الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        الاستفادة من الآخر في الإسلام - رؤية تأصيلية

        الأستاذ الدكتور / فؤاد عبد الرحمن البنا

        أولا: اتجاه الاستفادة الرأسية (التاريخية):

        نعني بذلك أن الإسلام أجاز العودة إلى التاريخ الإنساني وقراءة تجارب الآخرين وخبراتهم بما فيهم غير المسلمين، مع اقتباس ما يمكن الاستفادة منه، سواء كان ما زال قابعا في قلب التاريخ أو صار موروثا حيا يتحرك في دنيا الناس ويعمل بفاعلية في أوساطهم.

        وينبغي أن نعرف أن هذا القرآن، الذي لم يفرط الله فيه من شيء والذي فيه خلاص الفرد والمجتمع والأمة بل والبشرية جمعاء، ويضم في ثناياه دستور الحياة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ويشتمل على [ ص: 51 ] العقائد والعلوم والفنون والآداب والتشريعات، هذا الكتاب العظيم قد خصص نحوا من ثلثه للقصص، سواء قصص الأنبياء والمرسـلين أو الأولياء والصالحين أو الطغاة والظالمين، كل ذلك لما في هذه القصص من عبر وعظات، مما يحتم النظر إلى القرآن في هذا الشأن كمخزن للدروس ومنجم للعبر، التي ينبغي استخراجها وتوظيفها في عمارة الأرض وصناعة الحياة، مثلما يتم استثمار سائر المعادن والطاقات، التي تستخرج من باطن الأرض في ذات المهمة الاستخلافية العظيمة.

        ويبدو أن أمرين هما أهم ما في اتجاه الاستفادة التاريخية:

        الأول: الاهتداء بعبر التاريخ:

        وردت آيات كثيرة في القرآن تحث على الاستفادة الرأسية من مواريث الأمم التي قبلنا، وذلك من خلال قراءة التاريخ قراءة واعيه تستفيد من عبره وتتجنب علله، وسنتوقف مع هذا الأمر قليلا من خلال النقاط الآتية:

        1- الدعوة لقراءة آيات الماضي:

        يطلق الله على أحداث التاريخ مصطلح "آيات"، والآية هي الحدث الكبير، الذي يمتلئ بالعبرة، بحيث يصلح أن يكون علامة بينة على طريق معرفة الحق لاتباعه أو إدراك الباطل لاجتنابه، ولهذا فإن هذه الآيات مليئة بعجائب الصالحين وغرائب الطالحين، وعلى سبيل المثال هذا نبي الله عزير، عليه السلام، الذي وصل إلى أطلال قرية قد تساءل في نفسه فقال: قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس ... (البقرة:259).

        [ ص: 52 ] وقد جعل الله من عيسى، عليه السلام، "آية" للناس حتى قيام الساعة لكي يعرفوا أن الله على كل شيء قدير.

        غير أن كيفيات مجيئ الغلام بدون أب وإعادة الحياة من جديد، تظل من أسرار الغيب، التي لا يعلمها إلا الله، ولا طاقة للعقل البشري بمعرفتها بل ولا فائدة من معرفة كنهها، المهم أنها تحدث بإرادة الله وستحدث جماعيا يوم البعث.

        وكما أطلق الله على ولادة رسول الله عيسى، عليه السلام، من غير أب مصطلح "آية"، وكذلك على نوم عزير وهو نبي أو رجل صالح حسب اختـلاف العلمـاء، فـقـد أطـلـق على فرعـون مصطلح "آية"، فقـال تعالى: فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية (يونس:92) أي عبرة، وفرعون هو أطغى طغاة الأرض الذي قال لقومه: ما علمت لكم من إله غيري (القصص:38) ، وقال: أنا ربكم الأعلى (النازعات:24) ، فعقب الله على هذا التطاول الكبير بقوله تعالى: فأخذه الله نكال الآخرة والأولى إن في ذلك لعبرة لمن يخشى (النازعات:25-26).

        وإذا كان القرآن قد أطلق مصطلح "آية" على أفراد، سواء كانوا صالحين أو طالحين، فقد أطلقه على دول كما قال تعالى عن مملكة سبأ اليمنية: لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور (سبأ: 15 - 17) ، [ ص: 53 ] ونلاحظ التعقيب الرباني في الآية الأخيرة، حيث يشير إلى أن هذا الجزاء الأليم جاء نتيجة كفرهم بآلاء الله، وأن هذا الجزاء لابد أن يحيق بكل كفور، فهو سنة لا تتبدل ولا تتغير.

        ومن ثم فإن من أوجب الواجبات الاعتبار بقصص من سبقنا، سواء وردت قصصهم في القرآن أو في غيره؛ للبحث عن عوامل التمكين وأسباب العذاب، وقراءة التاريخ قراءة تحليلية لاكتشاف عوامل القوة وصعود الدول ومعرفة أسباب الضعف وسقوط الأمم والحضارات، بحيث يتم تعظيم أسباب القوة والوحدة والتقدم ويتم محاصرة وتجفيف منابع الضعف والفرقة والتخلف.

        2- الأمر بالسير في الأرض لمعرفة أحوال السابقين:

        وردت سبع آيات تدعو للسير في الأرض بصيغة الفعل المضارع، ومنها قوله تعالى: أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق (غافر:21) ، ووردت سبع آيات أخرى تأمر بذات السير المعتبر بأحوال الماضين وكيف حاق بهم العذاب نتيجة ذنوبهم، ومنها قوله تعالى: قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين (آل عمران:137) ، فقد [ ص: 54 ] أخذهم الله بذنوبهم وفق سنن مطردة وثابتة، مع تنوع العذاب وفقا لنوعيات الخطايا والذنوب، ومن ثم فإن كل من يقترف ذنبا من تلك الذنوب إنما يستجلب نوعا من ذلك العذاب.

        ولو تمعنا في هذه الآيات الأربعة عشر لوجدنا أنه تعالى يستخدم فعل النظر، وهو حث على إعمال العقل في هذه القصص بعمق ووعي؛ من أجل استخراج العبر والدروس من بين أركمتها، مهما اختلفت الأزمنة وتغيرت الأمكنة وتبدلت التفاصيل، حتى أن الله يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يعلم الناس هذه الحقيقة، قال تعالى: قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين (الروم:42).

        ولا شك أن تأمل العواقب الواردة في الآيات يستدعي تأمل المقدمات، التي قادت إلى هذه العواقب الوخيمة، ومن المؤكد أن مصطلح الأرض الوارد في الآيات يقصد به عموم الأرض، سواء عاش عليها مسلمون أو غير مسلمين، وسواء كانوا من أهل الهداية أو الغواية، إذ توجد استفادتان، إيجابية وسلبية، بجانب أن أهل الضلال والغواية لابد أن في حياتهم شيئا إيجابيا يمكن الاستفادة منه.

        3-الدعوة للاعتبار من قصص السالفين:

        وردت آيات عدة تأمر بالاعتبار من قصص السابقين، ومن هذه الآيات قوله تعالى: فاعتبروا يا أولي الأبصار (الحشر:2) التي وردت في نهاية قصة يهود بني النضير الذين كفروا بالله واشتروا بآياته ثمنا قليلا وتآمروا على الدعوة الإسلامية، وركبهم الغرور حتى ظنوا أن حصونهم مانعتهم من الله!

        [ ص: 55 ] وعندما قال الله: فاعتبروا أي: "قيسوا أحوالكم بأحوالهم، فالسنن التي تحكمهم وتحكمكم واحدة، ولن يكون الاعتبار إلا بعد هضم تجارب السابقين وخبراتهم حتى نفهم علل تقدمهم وتأخرهم، فنضيف كل ذلك إلى خبراتنا" [1] .

        وقد ختم الله عددا من القضايا بالدعوة إلى الاعتبار بها، منها قوله تعالى: قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار (آل عمران:13) ، وعندما أورد قصة يوسف، عليه السلام، وإخوته وهي منجم مليء بالدروس والعبر قال تعالى: لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب (يوسف:111) ، وحينما أورد قصة فرعون وطغيانه على الناس وادعائه للألوهية، التي تسببت في هلاكه قال تعالى: إن في ذلك لعبرة لمن يخشى (النازعات:26).

        وعند التأمل في هذه النصوص سنجد أنها تدعو المؤمن للتسلح بالعقل الحصيف والتقوي بالتفكير الطويل، فهو الذي يطلق طاقات التحليل التي تقرأ عوامل استنزال العذاب، وهو الذي يمتلك القدرة على الفحص والتمحيص مانحا المسلم الغربال، الذي يفرز الصالح من الطالح، والضار من النافع، والغث من الثمين.

        [ ص: 56 ] ويعبر القرآن عن العبرة أحيانا بمصطلح "الـمثل"، مثل قوله تعالى: فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين (الزخرف:56) ، أي جعلناهم عبرة للمتأخرين ممن سيأتون بعدهم.. ومن لم يعتبر بمن سبقه صار عبرة لمن يلحقه، وهذا ينطبق على الأمم مثلما ينطبق على الأفراد.

        4-إيراد علل التدين عند المنحرفين:

        من يتأمل سور القرآن الكريم يجد أنها تضم مساحات مقدرة للحديث عن علل الأمم السابقة ولا سيما ما يتعلق بطريقة تعاملها مع أنبيائها وكتبها وأديانها، ولا شك أن أكثر السور امتلاء بعلل التدين عند أهل الكتاب هي سورة المائدة، فهي تضم عشرات العلل، التي عرضها القرآن بصورة تدفع الوجدان المسلم للتقزز والنفور، حتى يمكن عد هذه السورة (فاضحة أهل الكتاب) ، مثلما أن سورة التوبة فاضحة المنافقين، وهم الذين ورثوا علل التدين الكاذب والفهم المغشوش عند أهل الكتاب.

        ويمتلئ الحديث الشريف بصور شتى من الدعوة لقراءة علل التدين عند أهل الكتاب السابقين للاعتبار بها، ولذلك أكثر النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن بعض الأمور، التي كانت من العلل في بنيان التدين السابق، جاعلا إياها من عوامل سقوط تلك الأمم وتبدد حضاراتها في فيافي العقاب الرباني، مثل نهيه صلى الله عليه وسلم عن التطرف والتزمت وعن التنطع والتكلف، كما في الحديثين التاليين:

        [ ص: 57 ] - "... إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين" [2] .

        - "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم، كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم" [3] .

        ونلاحظ كيف اختار النبي صلى الله عليه وسلم الخلفيات، التي تنبع عنها كثير من الانحرافات وصور الفساد، ولأنها من منابع الضخ للعلل فقد استخدم حرف الحصر والقصر (إنما) في الحديثين وفي أحاديث مماثلة، من أجل أن يستجلب العقول للتفكير الملي، وعندها سيكتشف القارئ منظومة متكاملة من العلل المتسببة في هلاك المجتمعات وسقوط الدول؛ إذ لا فصل في الرؤية الإسلامية بين علل التدين وبين الانحرافات الحضارية، حيث تتضافر جميعها لتحقيق السقوط والتسبب في جلب التخلف والهلاك!

        واستخدم الرسول صلى الله عليه وسلم ذات الأسلوب في النهي عن الاختلاف على قراءة القرآن، وفي الشفاعة للمخزومية عندما سرقت، وفي النهي عن تأخير الإفطار عند الصيام، وفي بعض القضايا النسائية وغيرها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم في كل [ ص: 58 ] هذه الأحاديث وأمثالها يلفت أنظار المسلمين لرؤية عوامل الدمار والهلاك وهي تتحرك في قصص حقيقية أدت إلى هلاك أمم كبيرة وسقوط حضارات ضخمة، وذلك من أجل أن يتجنبوا هذه العوامل، التي تنخر الحضارات من الداخل حتى تأتي عليها من البنيان، ليسقط السقف على أصحابه .

        الثاني: الغربلة والاستفادة من الإيجابيات:

        لم يأت الإسلام ليستأصل كل الأديان والثقافات وليستأنف الحياة من جديد بالكامل، بل جاء ليواصل المسير وليجسد ما فيها من محاسن ومصالح بعد أن غيرت كثير من أصولها السماوية وبدلت كثير من قيمها الرفيعة، وحرفت كثير من تعاليمها السامية، بما يعني أن ما بقي فيها من خير فإن الإسلام يقبله ويقدره، بل ويحث على الاستفادة منه وفق الضوابط الشرعية، التي ينبغي استنباطها من نصوص القرآن ومن مقاصده .

        وقد منحنا القرآن في هذا الإطار درسين بالغي الأهمية:

        الأول: الدعوة للتأسي المطلق بإبراهيم، عليه السلام، مع استثناء استـغـفـاره لأبيه المشـرك، حيث لا يـجوز الاستـغـفـار للمـشركـيـن، قال تعالى: قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ... (الممتحنة:4) ، أي إلا استغفار إبراهيم لأبيه المشرك فلا تتبعوه فيه ولا تتأسوا به!

        [ ص: 59 ] الآخر: النهي للنبي صلى الله عليه وسلم عن أن يكون مثل نبي الله يونس، عليه السلام، في غضبه من قومه ومفارقته لهم بدون إذن من الله تعالى، قال تعالى: فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم (القلم:48-49) ، ويعد هذا النهي استثناء من عموم قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وهو يشير إلى قصص الأنبياء جميعا: أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده (الأنعام:90) ، فإن الغضب وعدم الالتزام الصارم بطاعة الله ليس من الهدى المأمور بالاقتداء به.

        فإذا كان هذا الانتقاء والغربلة في حق أنبياء كتب الله لهم العصمة، فكيف بسائر الناس؟ بل كيف بمن لم يكن من المسلمين أصلا؟!

        ومن أجل تحقيق غاية الغربلة والاستفادة من الإيجابيات فإن الإسلام قد قام بأمور عديدة، أهمها:

        1- التذكير بأصول الديانات الكتابية التي تتفق مع الإسلام:

        لا يزال القرآن يؤكد في مواضع كثيرة أن كل الأنبياء دعوا إلى عبادة إله واحد لا شريك له، كما قال تعالى: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ... (النحل:36) ، وأشار في تشريعه لبعض العبادات إلى أصلها القديم، قال تعالى: قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى (الأعلى:14-19) ، واسم الإشارة (هذا) الـوارد في هـذا النص يعـود على ما ذكر من: التزكي، والذكر، والصلاة، وإيثار الناس للدنيا على الآخرة، فإنها [ ص: 60 ] أمور مذكورة من قبل في الصحف السماوية لخليل الله إبراهيم وكليم الله موسى، عليهما السلام.

        وفي سـورة النجم، يشير القرآن إلى معرفة المشركين بكثير من القيم، التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم من خلال ما بقي معهم من الحنيفية الإبراهيمية، قال تعالى: أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى (النجم:36 -41) ، ثم مضى النص القرآني يعدد أمورا دعا إليها الإسلام (المحمدي) كانت موجودة في صحف إبراهيم وموسى، عليهما السلام، إلى أن قال: هذا نذير من النذر الأولى (النجم:56) ، أي أنه ليس بدعا من الرسل، فهو إنما جاء ليؤكد ما دعت إليه الرسالات السماوية، التي سبقته، ويشبه هذه الآية قوله تعالى: قل ما كنت بدعا من الرسل ... (الأحقاف:9).

        وفي إيجاب الصيام قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون (البقرة:183) ، فالصلاة والصوم والمسؤولية الفردية والبعث والجزاء في الدار الآخرة، لم تكن بدعة في هذا الدين، بل كانت أمورا معروفة ومألوفة في الديانات السابقة.. وإن كانت قد تغيرت الأشكال والطقوس والهيئات والمقادير إلا أن الأصل واحد، حيث نجد حتى الديانات التي تعد وثنية كالبوذية والهندوسية تحتوي على أشكال متعددة من الصيام، الذي يقدم دليلا على [ ص: 61 ] إمكانية أن تكون هذه الديانات سماوية في الأصل لكنها تعرضت للتحريف كاليهودية والنصرانية.

        وفي سورة (لقمان) - وهو رجل صالح، من رواد التاريخ الإنساني، الذين نحتوا بصماتهم الرائعة في جدار الحياة - أورد القرآن قصته في سورة سميت باسمه، ومن نصائحه لابنه - وهي صالحة لكل شباب المسلمين اليوم وفي كل زمان - قوله تعالى على لسانه - أي لقمان -: أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير (لقمان:17-19) ، فليست الصلاة والصوم وحدهما إذا كانا موجودين في التراث البشري بل أمهات الأخلاق كلها كانت حاضرة في البنيان الأخلاقي لسائر الأمم، التي ارتقت ذرى المعالي وحققت الأمجاد، وبدون هذه الأخلاق تنحط الأمم من قمم الرقي وتسقط الحضارات في أوحال التخلف.

        وهناك أمور كثيرة أخرى، في دائرتي المعاملات والأخلاق، كانت موجودة في الديانات السابقة، وجاء الإسلام ليؤكد عليها بطريقته الخاصة [4] ، وفق منهجيته الشاملة في تعبيد المسلم لله في محراب الحياة كلها: سياسة [ ص: 62 ] واقتصادا، شعائرا وشرائعا، مشاعر وأنظمة، وذلك مصداقا لقوله تعالى: قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين (الأنعام:162-163).

