب التربية!
بل إن شرعنا الحنيف تجاوز - لحكمة يعلمها الله - عن رصد أي أجر دنيوي أو أخروي لمن استفرغ طاقته في فرض رأيه الاجتهادي على غيره من المجتهدين، وبدلا من ذلك، فإنه قد تكفل بمنح أجر لكل مجتهد، سـواء أصاب أم أخطأ، وبمنح أجر إضافي لمن أصاب من المجتهدين الصواب عنده، جل وعلا!!
[ ص: 129 ]
أجل، لعمر الله، كيف يمكن للنشء التعايش مع المخالف في المذهب الفقهي أو العقدي أو التربوي، إذا كانت المادة الفقهية أو العقدية أو التربوية، التي تقدم له تركز صباح مساء تركيزا واضحا وجليا على تدريس تلك المسائل المختلف فيها، لا من أجل تعريف النشء بكون الاختلاف فيها أمرا طبيعيا، ولكن من أجل تلقينه بكون الصواب المطلق والحق الملزم فيما ارتضاه شيخه من رأي في المختلف فيه، في الفقه أو العقيدة أو التصوف، وكون المخالف لذلك الرأي مخطئا وعلى باطل يجب مناصـحته حينا، ومقـاطعته طورا، وربما محاربته تارة أخرى!!
والأمر من كل ما يجده المرء من طريقة غير علمية في تدريس تلك المسائل المختلف فيها بين المتكلمة، والمتفقهة، والمتصوفة، إذ يتم استعراض آراء المخالفين وحججهم بوصفها شبهات حينا، وضلالات تارة، وخزعبلات طورا، وأما ما يراه الشيخ المبجل من رأي في تلك المسائل، فإنه هو الصواب الأجل، وهو الحق المطلق، بل هو الصراط المستقيم!
وفضلا عن هذا، فإن الناظر المتمعـن في طريقة استعراض تلك المواد، التي تقدم للنشء يجـد حضورا باهرا لمحـاولات هـادفة إلى اعتبار رأي مذهب أو مدرسة في مسألة فرعية مظنونة، هو المذهب الصحيح، والمدرسة الحق، وأما رأي مخالف ذلك المذهب، أو تلك المدرسة، أو الطائفة، فإنه هو الخطأ الواضح إذا كان المختلف فيه مسألة فقهية أو أصولية، وهو الباطل المبين إذا كان المختلف فيه مسألة عقدية كلامية!
[ ص: 130 ]
وهكذا تؤثر سائر هذه المعلومات والمفاهيم والمعارف في فكر النشء وسلوكه وطريقة تعامله مع المخالف له من أهل القبلة، إذ يغدو - في كثير من الأحيان - حكما متعجلا بين المصلين، وربما تطور به الحال إلى إصدار أحكام قيمية على الأفراد والدول، التي تخالفه في رأيه في المختلف فيه، بل ربما لاذ بتنصيب نفسه وصيا على تدين الناس، وأفكارهم، وكيفيات تطبيقهم لتعاليم الشرع الحنيف، مما يدفعه في نهاية المطاف إلى استخدام شتى الوسائل الفكرية والمادية لمحاربة كل مخالف، وإلزامه باتباعه!
وصفوة القول، لا بد من معالجة هذا الغلو والتوسع في تدريس المختلف فيه من جهة، وطريقة تدريسه من جهة أخرى، تخفيفا عن الأمة حالة الصراع الفكري المنكور بين المصلين، وحالة التشتت المنبوذ بين أهل القبلة الواحدة إزاء المظنونات والخلافيات!
فمن اللغز الفـكري المستـعصي على العـلاج أن يقبل الإنسان المسلم التسامح والتعايش - جنبا إلى جنب - مع المخالف له - جملة وتفصيلا - في الملة والعقيدة والقبلة، ويرفض ذلك المسلم نفسه التسامح والتعـايش مع من يشـاركه الإيمـان بالأصول والكليات، والقبلة الواحدة!! لا علاج لهذا الازدواج المكروه في الفكر والسلوك سوى مراجعة محتويات مناهجنا وطريقة تدريسنا وتقديمنا تلك المعلومات المختلف فيها للنشء!
إن إصلاح محتويات مناهج علومنا الإسلامية المعاصرة يقتضي اليوم ضرورة إحداث ثورة منهجية تغييرية داخل محتويات المقررات الدراسية، بحيث
[ ص: 131 ] يغدو 80% من المادة التعليمية، التي تقدم للنشء مركزا تركيزا واضحا على دراسة تلك المسائل والقضايا المتفق عليها في الدرس الفقهي، والدرس الكلامي، والدرس التربوي، كما ينبغي أن يغدو التركيز منصبا على تلقين النشء المتفق عليها في باب الفقه والعقيدة والتصوف، وفضلا عن هذا، فإن الحاجة تمس اليوم إلى معالجة ما تعانيه مناهجنا من هذا الخلل المنهجي الفكري المتوارث عبر القرون، وضرورة تجاوزه تجاوزا جذريا يقوم على صرف الجهود في تلقين النشء في وقت مبكر على كون دائرة الاختلاف بين المصلين دائرة ضيقة، وكون دائرة الاتفاق بينهم دائرة واسعة تسع الحياة كلها!
ولئن كانت ثمة ضرورة فكرية ومصلحة علمية في تعريف النشء الفروع والمظنونات (=المختلف فيه) سواء في مجال العقيدة أم في مجال الفقه والحديث والتفسير، فإن المنهج الأمثل لذلك يتمثل في تعريفه بهذه الفروع بطريقة مختصرة ومقتضبة، مع التركيز على إبراز كون الاختلاف في تلك المسائل اختلافا طبيعيا مقبولا، بل ثروة فكرية ينبغي النهل منها كلما دعت الحاجة إلى ذلك، وذلك انطلاقا من تلك المقولة المأثورة عن إمام دار الهجرة: المذاهب كلها على هدى، وكل يبتغي الله ورسوله!!
وبتعبير آخر، ينبغي تعريف النشء على هذه الثروة الفكرية الهائلة، التي تركها الأجداد من حيث التشكل والتكوين، كما ينبغي تعريفه على طريقة الاستـفادة منها من خلال اعتبارها كلها - بلا استثناء - معالجات متعددة يمكن الاستفادة منها حسب الأوضـاع والظروف والأحوال والأزمنة
[ ص: 132 ] والأمكنة! فكلما وجدنا فيها ما يستجيب لوضع أو حال أو ظرف استصحبناه واستحضرناه، مما يعني أن الاستفادة منها مرهونة بما يمليه الزمان والمكان والحال والوضع!
وعلى العموم، إننا نعود لنقرر بأن مقتضى إحداث الثورة التغييرية المنشودة في جعل 80% من المادة التعليمية مركزا على تلقين النشء المسائل المتفق عليها بين أهل القبلة يتطلب مراعاة الأمرين المنهجيين، أعني التقليل من عرض المسائل المختلف فيها، والأمر الثاني إبراز كون الاختلاف في تلك المسائل سائغا ومقبـولا، وكون كل رأي من الآراء الواردة فيها محل تقدير واعتبار بعيـدا عن الانتقاص بأصحاب تلك الآراء وتسفيههم أو تسفيه أتباعهم المعاصرين!!
على أنه من الجدير تقريره بأن تحقيق هذا الإصلاح لمحتويات مناهج العلوم الإسلامية يتطلب اليوم ضرورة تكوين لجان علمية متمكنة رصينة تعنى بالقيام بمهمة إعادة صياغة جميع المقررات الدراسية في جميع العلوم الإسلامية لجميع المراحل الدراسية، بلا استثناء، في ضوء الترتيب المشار إليه، بحيث تخصص - كما أسلفنا - السنتين الأوليين - مثلا - لتعليم النشء الأصول العامة والقواعد الكلية والمقاصد العليا في كل علم من العلوم، كما تخصص هاتين السنتين أيضا لتعريفه بمواطن الاتفاق بين أهل القبلة والإفاضة في شرحها وتوضيحها، وأما السنتان الأخيرتان، فيمكن تخصيصهما لتعريف النشء بمواطن الخلاف في العلوم والمعارف، مع التركيز على ضرورة استحضار القواعد الموجهة
[ ص: 133 ] للخـلافيات والمجتهـدات، فضـلا عن طرق التعامل المثلى مع ما اختلف فيه أهـل العـلم في العقيدة والفقه والتربية استنـادا إلى الأصـول والقـواعد والكليات والمقاصد.
- المرتكز الرابع: تقديم المعارف والمفاهيم في ضوء التصور الإسلامي الكلي للإنسان والحياة والوجود:
أجل، لئن كان الاعتداد بهذا الترتيب السلمي لتحقيق الإصلاح المنشود للمحتويات أمرا ضروريا وعاجلا في الوقت الراهن، ولئن كان الاعتداد بالتوسع في تلقين النشء المتفق عليه بين أهل القبلة والتقليل من عرض المختلف فيه بينهم هو الآخر مجالا من أهم مجالات إصلاح المحتويات، فإننا نخلص إلى تقرير القول: إن ثمة مرتكزا رابعا ينبغي أن ينضاف إلى المرتكزات الثلاثة السابقة لهذه المراجعة الإصلاحية لمحتويات المقررات الدراسية، ويتمثل في ضرورة تقديم سائر العلوم والمعارف في إطار من النظرة الإسلامية الكلية للكون والإنسان والحياة والوجود، ارتكازا على مبدأ المرونة والسعة في تشريعات الإسلام المتعلقة بالتعليم وغيره من الموضوعات، فإن الشرع الحنيف لم يعن بحديث مفصل وواضح عن محتويات المناهج أو العلوم بشكل عام، بل أمر بالقراءة في الكتاب المسطور والكون المنظور، وحث المسلمين على السعي في الأرض والكشف عن سننه في الخلق والتاريخ والكون.
