الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            ظاهرة التطرف والعنف (من مواجهة الآثار إلى معالجة الأسباب) [الجزء الأول]

            نخبة من الباحثين

            - التنفيس النفسي:

            إن استبداد طرف من الأطراف بحق من الحقوق دون من له فيه نصيب منه من شأنه أن يحدث في نفس المستبد عليه شعورا بالقهر والمظلومية، وذلك الشعور يولد فيه استعدادا للمقاومة من أجل رفع الاستبداد عنه ليظفر بحقه. وكثيرا ما يكون الواقع حائلا دون أن يثمر ذلك الاستعداد ثمارا واقعية بالتمكن من رد الحقوق بالفعل، ولكنه مع ذلك يبقى استعدادا قائما في النفس غير أنه ينفس عن ذاته في اتجاه آخر، وهو اتجاه الإسقاطات والآمال، فتأتي حينئذ الأفكار التي تعوض الحصول الناجز للحقوق المستبد بها بآمال في الحصول عليها بما هو آجل، وتصبغ تلك الأفكار بصبغة دينية فتصبح دينا يتدين به المظلومون في حقوقهم المستبد عليهم فيها، وهو ضرب من ضروب التطرف الديني.

            ولو تأملنا حال كثير من الجماعات الدينية الموصوفة بالتطرف في القديم والحديث لوجدنا فيها العديد من النماذج التي ينطبق عليها هذا الحال. ومنها على سبيل المثال تلك الفرق التي سلط عليها الاستبداد السياسي بحرمانها من حقوقها في المشاركة السياسية، فنفست عن ذاتها بتصور عهد مقبل يعود فيه الحكم إليها على يد رجل منها يزيل الاستبداد ويقيم العدل، [ ص: 28 ] وأصبحت أفكار من مثل فكرة الغيبة والرجعة وملء الدنيا عدلا كما ملئت جورا دينا تتدين به.

            ومنها أيضا فرق حديثة استقر في تصورها، تحت وطأة الاستبداد السياسي، أن السياسة وما يتعلق بها ليست من مشمولات التدين، فأسقطتها من حسابها، وجعلت الخوض فيها خوضا فيما لا يعني، وتجاوزت إذن ما حده الدين من شمول تكون فيه جميع مظاهر الحياة مناطا لأحكام الدين، بما فيها الحياة السياسية.

            وثمة فرق أخرى اتجـهت اتجاها معاكسا، إذ هي تحت وطأة الظلم والقهر امتلأت نفوس أتباعها حقدا وغيظا على الظلمة المستبدين، فأصبحوا لا يلوون على شيء إلا على الانتقام بأي وسيلة أدت إليه، سواء كانت أفكارا تكفيرية تضليلية لمن يمارس الاستبداد، أو كانت تصرفات عملية بالعنف المسلح والتقتيل والتدمير واغتصاب الأموال، وأصبح ذلك عند كل من أولئك وهؤلاء فهما دينيا تمارس على أساسه الدعوة إلى الإسلام عند النوع الأول، ويمارس على أساسه العنف عند النوع الثاني.

            ولعل كثيرا مما يقع اليوم من أعمال عنف تتبناها بعض الجماعات الإسلامية راجع إلى هذا السبب النفسي الذي ولده الاستبداد السياسي وملاحيقه من التعسف والظلم والتسجين والتعذيب، فبعض هذه الجماعات تولدت عندها الأفكار التكفيرية الانتقامية في سجون الاستبداد، إذ قد [ ص: 29 ] دخلت إلى تلك السجون وهي سوية التفكير مستقيمة في فهمها الديني، ولكنها بما اكتوت به فيه من تنكيل اعوجت مفاهيمها باحتقانات نفسية شديدة، وتبنت من الأفكار ما هو في الأقصى من التطرف والغلو مثل التكفير للحكام ولكل من يتخاذل عن مقاومتهم، والهجرة من دائرة المجتمع الكافر إلى خلايا اجتماعية تكون على الطهر والنقاوة، فلما سنحت فرصة الخروج من السجن انطلق المنتمون إلى هذه الجماعات في عاصفة من القتل لا للحكام فحسب بل حتى لسياح جاؤوا من مجتمعات قصية مستأمنين للسياحة في الأرض، وقد صرح أحدهم إثر مجزرة اجترحها مع رفاقه في مدينة الأقصر بمصر ذهب ضحيتها عشرات من السياح بأنه فعل ما فعل لأنه، نتيجة شعور جارف بالقهر، أصبحت تحدوه رغبة جامحة في القتل لكل ما له بالحكم علاقة من قريب أو من بعيد، وأنه لم يعد يشعر بأنه يمكن أن يخسر شيئا.

            إنه إذن الاستبداد ولد في النفوس التطرف إلى أقصى درجاته.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية