مقدمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.. وبعد،
فإن الظروف الاستثنائية الطارئة، كحال الأزمات على اختلاف أنواعها، تعد المجال الحقيقي، الذي يبرز من خلاله دور القيادة ومقدرتها على احتواء الأزمات وإدارتها ومواجهتها والتعامل معها.
ويبرز هذا الدور في أوضح صوره حين تتعلق الأزمات بأمن الإنسان وحياته، كما في حالات الحروب والكوارث، الطبيعية والبيئية، الخارجة عن فعل الإنسان وإرادته، مما يستدعي تدخل إرادة بشرية، على مستوى الفرد والجماعة، تمتلك من الخصائص والسمات، ما يؤهلها لحسن التعامل، والتحرك في الوقت المناسب، واتخاذ مجموعة من القرارات الاستثنائية السريعة، التي تحول دون بقاء الأزمة واستمرارها أو تكرارها.
وتتطلب الأزمات تبني سياسات عامة (مؤقتة) للمواجهة، ضمن رؤى اسـتراتيجية محددة؛ ذلك أن الأزمة حالة اسـتثنائية مؤقتة وطارئة، الأمر الذي يجعل القرارات، التي تتخذ والسياسات، التي تعتمد لمواجهتها هي كذلك استثنائية وطارئة. [ ص: 33 ]
وهذا الكتاب، محاولة للدراسـة والبحث في كيفية التعامل مع أزمة "المجـاعة" من خـلال أنمـوذج "عام الرمادة" وأنموذج إدارة سـيدنا عمر ابن الخطاب رضي الله عنه لهذه الأزمة، باعتباره قائدا إسلاميا وخليفة للمسلمين؛ ومن ثم محاولة استخلاص أهم الدروس والعبر، ومعرفة السياسات والإجراءات، التي تم اتخاذها، واكتشاف السمات القيادية، في شخصية سيدنا عمر رضي الله عنه والإفادة منها في المقـاربة والفهم والتحليل لسـياسات إدارة أزمة المجـاعة، التي حدثت قبل نحو خمس سنوات، في دولة النيجر.
وتكتسب هذه الدراسة أهمية خاصة بالنظر إلى أن كثيرا من الدراسات والمؤلفات، التي تندرج تحت عنوان: "بحوث دور القيادة في إدارة الأزمة"، المتداولة في العالم الإسلامي، إما منقولة من الدراسات الغربية أو مترجمة عنها، مما يؤكد أهمية العمل على تأصيل مفهوم "إدارة الأزمة"، من خلال استدعاء الخبرات والنماذج التاريخية من حضارتنا الإسلامية، ذات الصلة بإدارة الأزمات ومواجهتها.
لذلك اهتمت الدراسة بالتأصيل للنموذج للتاريخي الإسلامي للحكم الراشد، الصالح لكل زمان ومكان، الذي وضع أسسه ومبادئه الرسول صلى الله عليه وسلم ، وسار على نهجه من جاء بعده من الخلفاء الراشدين، رضي الله عنهم أجمعين، مع التركيز على الدور الرائد لأمير المؤمـنين عمـر بن الخـطـاب رضي الله عنه في التأصيل والتنفيذ العملي لمبادئ الحكم الراشد، التي سبق بها بقرون عديدة [ ص: 34 ] البنك الدولي ودعوته إلى تطبيق مثل تلك المبادئ والعمل بها، وإعداد برامج إصلاح أو سياسات مواجهة الأزمات، التي قد تطرأ على المجتمع الإنساني، خاصة في الدول النامية.
وتأتي هذه الدراسة لتأكيد أهمية الترابط بين أطراف الأمة الإسلامية وتلاحمها وتكاتفها لموجهة الأزمات، التي تمر بها، كما في حال الأزمة المتمثلة في "نقص الغذاء"، في النيجر، الذي وصل في بعض التقارير الدولية إلى حد "المجاعة"، وتحقيق مبادئ التكافل والتراحم، من خلال الاستفادة من التجارب التاريخية الناجحة في إدارة الأزمات.
ويرجع سبب الاهتمام بالمجاعة في النيجر إلى أن هذا البلد الأفريقي تصل نسبة المسلمين فيه إلى (98%)، من مجموع السكان، وهو عضو في "منظمة التعاون الإسلامي"، كما أن دراسة الأمر، كحالة إنسانية، تنبع من كون النيجر تكاد تكون مرآة عاكسة لكل أنواع المشاكل، التي تتعرض لها دول العالم النامي والمتمثلة في الصراعات السياسية، والانقلابات العسكرية، والمشاكل الاقتصادية، والبيئية، والصحية، ضمن مجتمع وتحت ظل قيادة تعمل في غياب أسس "الحكم الراشد".