إن هذا الإصلاح للمحتويات ينصرف بشكل آكد إلى محتويات تلك العلوم والمعارف الموسومة في دنيا الناس بالعلوم العقلية أو الإنسانية، وينطلق
[ ص: 134 ] من مبدأ الإيمان بأن المعرفة الإسلامية لا تنحصر بأي حال من الأحوال في المعارف والعلوم الموسومة اليوم بالعلوم الإسلامية، ولكنها تنتظم بجانب تلك العلوم والمعارف كل معرفة إنسانية تقدم في إطار من النظرة الإسلامية للإنسان والكون والحياة والوجود، انطلاقا من كون المعرفة الإسلامية معرفة أوسع من أن يستوعبها تخصص من التخصصات، أو تقف عند حد فن من الفنون، بل هي "..منهجية.. تلتزم توجيه الوحي، ولا تعطل دور العقل، بل تتمثل مقاصد الوحي وقيمه وغاياته، وتدرس وتدرك وتتمثل موضوع اهتمام الوحي وإرشاده وهو الفرد والمجتمع الإنساني، والبناء والإعمار الحضاري، وما أودع الله في هذه الكائنات والعلاقات من فكرة ومن طبع، وكيف توجه تلك الطبائع وتتفاعل، وكيف تطوع وتستخدم، وكل ذلك من أجل تفهم هذه الكائنات وعلاقاتها حتى يمكن تسخيرها لتوجيه الإسلام وغاياته.."
[2] .
ومقتضى هذا أن أية مادة تقدم في إطار من التصور الإسلامي تعد مادة إسلامية، ولو كان ذلك في الرياضيات أو الفيزياء أو الكيمياء، ذلك لأن "..كل علم يصمم منهجه ويدرس على أساس أن يساهم في بناء الإنسان المسلم القادر على المشاركة بإيجابية وفاعلية في عمارة الأرض وترقيتها وفق منهج الله هو علم ديني، من وجهة نظر الإسلام، يستوي في ذلك علوم الشريعة والعلوم الحديثة كالرياضيات والطبيعة، والكيمياء، وعلوم التقنية الحديثة.."
[3] .
[ ص: 135 ]
وعليه، فإن ما نشاهده اليوم من فصام نكد بين ما يسمى بعلوم الدين وما يسمى بعلوم الدنيا، يحتاج من القائمين على شؤون التعليم في العالم الإسلامي إلى مراجعة عاجلة شاملة، ذلك لأنه يعد المسؤول مسؤولية كبيرة عن تقسيم أبناء الأمة الواحدة إلى علمانيين، ومتدينين!.
وعلمانية العلمانيين تعود إلى تشبعهم في معظم الأحيان بما يعرف بالعلوم الدنيوية، وانخداعهم بعظمة هذه العلوم ورجالاتها، مما جعلهم يتخيلون أن إصلاح الواقع المعاصر ينبغي أن يتم من خلال المناهج، التي تعتمدها الأمم المتمدنة القدوة في نظرهم وطروحاتهم، ويؤمن أكثر هؤلاء أنه لا يمكن للإصلاح أن يتحقق إذا لم يتم التخلص والقضاء المبرم على الزمرة المتدينين، الذين يحسبونهم عقبة كؤودا أمام مشاريعهم وبرامجهم الإصلاحية!
وأما دينية المتدينين، فإنه يعود إلى تمكن أكثرهم مما يعرف بعلوم الدين والشريعة المحضة، ويرون أن إصـلاح الواقع المعاصر، لا يمكن له أن يتحقق إلا من خلال المناهج الدينية التي تعلموا عليها، ويعتقدون اعتقادا جازما أن خصومهم العلمانيين هم المسؤولون عن كل ما جرى وما يجري من محن وابتلاءات في العالم الإسلامي، ولولاهم وصنيعهم وبعدهم عن منهج الله لكان الواقع الإسلامي أكثر استقرارا وتقدما وتطورا ونهضة!
أجل، إن هذا التشوه في الرؤية والتحليل والنقد عند كلا الفريقين، يعد أثرا من آثار الفصام النكد المفتعل بين علوم الدين وعلوم الدنيا، كما يعد نتيجة حتمية لمحتويات علوم الدين وعلوم الدنيا، التي تعمق الهوة والفجوة
[ ص: 136 ] والجفـوة بين الديـني والدنيوي، وتختـلق خصاما بين النقـلي والعقلي، وبين المادة والروح.
وأيا ما كان الأمر، فإننا نعتقد بأن كلا الفريقين - العلمانيين والمتدينين - مسؤولان أمام الله وأمام التاريخ مسؤولية مباشرة ومتساوية عن هذا الواقع المزري للأمة، إذ إن دينهم الحنيف لم يأمرهم قط بهذا الفصل بين الديني والدنيوي، كما أن انقسامهم إلى هاتين الجبهتين المتناقضتين والمتنافرتين لم ينزل الله بذلك سلطـانا، بل لـم يأمرهم به قرآن ولا سنة، وإنما اختاروا بأنفسهم ما هم فيه من وهن وضعف، وما يتقلبون فيه من تخلف وتأخر.
إي (=نعم)، لم يأمر الإسلام أحدا بالانسحاب من الحياة العملية وتركها كلأ مباحا للآخرين، ثم اللياذ بلوم أولئك الآخرين على ما فعلوا بهـذه الحياة، وما تصـرفوا فيها من تصرفات، كما أنه لا يوجد إسلام نهى أحدا عن الإعراض عن تعلم قيمه الراسخة ومبادئه الثابتة، التي تنور القلوب وتجلي الأبصار وتهدي إلى صراط مستقيم. فمن اختار الانسحاب والانزواء والسلبية، فلا يلومن إلا نفسه، ومن اختار الإعراض والانبهار بالوافد المارد، فلا يلومن أحد إلا نفسه.
وصفوة القول، إن إصلاح محتويات مناهج العلوم بشكل عام يتحقق من خلال إعادة الرحم المقطوعة بين الديني والدنيوي، وتجاوز الفصل المفتعل بين علوم الدين وعلوم الدنيا، فضلا عن ضرورة تزويد النشء بقدر معقول من مبادئ كل واحد من هذه العلوم التي شققها المسـلمون عندما تسربت إليهم
[ ص: 137 ] - على حين غرة - الآفة، التي وقعت فيها الكنيسة ورجالاتها في القرون الوسطى، ففصلوا فصلا اعتسافيا وتعسفيا بين العلم والدين، واختلقوا صراعا بينهما زورا وبهتانا. وليس من الممكن على الأمد القريب، التقريب بين الفئتين المتنازعتين في الأقطار الإسلامية كلها ما لم يتم القضاء على هذا الفصل من خلال ما يعرف اليوم بفكرة التكامل بين القيم والمعارف والعلوم، والتكامل بين علوم الدين وعلوم الدنيا.
إننا لعـلى يقين بأن لهذا الفصام النكد دورا في نشأة الغلو والتطرف لدى فئام من الشباب المخلص، وخاصة منهم أولئك الشباب، الذين يسوقهم قدرهم إلى التوجه إلى العلوم الحديثة أو العلوم الدنيوية (=العلوم غير الدينية)، فمن الملاحظ أن حظ كثير منهم من المعرفة الإسلامية الصحيحة ضحل وضئيل، وأما الحماسـة التي تمـلأ جوانحهم، فهي مثل الجبال شموخا ورسوخا، وكثيرا ما تدفعهم تلك الحمـاسة، التي لـم تصقل بفهم عميق لقيم الإسلام وتعاليمه إلى الغلو والتطرف والتعصب في مسائل وقضايا يحرم فيها الغلو والتطرف والتعصب والتهجم على المخالف، ولكن عذرهم أن زادهم المعرفي مغشوش ومشوه وبخس، فلو أنـهم نالـوا حظا أوفر وفهما أعمـق لتبرؤوا من كل فكر يدعو إلى إزهاـق الأرواح البريئة والخروج على الطاعة، وشق الكلمة، وإشاعة الفتنة والبلبلة، وإدخال الرعب والخوف في النفوس ظلما وجورا.
[ ص: 138 ]
وبالمقابل، فإنه من الملاحظ أيضا أن حظ كثير ممن ساقهم قدرهم إلى العلوم الدينية (=العلوم غير الدنيوية) في المعرفة الحديثة وخاصة المعرفة المتعلقة بالواقع المعيش ومكوناته، وما يطرأ عليه من ظواهر وأحوال، بئيس وضئيل، ولكنه يخيل إلى كثير منهم بأنهم يعرفون هذا الواقع المعقد والمتشابك معرفة صحيحـة، والحال أن مصادر معرفـة هـذا الواقـع المتمثلة في علوم الدنيا لم يسعفهم حظهم إلى القراءة فيها أو التعلم منها، ولكنهم مع ذلك تدفعهم المعرفة الظاهرية والاعتقاد غير الصحيح إلى إسـاءة التعامل مع هذا الواقع، فترى بعضهـم يلجأ إلى استخدام الوسائل العنيفة لتغيير هذا الواقع، والاعتداء على الأنفس والأموال، ظنا منهم - بل جهلا مطبقا - بأن الواقع لا يتغير إلا من خلال هذه الوسائل الفاشلة العليلة المخالفة لسنن الله في الكون والتاريخ والحياة.
إذا، إن معالجة ظاهرة الغلو والتطرف الديني أو الدنيوي، تكمن في إعادة صياغة محتويات المناهج التعليمية صياغة إسلامية لا ترى فصاما بين الديني والدنيوي، ولا بين العقلي والنقلي، ولا بين الروح والمادة، ولا بين عالم الغيب وعالم الشهادة، بل تقوم على رؤية ناضجة ناصعة ترى في هذه الثنائيات جمالا وروعة وتكاملا وتساندا وترابطا. فالتكامل هو الأمل الأوحد لتخفيف حالة الرهق الفكري والتشتت المرجعي، التي عمت به البلوى، وجلبت ولا تزال تجلب للأمة مزيدا من المآسي والآلام والويلات.
[ ص: 139 ]
على أنه من الحري تقريره أن فكرة إعادة التكامل بين علوم الدين/ الشرع وعلوم الدنيا لا تعني بأي حال من الأحوال قضاء مقصودا على فكرة ما يعرف اليوم بالتخصص الدقيق في المعارف والعلوم، ولكنها تعني نفي التنافر والتناقض بين الديني والدنيوي، وبين النقلي والعقلي، وبين عالم الغيب وعالم الشهادة، كما تعني تمكين الجيل الصاعد من المبادئ والأسس العامة، التي تقوم عليها النظرة الإسلامية الناصعة المتوازنة والمتكاملة إلى الإنسان، والكون، والحياة، والوجود، فضلا عن أنها تعني جعل تعاليم وحي السماء قيما على الواقع المعيش، وتطويع الواقع الإنساني بجميع شعابه لمقاصد خالق الكون ومدبره، ومقتضى هذا التكامل تحصين النشء بالكليات والثوابت والقيم، التي لا ينبغي أن يحيد عنها الفرد أنى كان تخصصه وزاده المعرفي.
وبناء عليـه، فإن على مصممي المناهـج التعليمية/ الإسـلامية والدنيوية أن يرفضوا أي تقسيم للنشاط المعرفي يقوم على الفصل بين الديني والدنيوي، وبين النقلي والعقلي، وبين المادي والروحي، إذ ليس ثمة تنافر أو تناقض بين هذه الثنائيات، بل هي ثنائيات متكاملات ومترابطات ومتداخلات، ولا يصح الفصل بينها بتـاتا، بل إن أي فصـل عشوائي أو تعسـفي بينهما، يفضي- ولا محالة- إلى غبش في الرؤية، واضطراب في المنهج، وقلق في الحركة، وتشوه في تعامل الإنسان مع الكون والحياة والوجود، مما يجعل الحياة متسمة بدوام الصراع.
على أنه مما ينضاف إلى الاعتداد بفكرة إعادة التكامل بين الديني والدنيوي، والنقلي والعقلي، إعادة النظر في المراحل التعليمية، التي نعتمدها في
[ ص: 140 ] مؤسساتنا التعليمية تبعا لغيرنا من الأمم والشعوب، وليس انطلاقا من الواقع، الذي نعيش فيه، أعني أننا اعتمدنا ما انتهى إليه غيرنا من اعتماد لسني الدراسة دون محاولة لربطها بواقعنا المختلف عن واقعهم!
وبناء عليه، فإننا لا نرى محظورا في إعادة النظر الحصيف في كل مرحلة من المراحل التعليمية المختلفة، فالعبرة ليست ولم تكن أبدا في عدد السنوات، ولكنها كانت وينبغي أن تكون دوما وأبدا في النوعية والجودة.
وإنني لعلى يقين بأن ثمة حاجة إلى إعادة النظر بشكل جذري في سني الدراسة والتحصيل على جميع المراحل التعليمية، بدءا بالمرحلة الابتدائية والمتوسطة والثانوية والجامعية، ذلك لأن جملة من المعلومات، التي كان تحصيلها متوقفا على المدرسة، غدت اليوم في متناول الأطفال عبر مختلف مصادر التعلم، وخاصة الأجهزة السمعية والبصرية وغيرها، مما يدعو إلى تجاوز تلك المعلومات واستبدالها بمعلومات متقدمة، وينتج عن ذلك إعادة النظر في سني الدراسة والتحصيل.
وبطبيعة الحال، لم يقل أحد من الخلق بأن سني الدراسة المتبعة اليوم في المؤسسات التعليمية التقليدية مبنية على نصـوص منـزلة من خالق الكون، كما لم يقل أحد من أهل العلم بالتربية والتعليم بأن تلك السنين تسمو على المراجعة والتقويم في ضوء ما تستجد في واقع الناس من تقدم وتطور وتغير، فالشأن في تحديد تلك السنوات كالشأن في أي أمر اجتهادي قابل للخطأ والصواب، وخاضع للمراجعة والتقويم والتعديل والتطوير والتغيير.
[ ص: 141 ]
المجال الثاني: إصلاح محتويات مناهج العلوم الإسلاميَّة:
لئن كانت الأهداف التعليمية تعنى بتحديد تلك القيم والمبادئ الثابتة، وضبط تلك الغايات المثلى، التي يسعى المعلِّم إلى إحداثها في حياة المتعلّم، فكرًا وسلوكًا، فإنَّ محتويات المناهج تمثِّل الميدان الذي يتمُّ من خلاله ترجمة تلك الأهداف ترجمة عمليّةً وتحويلها إلى واقعٍ ملموسٍ قابلٍ للتقويم والمقايسة، مما يعني أنَّ إصلاح الأهداف لا تحقيق له إذا لم ينعكس ذلك في المقررات والمواد التعليميَّة، التي يتوصل من خلالها إلى الأهداف المرسومة سلفًا.
واعتبارًا بتنـوع المواد والمقـررات والموضوعات، التي تتشابك وتتداخل عند الهمّ بترجمة الأهـداف وتطبيقها في الواقع، لذلك، لا غرو أن يختلط الحـابل بالنـابل عند تحديد المواد المناسبة والمعـبرة عن الأهداف التعليميَّة، ولا عجب أن تختلف الرؤى والأنظار حول ما ينبغي تقديمه وتأخيره من المواد حسب المراحل!
وانطلاقًا مما أسلفناه من ضرورة كون الأهداف التعليمية متسمة بالوضوح والشمول، والواقعية، فإنّ هذه السمات الأساسية يجب أن تتسم بها المواد والمقررات المعبرة عن محتوى المناهج بصورة أكبر، ذلك لأنّها في النهاية هي التي تعكس الأهداف وتترجمها، وتجعلها واقعًا ملموسًا.
وعليه، فإنه يمكن القول: إن هذه المحتويات ينبغي لها أن تنتظم كل "..الخـبرات والمعارف والمفاهيم والمهارات، التي تساهم في بناء الإنسان
[ ص: 117 ] الصـالح كله: وجـدانه، وعقله، وجسمه، تعتبر هامة ويجب تضمينها في محتوى المنهج.."
[1] .
نعم، ليس من مرية في أنّ أهمّ مسألة تتوجه إليها الأنظار عند الحديث عن إصلاح مناهج العلوم، هي مسألة المحتويات، وبتعبير أدقّ هي المادة التعليميّة، التي تقدّم للنشء لإحداث تغيير في فكره وسلوكه وتصرفاته مع نفسه، والعالم من حوله. بل إنّ سائر الهجمات والانتقادات التي توجّه إلى مناهج العلوم الإسلاميّة تتركز في كثير من الأحيان حول المادّة التعليميّة، وذلك بحسبانها العنصر المؤثّر والقادر على إحداث التغيير في فكر المتعلم وسلوكه، وباعتبارها الترجمة العمليّة والصياغة الواقعيّة للهدف التعليميّ، مما يجعلها جديرة بوافر الاهتمام، وعظيم العناية.
واعتبارًا بأنّ المعلومات والمعارف، التي تصاغ في شكل مقررات وموادّ تعليميّة لا تخلو من أن تكون أصولًا عامّة، وقواعد كليّة، ومقاصد سامية تتسم بالثبات والخلود، وتسمو على المراجعة والتطوير والتغيير والتبديل، كما لا تخلو أن تكون تلك المعلومات فروعًا، ووسائل، بل أحكامًا اجتهاديّة لا تتسم بالثبات ولا تسمو على المراجعة والتطوير والتغيير والتبديل لتأثرها بظروف الزمان والمكان والحال، لذلك، فإنّه ينبغي على القائمين على صياغة محتويات الموادّ التعليميّة استحضار هذا الفرق العظيم بين مستويات المعلومات، ودرجات المعارف، التي توضع في المقررات بحيث يتمّ إبراز بُعْدَي الزمان
[ ص: 118 ] والمكان فيما يقدّم للنشء ليقوى على التفريق بين الثوابت والمتغيرات، وبين القطعيّ من الأحكام والظنيّ منها، وبين الكليّ من القواعد والجزئيّ منها، وبين المقاصد والوسائل.