ومن جانب آخر، فإن دراسة أزمة "نقص الغذاء" أو "المجاعة"، تكتسب أهميتها بالنظر إلى أن الغذاء يعتبر حاجة إنسانية ملحة، فالمجاعة تمس حياة الإنسان ووجوده، ونقص الغذاء أو عدم وجوده يخلق أزمات [ ص: 35 ] ومشاكل عديدة تمس المواطن وحياته، وتكون سببا للتدخلات الخارجية، سواء على مستوى الدول أو المنظمات الدولية أو الإقليمية، كل حسب مصلحته وأهدافه.
ولا يمكن حل المشكلات الأخرى ما لم تحل المشكلة الأكثر إلحاحا والتي تستلزم وجود القيادة الفاعلة القادرة على الخروج منها، ذلك أن ظاهرة القيادة، كفرد أو كمؤسسة، ضمن حكومة أو منظمات إقليمية أو دولية، وقدرتها على صنع القرار وحسن إدارة الأزمات المختلفة، ينعكس على حياة الفرد ومستقبل المجتمع.
وبشكل عام، فإن هذه الدراسة تكتسب أهميتها بالنظر إلى عدة اعتبارات علمية نظرية وعملية تطبيقية.
أما الأهمـيـة العلمية (النـظرية) [1] ، فتتمثل في بيان دور سـيدنا عمر ابن الخطاب رضي الله عنه كـ (قيادة) وما قدمه كأنموذج للحكم الراشد القادر على إدارة الأزمة، كما في أزمة مجاعة "عام الرمادة" [2] ، وما أعده من سياسات عامة، وأصـدره من قرارات ذات طبيعة خـاصة، اتخذت وفقا لظروف الأزمة، [ ص: 36 ] ومدى إمكانية الاستفادة من تلك السياسات، والاسترشاد بما ضربته من أمثلة، وما أعطته من دروس، كسمات قيادية ناجحة في إدارة دفة الأمور، السياسية والاقتصادية والأمنية....الخ.
وأما الأهمية العملية التطبيقية فتتمثل في إبراز دور القيادة في إدارة الأزمة، مع إثبات أهمية الأساليب والإجراءات والقرارات، التي يتم اتخاذها للخروج منها في ظل نمط "الحكم الراشد"، مع بيان أهمية صحة ودقة المعلومات الخاصة بالأزمة وظروفها والذي بدوره يؤكد أهمية عملية الاتصال، التي تجري داخل بيئة الأزمة وخارجها، وأهمية التخطيط والتعامل مع الواقع وإدارته للخروج بأقل الخسائر.
وتتمثل المشكلة البحثية، في السؤال الرئيس للبحث وهو: ما الدروس المستفادة من خبرة الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه كنموذج للقيادة وللحكم الراشد في إدارة أزمة المجاعة "عام الرمادة"؟ وكيف يمكن تطبيقها على حالات معاصرة، كما في أنموذج أزمة المجاعة في النيجر؟ [ ص: 37 ]
ويتفرع عن ذلك ثلاثة أسئلة:
أولها، ما هو دور القيادة والحكم الراشـد في إدارة الأزمة؟ وثانيها، ما هي سمات الدور، الذي اضطلع به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في إدارة أزمة عـام الرمـادة؟ وثالثها، كيف تم إدارة أزمة نقـص الغـذاء في النيجر؟
وتعتمد الدراسة على منهج تحليل إدارة الأزمة، والذي يقتضي بحث وتحليل ما كتب في موضوع القيادة وإدارة الأزمة والحكم الراشد في جزئه النظري من خلال التعريف بمجموعة من المفاهيم الأساسية. كما تستعين ببعض المقولات النظرية المستمدة من علم إدارة الأزمات، حيث يتم التعامل مع الموضوع بصورة رأسية، بمعنى مناقشة أبعاد الموضوع المطروح حسب سياق الأزمة وأجزائها.
كما تستخدم الدراسة منهج المقارنة بين أنموذجين لأزمة المجاعة، ولسياسات القيادة في إدارة الأزمة، مع اختلاف الزمن والظروف، وذلك بالتعرف على أوجه الشبه، وأوجه الاختلاف بين الأزمتين، من خلال تفكيك كل أزمة على حدة، مع محاولة بيان الأسباب، التي تجعل الأزمة مستمرة في النيجر، في حين نجحت إدارة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في إنهائها عام الرمادة؛ وفي هذا الإطار يتم تحليل منظومة القرارات، التي اتخذتها القيادة في كل حالة في ضوء مقاصد الشريعة الخمسة: (حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال).
والحمد لله رب العالمين. [ ص: 38 ]