إنّ إدراك الدارس هذا الفرق من شأنه حمايةُ فكره وعقله من الخلط الفادح بين ثوابت الدين ومتغيرات العصر، كما أنّه من شأنه صونه من اعتبار الثوابت متغيرات، واعتبار المتغيرات ثوابت، بل إنّ إدراك النشء المبكر لطبائع المعلومات والمعارف من حيث القطع والظنّ يحميه من الغلو والتطرف والتزمت والانغلاق مما يجعله قادرًا على حسن تفهم (الآخر) وخاصّة أخاه من أهل القبلة تفهمًا واعيًا، فيتعامل معه في المتفق عليه بينهما، ويعذره فيما اختلفا فيه، اعتبارًا بأنّ اختلافهما في المتغيرات، والمظنونات، والفروع، والوسائل اختلاف مشروعٌ وواقعٌ لا محال!
وفضـلًا عن هذا، فإنَّ إصـلاح محتويات المناهج يتطلب أيضًا وعيًا دقيقًا للمراحل العمريّة للنشء، وربط المعلومات والمعارف، التي تقدّم له بتلك المراحل بشكل متوازن قائم على مراعاة كل مرحلةٍ عمريّة عند صياغة المقررات وتقديمها لهم!
ومن ثمَّ، فإنّه قمينٌ بالقائمين على المؤسّسة التعليميّة في ديارنا تمكين مصمّمي المناهج مما بات يعرف في العصر الحديث بعلم النفس التربويّ، الذي يعرّف الدارس مراحل النمو المعرفيّ للطفل وخصائص كلِّ مرحلةٍ، وطرق التعامل معها بشكلٍ مؤثّرٍ، إيجابًا وسلبًا!
[ ص: 119 ]
إنّ الالتفات إلى هذا البُعْدِ عند صياغة المقررات من شأنه انتقاء تلك المعلومات والمعارف المناسبة - كمًّا ونوعًا - للمرحلة العمريّة للنشء من جهة، وحماية ذهنه من التشتت والتخبط إزاء ما يقدّم له من معلومات ومعارف من جهة أخرى!
على أنّ مراعاة هذا البعد تقتضي ضرورة تعهد المناهج بالمراجعة الدائمة في ضوء ما يطرأ على المعارف والمفاهيم البشريّة من تغيُّر وتطوُّر وتبدُّل وتحوُّل، الأمر الذي ينبغي الاستناد إليه عند اختيار المحتويات والمواد الدراسيّة، وبتعبير آخر، ينبغي أن تكون المعلومات والمعارف، التي تقدّم للنشء في العصر الراهن ذات علاقة وثيقة بالواقع، الذي يعيش فيه بعيدًا عن الإغراق في شحن ذهن الناشئ بالتاريخيّات من الموضـوعات والمعلومات والمفاهيم الظرفيّة، التي يمتلئ بها الدرس الفقهيّ والكلاميّ والتربويّ، وذلك على حساب الموضوعات والمعلومات والمفاهيم المستجدّة، التي يعايشها النشء، ويحتاج إلى استيعابها، والتمكن منها تمكنًا يجعله قادرًا على التوجيه والتسديد!
وبتعبير آخر، نرى أنّ إصلاح محتويات المناهج يمكن أن يتمّ من خلال الانطلاق من المرتكزات المنهجيّة الآتية:
- المرتكز الأول: الاقتصاد في عرض المسائل الخلافيّة ذات الأبعاد السياسيّة التاريخيّة الظرفيّة البائدة:
إذا كان من المعلوم أنّ الدرس الفقهيّ والعقديّ والتربويَّ يعجّ بجملة حسنة من المسائل الخلافيّة، التي تحمل بين طياتها أبعادًا سياسيّة ظرفيّة، فإنّ الحكمة تقتضي اليوم إعفاء النشء من التوسع في دراسة العديد من تلك المسائل
[ ص: 120 ] بحسبانها مسائل تاريخيّة بائدة لا تأثير لها في حياة النشء، وبدلًا منها تعريف النشء بما استجد من آراء ونظريات حول المسألة العقديّة وتحدّياتها المتنامية.
وبناء عليه، فإنّه لا بدّ من الاستغناء عما يجده المرء في الدرس العقديّ من عرض مبالغٍ فيه لذلك الصراع الفكريّ السياسيّ التاريخيّ (الظرفيّ) بين المذاهب الكلاميّة الموروثة من ماترديّة ومعتزلة وأشاعرة حول ما يعرف بمبحث الأسماء والصفات، والحقيقة أنّ كلّ ما أثر بل كلّ ما يذكر من صراع مرير بين المذاهب المذكورة حول هذا المبحث نحسبه صراعًا ظاهره عقديٌّ، وباطنه سياسيٌّ، وبتعبير أوضح كان توظيفًا ذكيًّا للخلاف العلميّ بين المذاهب من أجل تحقيق أغراض سياسيّة مستبطنة، إذ كان السياسيّ يوظّف - عبر التاريخ - المسألة الدينيّة المتمثلة في اختلاف أهل العلم حول المعاني المرادة مـن النصـوص الظنيّة، ثبوتًا أو دلالة، لتصفية حسابٍ له على خصومه من خلال انتقاء أحد المعاني المحتملة، وفرض ذلك المعنى على الجميع، واعتبار المخالف لذلك المعنى المختار خارجًا من الملّة، مما يبرّر تصفيته، والاعتداء عليه بشتى طرق ووسائل الاعتداء!
مما يجعلنا ننتهي إلى القول: إنّه لا حاجة اليوم البتة إلى التوسع في عرض هذه المسألة ومثيلاتها في الدرس العقديّ والفقهيّ بوصفها مسائل تاريخيّة عفا عليها الزمن ولا أثر لها في حياة المكلّفين!!
وبطبيعة الحال لا يعدّ هذا المثال سوى أنموذج لجملة حسنة من الأمثلة لتلك المعلومات والمفاهيم والمعارف التاريخيّة، التي يتمّ استحضارها ودراستها للنشء، الذي يجد صعوبة بالغةً لفهمها واستيعابـها اعتبارًا بأنّ الواقع المعاصر
[ ص: 121 ] لم يعد فيه وجودٌ لهذه الفرق الكلاميّة البائدة، على الرغم من محاولة بعض المتأوّلين - المولعين بإلصاق التهم بالمخالفين لهم - اعتبار بعض المدارس الفكريّة الحديثة امتدادًا لتلك المدارس التاريخية البائدة!
وما درى أولئك المتأوّلة بأنّه قد كان الانتماء في الدولة الأمويّة إلى أهل الحديث شرفًا عظيمًا، كما كان الانتماء هو الآخر إلى المعتزلة في الدولة العباسيّة شرفًا أيّما شرفٍ، بل إنّ الانتماء إلى الأشاعرة في الدولة السلجوقيّة كان ذات يوم شرفًا لأهله!!
وأما وقد غدا الانتماء الظاهر اليوم إلى أيٍّ من هذه الفرق الكلاميّة البائدة (المعتزلة، والأشاعرة) في كثيرٍ من الأرجاء محلّ خشية، وتهمة، لذلك، فليس من حصيف الرأي استغلال مساحة كبيرة من حياة النشء لدراسة هذه الفرق إذ لا يجد لها حضورًا حقيقيًّا في الواقع، الذي يعيش فيه! وبدلًا من ذلك ينبغي تعريفه بالمدارس الفكريّة الحديثة القائمة كالمدرسة الوجوديّة، والمدارس الإلحاديّة المختلفة المنتشرة في الأصقاع!
على أنّه من الحريّ تقريره أنّ هذا الوجود الطاغي للموضوعات والمفاهيم والمعارف التاريخيّة في الدرس العقديّ يجده المرء حاضرًا بقوة شديدٍة في الدرس الفقهيّ والأصوليّ، إذ إنّ جلَّ المسائل الفقهيّة المتعلقة بأحكام الرقّ، وتفاصيل أحكام الطهارة والمياه والذبائح وسواها، وأحكام الذمَّة والأمان لم يعد لكثيرٍ منها حضور في الواقع المعاصر، بل أمسى جلّها تاريخًا يصعب على الناشئ فهمها واستيعابها بالشكل المطلوب!
[ ص: 122 ] - المرتكز الثاني: تغليب دراسة الأصول والقواعد على دراسة الفروع والمسائل:
لئن أمست الحاجة اليوم إلى تصفية الدرس الفقهي والعقديّ والتربويّ من العديد من المسائل التاريخيّة الظرفيّة البائدة، فإنّ الحاجة تمسّ أيضًا إلى التخفيف من غلواء دراسة الفروع على حساب الأصول والقواعد، وبتعبير آخر، يجب تغليب دراسة الأصول العامة والكليّات والقواعد على دراسة الفروع والجزئيّات تمكينًا للنشء من إنتاج المفاهيم والمعارف الجديدة.
فلئن كان من المعلوم لدى المحقّقين أنّ الفروع، التي تعجّ بها المدوّنات الفقهيّة والعقديّة والتربويّة نتاج تلك العقول، التي استوعبت الأصول والقواعد والكليّات، إذ إنّهم تمكّنوا من الأصول، وأشرفوا على الكليّات، فأنتجوا هذا الكمّ الزاخر من الفروع والجزئيّات، التي تمتلئ بها مكتباتنا، لذلك، فإنّه لا بدّ من تمكين النشء من تلك الأصول والقواعد والكليّات ليتمكنوا من إنتاج مزيد من الفروع والجزئيّات في ضوء الواقع، الذي يعيشون فيه!.
إنّ تنقية مقررات العلوم الإسلاميّة المختلفة من غلواء الفروع والجزئيّات أمست اليوم أمرًا ضروريًّا في العصر الراهن، إذْ إنّه من الواضح الجليّ أنّ المراحل الدراسيّة الجامعيّة الأولى في جامعاتنا وكلياتنا ومعاهدنا تعنى بتدريس النشء الفروع الفقهيّة والكلاميّة والتربويّة، وتتوسع في ذلك توسعًا كبيرًا، وأما الأصول العامّة للشريعة، والقـواعد الكليّة، والنظريات الكبرى، والمقاصـد العليا، فإنّها لا تدرّس في الغالب الأعمّ إلا في المراحل الدراسيّة المتأخرة، مما يؤثّر تأثيرًا بالغًا على فهم النشء هذه الأصول، وتلك القواعد، والنظريات.
[ ص: 123 ]
وبتعبير أدقّ، إنّ عامّة الجامعات والكليات والمعاهد في ديارنا تؤجّل تدريس النشء الأصول العامة للشريعة، والقواعد الكليّة، والنظريات الكبرى، والمقاصد الشرعيّة إلى سنيّ التخرج، ظنًّا منها أنّ النشء يكون في المراحل الأخيرة (السنة الثالثة أو الرابعة) أقدر على فهم تلك الأصول والقواعد والنظريات، وأنّه ليس بإمكانه فهمها قبل ذلك؛ وليس من شكٍّ في أنّ هذا التصور، وهذا المنهج في التدريس يعدّ أحد الأسباب الرئيسة إلى وجود كثرة كاثرة من حفظة الفروع الفقهيّة والكلاميّة، التي يختصر دورهم على استحضار ما قاله السابقون وما انتهوا إليه من آراء وأنظار في ضوء واقعهم الفكريّ والسياسيّ والاجتماعيّ والخلقيّ، كما أنّ هذا المنهج هو المسؤول اليوم عن ذلك الشحّ الشديد في عدد أولئك المتمكنين من استيعاب الأصول العامّة، والقواعد الكليّة، والمقاصد السنيّة، والقادرين على توليد آراءٍ وأنظارٍ متجددةٍ في تلك المسائل التي سبق للأسلاف أن أوسعوها جانب النظر والتأمل، سواء في باب الفقه أم في باب العقيدة أم في باب التصوف!
وإذا كان من الثابت عند علماء النفس التربويّ أنّ القدرة على الاستيعاب والفهم والإدراك تتأثر بتقدم العمر، وأنّ استعداد الذهن للتلقي يتقدّ كلّما قلت المشاغل وندرت المشاكل، فإنّ هذا يعني أنّ النشء في المراحل الجامعيّة الأولى أقدر على استيعاب تلك الأصول والقواعد والنظريات، وفهمها، وتمثلـها، إذ إنّ أذهانهم أكثر حفاظًا على تلك الأصول والقواعد، مما يجعل البدء بها أولى وأجدر وأرسخ.
[ ص: 124 ]
وفضلًا عن هذا، فإنّ البدء بدراسة هذه الأصول والقواعد والنظريات من شأنها تمكين النشء من توجيه الخلافيات والفروع وربطها بالأصول ربطًا محكمًا، مما يجنّبه التحامل على المخالفين، والإساءة إلى مرادهم ومواقفهم.
وبناء على هذا، فإنّ ما نشهده اليوم في واقع المقررات الدراسيّة المعاصرة في الجامعات والكليات والمعاهد والمدارس من إرهاقٍ مقصودٍ، وتشتيتٍ شديدٍ لذهن الطالب مردّه إلى قيام تلك المقررات على مطالبة النشء بهضم كمٍّ هائلٍ من الفروع والجزئيّات المتناثرة في أبواب الفقـه والعقيـدة والتربيـة، حـتى إذا ما وصل الطالب إلى نهاية المرحلة الدراسيّة، يجد نفسه منهمكًا لا يقدر على استذكار الأصول العامة، ولا على استحضار القواعد الكليّة، ولا على استيعاب المقاصد العليّة، كما يجد نفسه عاجزًا عن توظيف تلك الأصول واستحضارها والاحتكام إليها، وذلك نتيجة ما سيطر على فكره وذهنه من أقاويل أهل العلم، التي أثمرت فروعًا وجزئيّات متعددة في الدرس الفقهيّ، والعقديِّ والتربويّ... الخ.
إنّ المرء لن يكون مبالغًا إذا زعم اليوم بأنّ 80% من المعلومات والمعارف، التي تقدّم للنشء في مرحلة مبكرةٍ يدور كلها حول المسائل الفرعيّة والجزئيّة وخاصّة في الدرس الفقهيّ والعقديّ.
فعلى سبيل المثال يقضي الطالب الجامعيّ السنوات الأولى (=المستوى الأول والثاني والثالث) في دراسة جملة حسنة من المسائل الفقهيّة والعقديّة والتربويّة دون أدنى ربط بين تلك المسائل والأصول العامة والقواعد الكليّة، التي تحكمها، وترتدّ إليها. فيدرّس كون النيّة شرطًا لصحة سائر العبادات
[ ص: 125 ] والأعمال، وقد كان من الممكن البدء بتمكين الطالب من قاعدة: "الأمور بمقاصدها"، كما يدرّس الطالب مختلف أبواب المعاملات المالية من بيوع وشركات وعقود، فيدرّس بأن القراض وشركات العنان والمفاوضة والأعمال والشركات والبياعات والعقود الحديثة وسواها جائزة، وقد كان ينبغي البدء بتمكينه من قاعدة: "الأصل في المعاملات الإباحة"، وهكذا دواليكم!!
وبطبيعة الحال، يجد المرء حضورًا لذلك التوسع في الفرعيات والجزئيّات على حساب الأصول والقواعد والكليّات في الدرس العقديّ، حيث ينتعش توسع مكروه في دراسة المسائل المتعلقة بالأسماء والصفات وعرض ما أثير من خلافات بين المعتزلة والأشاعرة وأهل الحديث حول تلك الفروع، وقد كان من الممكن البدء بتدريس قاعدة: الإجمال في النفي، والتفصيل في الإثبات
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=11 ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) (الشورى:11)!
وأيًّا ما كان الأمر، فإنّ البدء بتدريس النشء الأصول، وتلقينهم القواعد، وتفهيمهم الكليّات من شأنه تمكينهم من حسن التفاعل والتعامل مع ما يرد عليهم من مسائل ومستجدات، كما من شأن ذلك تمكينهم أيضًا من إنتاج مزيد من الفروع في ضوء واقعهم، مما يحقّق لهم تصرفًا رشيدًا من الموروث الفكريّ الزاخر للأمّة!
وبناءً عليه، فإنّه لا أمل في تمكين النشء من إنتاج المعارف والمفاهيم الجديدة ما لم يستوعبوا الأصول، وما لم يتمكنوا من الكليّات والقواعد، ولذلك، فإنّه يجب البدء بتمكين النشء من استيعاب الأصول، وهضم
[ ص: 126 ] القواعد، وفهم الكليّات، ولا تحقيق لذلك ما لم يخصّص المساحة الكبرى لتدريس الأصول والكليّات والنظريات الكبرى!
وصفوة القول، إنّ الحاجة تمسّ اليوم ضرورة البدء بتمكين النشء، في المراحل الدراسيّة الأولى، من استيعاب الأصول العامة، وهضم القواعد الكبرى، وإدراك المقاصد العليا، مع التركيز المستمر على ضرورة تعظيم الجوامع، والاعتناء الأعظم بالمتفق عليه، والتقليل قدر الإمكان من الاهتمام بالخلافيّات، وذلك كله أملًا في تمكين النشء من التبرؤ العلميّ المنهجيّ الموضوعيّ من مشاعر الكراهيّة والتنازع والتباغض بين أتباع المذاهب النابعة من مهاجمة ذهن النشء في وقت مبكر بالخلافيّات، والتركيز غير المبرر في المراحل الدراسيّة على الخلافيّات فضلًا عن الإعلاء المتعمد لشأن المختلف فيه على حساب المتفق عليه.
ومهما يكن من شيء، فإنّ تحقيق هذا البعد من مراجعة محتويات المناهج يقتضي اليوم تخصيص السنتين الأوليين - على الأقلّ - من المرحلة الجامعيّة لتدريس الأصول العامّة، والقواعد الكليّة، والنظريات الكبرى في الدرس الفقهيّ، والعقديّ، والتربويّ، كما يقتضي هذا الأمر تأجيل دراسة الفروع والجزئيّات الفقهيّة والعقديّة والصوفيّة المتشعبة إلى السنتين الأخيرتين. وبطبيعة الحال، إنّنا نبادر إلى تقرير القول: إنّ هذا الأمر لا يعني بأي حالٍ من الأحوال تدريس الأصول العامة والقواعد الكليّة والنظريّات الكبرى مجرّدة بل لا بدّ من ربطها - كالعادة - بالأمثلة العمليّة ذات الصلة بحياة النشء.
إنّ القيام بهذا الإصلاح يعدّ اليوم الأمل الأخير في إعداد ذلك الجيل القادر على إنتاج المعرفة، وتسديد الحياة بتعاليم الشرع في يسرٍ وسهولةٍ!
[ ص: 127 ] - المرتكز الثالث: التوسع في تدريس المتفق عليه، والتقليل من تدريس المختلف فيه:
لئن كان تغليب تدريس الأصول والكليَّات والقواعد، والبدء بذلك في الدرس الفقهيِّ والعقديّ والتربويّ أمرًا مهمًّا في مسيرة الإصلاح المنشود لمحتويات المناهج، فإنّ ثمة قضيّةً أخرى ذات ارتباط وثيق بهذا البعد، وتتمثّل في ضرورة الكفّ عن التوسع في تدريس المختلف فيه بين المصلّين في الدرس الفقهيّ والدرس العقديّ والدرس الصوفيّ، وبدلًا من ذلك يجب التوسع في تدريس النشء المتفق عليه، وتعظيمه، وإبراز كون المتفق عليه أكبر وأكثر وأوسع من المختلف فيه، وكون المختلف فيه مرفوع الإثم عن كلّ المصلّين، وكون الاهتمام الزائد بالمختلف فيه تضييعًا للجهد والمال والوقت، وتشتيتًا للشمل، وشقًّا للصفِّ، في الوقت الذي تحتاج الأمة فيه إلى لمّ الشمل، وجمع الكلمة، ووحدة الصفّ!
أجَلْ، إنّه مما يرثى له اليوم ما نراه من ذلك التوسع المذهل في عرض الخلافيّات، والتركيز عليها بشكلٍ يجعل العاقل يتساءل عن مدى صحة كون ذلك المختلف فيه مرفوع الإثم عند الله تعالى اعتبارًا بأنّ الحقّ في المختلف فيه يتعدّد عند محقّقي الأصوليّين بتعدد المجتهدين وإن كان الحقّ نفسه لا يتعدّد عند الله جلّ جلاله!!
وبتعبير أوضح، إذا كان كلّ مجتهدٍ في المسائل العقديّة والفقهيّة والتربويّة المختلف فيها مصيبًا، ومأجورًا غير مأزور، فإنّ التوسع في إبراز هذا المختلف
[ ص: 128 ] فيه على حسـاب المتفـق عليه لا يعدو أن يكون تضييعًا للوقت والجهد، ولا أجر في ذلك البتة!
وعليه، فإنّ ما نشهده من تركيزٍ - نحسبه منكورًا ومكروهًا - على المختلف فيه هو الذي ربّى ولا يزال يربّي لدى النشء شعورًا متصاعدًا بأنّ أهل القبلة - المصلّين - يختلفون في كلّ شيء، سواء في مجال العقيدة، أم في مجال الفقه، أم في مجال التربية، بل يخيّل إلى كثيرٍ من الجيل الصاعد - وهم على حـقّ - أنّ مسـاحة الاتفاق بين الأمّة تكاد أن تكـون شبه معدومـة، وأنّ مساحة الاختلاف بينهم واسعة لا حدود لها!
نعَمْ، إنّ الإفراط في تدريس المختلف فيه في باب الفقه، وباب العقيدة، وباب التربية، وسواه، كان ولا يزال السبب الرئيس في تفريق كلمة الأمة، واختلاف صفّها، وتناحر أبنائها، وتشتيت جهودها، إذ يسعى كلّ فريق إلى بذل المال والنفس من أجل فرض رأيه المظنون في المختلف فيه، سواء في المجال الفقهيّ أم في المجال العقديّ، والحال أنّه لم يكلّف الشرع الحكيم أحدًا من العالمين بأن يضيّع جهده أو ماله من أجل فرض رأيه الاجتهاديّ المظنون على غيره، سواء في باب الفقه أو في باب العقيدة أو في باب التربية!
بل إنّ شرعنا الحنيف تجاوز - لحكمةٍ يعلمها الله - عن رصد أيّ أجرٍ دنيويٍّ أو أخرويّ لمن استفرغ طاقته في فرض رأيه الاجتهاديّ على غيره من المجتهدين، وبدلًا من ذلك، فإنّه قد تكفل بمنح أجرٍ لكلِّ مجتهدٍ، سـواء أصاب أم أخطأ، وبمنح أجرٍ إضافيٍّ لمن أصاب من المجتهدين الصواب عنده، جلّ وعلا!!
[ ص: 129 ]
أجلْ، لعمر الله، كيف يمكن للنشء التعايش مع المخالف في المذهب الفقهيّ أو العقديّ أو التربويّ، إذا كانت المادّة الفقهيّة أو العقديّة أو التربويّة، التي تقدّم له تركّز صباح مساء تركيزًا واضحًا وجليًّا على تدريس تلك المسائل المختلف فيها، لا من أجل تعريف النشء بكون الاختلاف فيها أمرًا طبيعيًّا، ولكن من أجل تلقينه بكون الصواب المطلق والحقِّ الملزم فيما ارتضاه شيخه من رأيٍ في المختلف فيه، في الفقه أو العقيدة أو التصوف، وكون المخالف لذلك الرأي مخطئًا وعلى باطلٍ يجب مناصـحته حينًا، ومقـاطعته طورًا، وربما محاربته تارة أخرى!!
والأمرّ من كلّ ما يجده المرء من طريقةٍ غير علميّةٍ في تدريس تلك المسائل المختلف فيها بين المتكلمة، والمتفقهة، والمتصوفة، إذ يتمّ استعراض آراء المخالفين وحججهم بوصفها شبهات حينًا، وضلالات تارةً، وخزعبلات طورًا، وأما ما يراه الشيخ المبجّل من رأي في تلك المسائل، فإنّه هو الصواب الأجلّ، وهو الحقّ المطلق، بل هو الصراط المستقيم!
وفضلًا عن هذا، فإنّ الناظر المتمعـن في طريقة استعراض تلك الموادّ، التي تقدّم للنشء يجـد حضورًا باهرًا لمحـاولات هـادفةٍ إلى اعتبار رأي مذهب أو مدرسة في مسألة فرعيّةٍ مظنونة، هو المذهب الصحيح، والمدرسة الحقّ، وأما رأي مخالف ذلك المذهب، أو تلك المدرسة، أو الطائفة، فإنّه هو الخطأ الواضح إذا كان المختلف فيه مسألة فقهيّة أو أصوليّة، وهو الباطل المبين إذا كان المختلف فيه مسألة عقديّة كلاميّة!
[ ص: 130 ]
وهكذا تؤثّر سائر هذه المعلومات والمفاهيم والمعارف في فكر النشء وسلوكه وطريقة تعامله مع المخالف له من أهل القبلة، إذ يغدو - في كثيرٍ من الأحيان - حَكَمًا متعجّلًا بين المصلّين، وربما تطور به الحال إلى إصدار أحكام قيميّة على الأفراد والدول، التي تخالفه في رأيه في المختلف فيه، بل ربما لاذ بتنصيب نفسه وصيًّا على تديّن الناس، وأفكارهم، وكيفيات تطبيقهم لتعاليم الشرع الحنيف، مما يدفعه في نهاية المطاف إلى استخدام شتى الوسائل الفكريّة والماديّة لمحاربة كل مخالف، وإلزامه باتباعه!
وصفوة القول، لا بدّ من معالجة هذا الغلو والتوسع في تدريس المختلف فيه من جهة، وطريقة تدريسه من جهة أخرى، تخفيفًا عن الأمة حالة الصراع الفكريّ المنكور بين المصلّين، وحالة التشتت المنبوذ بين أهل القبلة الواحدة إزاء المظنونات والخلافيّات!
فمن اللغز الفـكريّ المستـعصي على العـلاج أن يقبل الإنسان المسلم التسامح والتعايش - جنبًا إلى جنبٍ - مع المخالف له - جملةً وتفصيلًا - في الملّة والعقيدة والقبلة، ويرفض ذلك المسلم نفسه التسامح والتعـايش مع من يشـاركه الإيمـان بالأصول والكليّات، والقبلة الواحدة!! لا علاج لهذا الازدواج المكروه في الفكر والسلوك سوى مراجعة محتويات مناهجنا وطريقة تدريسنا وتقديمنا تلك المعلومات المختلف فيها للنشء!
إنّ إصلاح محتويات مناهج علومنا الإسلامية المعاصرة يقتضي اليوم ضرورة إحداث ثورةٍ منهجيّة تغييريّة داخل محتويات المقررات الدراسيّة، بحيث
[ ص: 131 ] يغدو 80% من المادة التعليميّة، التي تقدّم للنشء مركزًا تركيزًا واضحًا على دراسة تلك المسائل والقضايا المتفق عليها في الدرس الفقهيّ، والدرس الكلاميّ، والدرس التربويّ، كما ينبغي أن يغدو التركيز منصبًا على تلقين النشء المتفق عليها في باب الفقه والعقيدة والتصوف، وفضلًا عن هذا، فإنّ الحاجة تمسّ اليوم إلى معالجة ما تعانيه مناهجنا من هذا الخلل المنهجيّ الفكريّ المتوارث عبر القرون، وضرورة تجاوزه تجاوزًا جذريًّا يقوم على صرف الجهود في تلقين النشء في وقت مبكر على كون دائرة الاختلاف بين المصلّين دائرةً ضيّقة، وكون دائرة الاتفاق بينهم دائرة واسعةً تسع الحياة كلّها!
ولئن كانت ثمة ضرورة فكريّة ومصلحة علميّة في تعريف النشء الفروع والمظنونات (=المختلف فيه) سواء في مجال العقيدة أم في مجال الفقه والحديث والتفسير، فإنّ المنهج الأمثل لذلك يتمثّل في تعريفه بهذه الفروع بطريقة مختصرة ومقتضبة، مع التركيز على إبراز كون الاختلاف في تلك المسائل اختلافًا طبيعيًّا مقبولًا، بل ثروة فكريّة ينبغي النهل منها كلما دعت الحاجة إلى ذلك، وذلك انطلاقًا من تلك المقولة المأثورة عن إمام دار الهجرة: المذاهب كلها على هدى، وكل يبتغي الله ورسوله!!
وبتعبير آخر، ينبغي تعريف النشء على هذه الثروة الفكريّة الهائلة، التي تركها الأجداد من حيث التشكل والتكوين، كما ينبغي تعريفه على طريقة الاستـفادة منها من خلال اعتبارها كلها - بلا استثناء - معالجات متعددة يمكن الاستفادة منها حسب الأوضـاع والظروف والأحوال والأزمنة
[ ص: 132 ] والأمكنة! فكلما وجدنا فيها ما يستجيب لوضعٍ أو حالٍ أو ظرفٍ استصحبناه واستحضرناه، مما يعني أنّ الاستفادة منها مرهونة بما يمليه الزمان والمكان والحال والوضع!
وعلى العموم، إنّنا نعود لنقرّر بأنّ مقتضى إحداث الثورة التغييريّة المنشودة في جعل 80% من المادة التعليميّة مركّزًا على تلقين النشء المسائل المتفق عليها بين أهل القبلة يتطلب مراعاة الأمرين المنهجيّين، أعني التقليل من عرض المسائل المختلف فيها، والأمر الثاني إبراز كون الاختلاف في تلك المسائل سائغًا ومقبـولًا، وكون كلّ رأي من الآراء الواردة فيها محلّ تقدير واعتبارٍ بعيـدًا عن الانتقاص بأصحاب تلك الآراء وتسفيههم أو تسفيه أتباعهم المعاصرين!!
على أنّه من الجدير تقريره بأنّ تحقيق هذا الإصلاح لمحتويات مناهج العلوم الإسلاميّة يتطلب اليوم ضرورة تكوين لجان علميّة متمكنة رصينة تعنى بالقيام بمهمة إعادة صياغة جميع المقررات الدراسيّة في جميع العلوم الإسلاميّة لجميع المراحل الدراسيّة، بلا استثناء، في ضوء الترتيب المشار إليه، بحيث تخصّص - كما أسلفنا - السنتين الأوليين - مثلًا - لتعليم النشء الأصول العامة والقواعد الكليّة والمقاصد العليا في كل علم من العلوم، كما تخصّص هاتين السنتين أيضًا لتعريفه بمواطن الاتفاق بين أهل القبلة والإفاضة في شرحها وتوضيحها، وأما السنتان الأخيرتان، فيمكن تخصيصهما لتعريف النشء بمواطن الخلاف في العلوم والمعارف، مع التركيز على ضرورة استحضار القواعد الموجّهة
[ ص: 133 ] للخـلافيّات والمجتهـدات، فضـلًا عن طرق التعامل المثلى مع ما اختلف فيه أهـل العـلم في العقيدة والفقه والتربية استنـادًا إلى الأصـول والقـواعد والكليات والمقاصد.
- المرتكز الرابع: تقديم المعارف والمفاهيم في ضوء التصور الإسلاميّ الكليّ للإنسان والحياة والوجود:
أجل، لئن كان الاعتداد بهذا الترتيب السلّميّ لتحقيق الإصلاح المنشود للمحتويات أمرًا ضروريًّا وعاجلًا في الوقت الراهن، ولئن كان الاعتداد بالتوسع في تلقين النشء المتفق عليه بين أهل القبلة والتقليل من عرض المختلف فيه بينهم هو الآخر مجالًا من أهمّ مجالات إصلاح المحتويات، فإنّنا نخلص إلى تقرير القول: إنّ ثمة مرتكزًا رابعًا ينبغي أن ينضاف إلى المرتكزات الثلاثة السابقة لهذه المراجعة الإصلاحيّة لمحتويات المقررات الدراسيّة، ويتمثّل في ضرورة تقديم سائر العلوم والمعارف في إطارٍ من النظرة الإسلاميّة الكليّة للكون والإنسان والحياة والوجود، ارتكازًا على مبدأ المرونة والسعة في تشريعات الإسلام المتعلقة بالتعليم وغيره من الموضوعات، فإنَّ الشرع الحنيف لم يعن بحديث مفصل وواضح عن محتويات المناهج أو العلوم بشكل عام، بل أمر بالقراءة في الكتاب المسطور والكون المنظور، وحث المسلمين على السعي في الأرض والكشف عن سننه في الخلق والتاريخ والكون.
إنّ هذا الإصلاح للمحتويات ينصرف بشكلٍ آكد إلى محتويات تلك العلوم والمعارف الموسومة في دنيا الناس بالعلوم العقليّة أو الإنسانيّة، وينطلق
[ ص: 134 ] من مبدأ الإيمان بأنّ المعرفة الإسلاميّة لا تنحصر بأيّ حالٍ من الأحوال في المعارف والعلوم الموسومة اليوم بالعلوم الإسلاميّة، ولكنّها تنتظم بجانب تلك العلوم والمعارف كلّ معرفة إنسانيّة تقدّم في إطار من النظرة الإسلاميّة للإنسان والكون والحياة والوجود، انطلاقًا من كون المعرفة الإسلاميّة معرفة أوسع من أن يستوعبها تخصص من التخصصات، أو تقف عند حد فن من الفنون، بل هي "..منهجية.. تلتزم توجيه الوحي، ولا تعطل دور العقل، بل تتمثل مقاصد الوحي وقيمه وغاياته، وتدرس وتدرك وتتمثل موضوع اهتمام الوحي وإرشاده وهو الفرد والمجتمع الإنساني، والبناء والإعمار الحضاري، وما أودع الله في هذه الكائنات والعلاقات من فكرة ومن طبع، وكيف توجه تلك الطبائع وتتفاعل، وكيف تطوّع وتستخدم، وكل ذلك من أجل تفهم هذه الكائنات وعلاقاتها حتى يمكن تسخيرها لتوجيه الإسلام وغاياته.."
[2] .
ومقتضى هذا أن أية مادة تقدّم في إطار من التصور الإسلامي تعد مادة إسلامية، ولو كان ذلك في الرياضيات أو الفيزياء أو الكيمياء، ذلك لأن "..كل علم يصمّم منهجه ويدرّس على أساس أن يساهم في بناء الإنسان المسلم القادر على المشاركة بإيجابية وفاعلية في عمارة الأرض وترقيتها وفق منهج الله هو علم ديني، من وجهة نظر الإسلام، يستوي في ذلك علوم الشريعة والعلوم الحديثة كالرياضيات والطبيعة، والكيمياء، وعلوم التقنية الحديثة.."
[3] .
[ ص: 135 ]
وعليه، فإنَّ ما نشاهده اليوم من فصام نكد بين ما يسمّى بعلوم الدين وما يسمّى بعلوم الدنيا، يحتاج من القائمين على شؤون التعليم في العالم الإسلامي إلى مراجعة عاجلة شاملة، ذلك لأنه يعد المسؤول مسؤولية كبيرة عن تقسيم أبناء الأمة الواحدة إلى علمانيّين، ومتديِّنين!.
وعلمانية العلمانيّين تعود إلى تشبعهم في معظم الأحيان بما يعرف بالعلوم الدنيوية، وانخداعهم بعظمة هذه العلوم ورجالاتها، مما جعلهم يتخيّلون أنّ إصلاح الواقع المعاصر ينبغي أن يتم من خلال المناهج، التي تعتمدها الأمم المتمدنة القدوة في نظرهم وطروحاتهم، ويؤمن أكثر هؤلاء أنه لا يمكن للإصلاح أن يتحقق إذا لم يتم التخلص والقضاء المبرم على الزمرة المتديّنين، الذين يحسبونهم عقبة كؤودًا أمام مشاريعهم وبرامجهم الإصلاحية!
وأما دينيّة المتدينين، فإنّه يعود إلى تمكن أكثرهم مما يعرف بعلوم الدين والشريعة المحضة، ويرون أن إصـلاح الواقع المعاصر، لا يمكن له أن يتحقق إلا من خلال المناهج الدينية التي تعلموا عليها، ويعتقدون اعتقادًا جازمًا أن خصومهم العلمانيين هم المسؤولون عن كل ما جرى وما يجري من محن وابتلاءات في العالم الإسلامي، ولولاهم وصنيعهم وبعدهم عن منهج الله لكان الواقع الإسلامي أكثر استقرارًا وتقدمًا وتطورًا ونهضة!
أجل، إنّ هذا التشوه في الرؤية والتحليل والنقد عند كلا الفريقين، يعد أثرًا من آثار الفصام النكد المفتعل بين علوم الدين وعلوم الدنيا، كما يعدّ نتيجة حتميّة لمحتويات علوم الدين وعلوم الدنيا، التي تعمّق الهوة والفجوة
[ ص: 136 ] والجفـوة بين الديـني والدنيوي، وتختـلق خصامًا بين النقـلي والعقلي، وبين المادة والروح.
وأيَّا ما كان الأمر، فإننا نعتقد بأن كلا الفريقين - العلمانيين والمتدينين - مسؤولان أمام الله وأمام التاريخ مسؤولية مباشرة ومتساوية عن هذا الواقع المزري للأمة، إذ إنّ دينهم الحنيف لم يأمرهم قط بهذا الفصل بين الديني والدنيوي، كما أنّ انقسامهم إلى هاتين الجبهتين المتناقضتين والمتنافرتين لم ينزل الله بذلك سلطـانًا، بل لـم يأمرهم به قرآن ولا سنة، وإنما اختاروا بأنفسهم ما هم فيه من وهنٍ وضعفٍ، وما يتقلبون فيه من تخلف وتأخر.
إيْ (=نعم)، لم يأمر الإسلام أحدًا بالانسحاب من الحياة العملية وتركها كلأ مباحًا للآخرين، ثم اللياذ بلوم أولئك الآخرين على ما فعلوا بهـذه الحياة، وما تصـرفوا فيها من تصرفات، كما أنه لا يوجد إسلام نهى أحدًا عن الإعراض عن تعلم قيمه الراسخة ومبادئه الثابتة، التي تنور القلوب وتجلي الأبصار وتهدي إلى صراط مستقيم. فمن اختار الانسحاب والانزواء والسلبية، فلا يلومن إلا نفسه، ومن اختار الإعراض والانبهار بالوافد المارد، فلا يلومن أحد إلا نفسه.
وصفوة القول، إنَّ إصلاح محتويات مناهج العلوم بشكل عامٍّ يتحقق من خلال إعادة الرحم المقطوعة بين الديني والدنيوي، وتجاوز الفصل المفتعل بين علوم الدين وعلوم الدنيا، فضلًا عن ضرورة تزويد النشء بقدرٍ معقول من مبادئ كل واحدٍ من هذه العلوم التي شققها المسـلمون عندما تسربت إليهم
[ ص: 137 ] - على حين غرة - الآفة، التي وقعت فيها الكنيسة ورجالاتها في القرون الوسطى، ففصلوا فصلًا اعتسافيًا وتعسفيًا بين العلم والدين، واختلقوا صراعًا بينهما زورًا وبهتانًا. وليس من الممكن على الأمد القريب، التقريب بين الفئتين المتنازعتين في الأقطار الإسلامية كلها ما لم يتم القضاء على هذا الفصل من خلال ما يعرف اليوم بفكرة التكامل بين القيم والمعارف والعلوم، والتكامل بين علوم الدين وعلوم الدنيا.
إننا لعـلى يقين بأن لهذا الفصام النكد دورًا في نشأة الغلو والتطرف لدى فئام من الشباب المخلص، وخاصة منهم أولئك الشباب، الذين يسوقهم قدرهم إلى التوجه إلى العلوم الحديثة أو العلوم الدنيوية (=العلوم غير الدينية)، فمن الملاحظ أن حظ كثير منهم من المعرفة الإسلامية الصحيحة ضحل وضئيل، وأما الحماسـة التي تمـلأ جوانحهم، فهي مثل الجبال شموخًا ورسوخًا، وكثيرًا ما تدفعهم تلك الحمـاسة، التي لـم تصقل بفهم عميق لقيم الإسلام وتعاليمه إلى الغلو والتطرف والتعصب في مسائل وقضايا يحرم فيها الغلو والتطرف والتعصب والتهجم على المخالف، ولكن عذرهم أن زادهم المعرفي مغشوش ومشوّه وبخس، فلو أنـهم نالـوا حظّا أوفر وفهمًا أعمـق لتبرؤوا من كل فكر يدعو إلى إزهاـق الأرواح البريئة والخروج على الطاعة، وشق الكلمة، وإشاعة الفتنة والبلبلة، وإدخال الرعب والخوف في النفوس ظلمًا وجورًا.
[ ص: 138 ]
وبالمقابل، فإنه من الملاحظ أيضًا أنّ حظّ كثير ممن ساقهم قدرهم إلى العلوم الدينيّة (=العلوم غير الدنيوية) في المعرفة الحديثة وخاصة المعرفة المتعلقة بالواقع المعيش ومكوناته، وما يطرأ عليه من ظواهر وأحوال، بئيس وضئيل، ولكنه يخيّل إلى كثير منهم بأنهم يعرفون هذا الواقع المعقّد والمتشابك معرفة صحيحـة، والحال أنّ مصادر معرفـة هـذا الواقـع المتمثلة في علوم الدنيا لم يسعفهم حظهم إلى القراءة فيها أو التعلم منها، ولكنهم مع ذلك تدفعهم المعرفة الظاهرية والاعتقاد غير الصحيح إلى إسـاءة التعامل مع هذا الواقع، فترى بعضهـم يلجأ إلى استخدام الوسائل العنيفة لتغيير هذا الواقع، والاعتداء على الأنفس والأموال، ظنّا منهم - بل جهلًا مطبقًا - بأن الواقع لا يتغير إلا من خلال هذه الوسائل الفاشلة العليلة المخالفة لسنن الله في الكون والتاريخ والحياة.
إذًا، إن معالجة ظاهرة الغلو والتطرف الديني أو الدنيوي، تكمن في إعادة صياغة محتويات المناهج التعليمية صياغة إسلاميّة لا ترى فصامًا بين الدينيّ والدنيويّ، ولا بين العقليّ والنقليّ، ولا بين الروح والمادة، ولا بين عالم الغيب وعالم الشهادة، بل تقوم على رؤية ناضجة ناصعة ترى في هذه الثنائيات جمالًا وروعة وتكاملًا وتساندًا وترابطًا. فالتكامل هو الأمل الأوحد لتخفيف حالة الرهق الفكري والتشتت المرجعيّ، التي عمّت به البلوى، وجلبت ولا تزال تجلب للأمة مزيدًا من المآسي والآلام والويلات.
[ ص: 139 ]
على أنّه من الحريِّ تقريره أنَّ فكرة إعادة التكامل بين علوم الدين/ الشرع وعلوم الدنيا لا تعني بأي حالٍ من الأحوال قضاء مقصودًا على فكرة ما يعرف اليوم بالتخصص الدقيق في المعارف والعلوم، ولكنها تعني نفي التنافر والتناقض بين الديني والدنيوي، وبين النقلي والعقلي، وبين عالم الغيب وعالم الشهادة، كما تعني تمكين الجيل الصاعد من المبادئ والأسس العامة، التي تقوم عليها النظرة الإسلامية الناصعة المتوازنة والمتكاملة إلى الإنسان، والكون، والحياة، والوجود، فضلًا عن أنها تعني جعل تعاليم وحي السماء قيِّمًا على الواقع المعيش، وتطويع الواقع الإنساني بجميع شعابه لمقاصد خالق الكون ومدبره، ومقتضى هذا التكامل تحصين النشء بالكليات والثوابت والقيم، التي لا ينبغي أن يحيد عنها الفرد أنى كان تخصصه وزاده المعرفي.
وبناءً عليـه، فإن على مصمِّمي المناهـج التعليميَّة/ الإسـلاميَّة والدنيويَّة أن يرفضوا أي تقسيم للنشاط المعرفي يقوم على الفصل بين الدينيِّ والدنيويِّ، وبين النقليِّ والعقليِّ، وبين الماديِّ والروحيِّ، إذ ليس ثمة تنافر أو تناقض بين هذه الثنائيات، بل هي ثنائيات متكاملات ومترابطات ومتداخلات، ولا يصح الفصل بينها بتـاتًا، بل إنَّ أيَّ فصـلٍ عشوائيٍّ أو تعسـفيٍّ بينهما، يفضي- ولا محالة- إلى غبشٍ في الرؤية، واضطرابٍ في المنهج، وقلقٍ في الحركة، وتشوّهٍ في تعامل الإنسان مع الكون والحياة والوجود، مما يجعل الحياة متسمة بدوام الصراع.
على أنّه مما ينضاف إلى الاعتداد بفكرة إعادة التكامل بين الدينيّ والدنيويّ، والنقليّ والعقليّ، إعادة النظر في المراحل التعليميَّة، التي نعتمدها في
[ ص: 140 ] مؤسّساتنا التعليميّة تبعًا لغيرنا من الأمم والشعوب، وليس انطلاقًا من الواقع، الذي نعيش فيه، أعني أنّنا اعتمدنا ما انتهى إليه غيرنا من اعتماد لسنيّ الدراسة دون محاولة لربطها بواقعنا المختلف عن واقعهم!
وبناءً عليه، فإنّنا لا نرى محظورًا في إعادة النظر الحصيف في كل مرحلة من المراحل التعليمية المختلفة، فالعبرة ليست ولم تكن أبدًا في عدد السنوات، ولكنها كانت وينبغي أن تكون دومًا وأبدًا في النوعية والجودة.
وإنَّني لعلى يقينٍ بأنَّ ثمة حاجةً إلى إعادة النظر بشكل جذريّ في سني الدراسة والتحصيل على جميع المراحل التعليمية، بدءًا بالمرحلة الابتدائية والمتوسطة والثانوية والجامعية، ذلك لأن جملة من المعلومات، التي كان تحصيلها متوقفًا على المدرسة، غدت اليوم في متناول الأطفال عبر مختلف مصادر التعلم، وخاصة الأجهزة السمعية والبصرية وغيرها، مما يدعو إلى تجاوز تلك المعلومات واستبدالها بمعلومات متقدمة، وينتج عن ذلك إعادة النظر في سني الدراسة والتحصيل.
وبطبيعة الحال، لم يقل أحد من الخلق بأنَّ سني الدراسة المتبعة اليوم في المؤسسات التعليمية التقليدية مبنية على نصـوص منـزلة من خالق الكون، كما لم يقل أحد من أهل العلم بالتربية والتعليم بأن تلك السنين تسمو على المراجعة والتقويم في ضوء ما تستجد في واقع الناس من تقدم وتطور وتغير، فالشأن في تحديد تلك السنوات كالشأن في أي أمر اجتهادي قابل للخطأ والصواب، وخاضع للمراجعة والتقويم والتعديل والتطوير والتغيير.
[ ص: 141 ]