        2 - التشذيب والتهذيب:

        لم تظل الاستفادة من تراث السابقين حكرا على تعامل الإسلام مع الكتابيين من اليهود والنصارى، بل اتبع الإسلام ذات المنهج في التعامل مع منظومة الثقافة العربية الغابرة، التي كانت سائدة في عصور الجاهلية السابقة للإسلام، إذ كان العرب على بقية من دين إبراهيم الخليل، عليه السلام، بعد أن حرفوا وبدلوا، وبعد أن حذفوا وأضافوا، وبالتالي فقد استخدم الإسلام في دعـوته ميزان الفـطرة ومعيار الأخـلاق للـتعامل مع ذلك التراث، فأقر بعض ما كان عليه العرب من معاملات وتشريعات، وأنكر وحارب بعضها، وشذب البعض الآخر [5] .

        ولأن رسول هذا الدين محمد هو التجسيد المثالي لقيم هذا الدين العظيـم، فـقـد مـارس صلى الله عليه وسلم هذه الغربلة في مجال الأخلاق، فأخذ بكل تلقائية ما كان من المكارم وترك ما دونها، ولذلك روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" [6] ، حيث اختزل صلى الله عليه وسلم مهمته [ ص: 63 ] الرسالية في بناء صرح الأخلاق، لكنه لا يدعي أنه جاء ليبنيها من الصفر، بل يقر أنه جاء ليتمم ما نقص منها، وهذا برهان بارز للعيان؛ لأنه مرتبط بمجال الأخلاق ذات الحساسية الشديدة، فكيف بمجال النظم والمعاملات ومجال المنجزات العلمية ومخرجات التكنولوجيا؟!

        وببصيرته النافذة للأشياء وفهمه الثاقب للواقع وفقهه الشامل لمقاصد هذا الدين كان صلى الله عليه وسلم يقر الأفراد والجماعات على ما معهم من الخير، وعلى سبيل المثال عندما قدم عليه صلى الله عليه وسلم وفد الأزد - وهم من أكبر قبائل اليمن- أقرهم على خمس خصال كانت موجودة عندهم في الجاهلية [7] .

        وكثيرا ما كان يتخذ صلى الله عليه وسلم مثل هذا الإجراء مع كل من يفد إليه، حيث ينوه بنقـاط القوة الموجودة في أي قبيلة أو بلد، ولا سـيما الفضائل والقيم، التي كان للعرب نصيب وافر منها رغم أنهم كانوا في ضلال مبين، كما وصفهم القرآن الكريم، وكان يحثهم على الاستمساك بها والبناء عليها، ولا يأمر بهدم كل شيء والبدء من جديد.

        ووصل الأمر إلى إقرار أجور الطقوس التعبدية، التي كان يقوم بها بعضهم في جاهليته، ومن ذلك ما يروى عن عروة بن الزبير، رضي الله عنهما، أن حكيم بن حزام رضي الله عنه أخبره أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : "أرأيت أمورا كنت أتحنث بها في الجاهلية، هل لي فيها من شيء"؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ ص: 64 ] "أسلمت على ما أسلفت من خير" [8] . وفي روايـة أخـرى " قلت: فوالله لا أدع شيئا صنعته في الجاهلية إلا فعلت في الإسلام مثله" [9] . أي أنه كان يمارس كثيرا من الخيرات ويمتلك العديد من الإيجابيات التي لم يقره الإسلام عليها فقط بل ضمن له أجرها وأذن له بالمداومة عليها!

        "والحديث بهذا المعنى يشير بوضوح إلى أن الإسلام لم يأت قاطعا قيم الخير وأفعاله ومؤسساته، وإنما جاء ليصل بينها، بعد أن يخرجها من إطار اللاوعي واللا هدف إلى إطار الوعي والقصد التوحيدي" [10] .

        ومما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام أن الصحابة الكرام، الذين تشربوا الإسلام من منابعه الصافية وتتلمذوا على يد محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، عندما فتحوا البلدان وجدوا فيها آثارا ضخمة تشير إلى ما كانت عليه الجاهلية من تقدم مادي في بعض البلدان، بما في ذلك التماثيل المنحوتة، التي تشبه ما كان يعبد في جزيرة العرب من أوثان وأصنام، وهي من آثار الفراعنة في مصر، ومن آثار البابليين والأشوريين في العراق، ومن آثار الفرس في إيران ووسط آسيا، ومن آثار الفينيقيين في بلاد الشام، ومن آثار السبئيين والحميريين في اليمن، ومن آثار الرومان في شمال إفريقيا وتركيا، بل وصلوا إلى أفغانستان في عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه ووجدوا أكبر تمثال لبوذا في العالم، بوذا الذي [ ص: 65 ] صار يعبد مثل المسيح عند البوذيين، ومع ذلك فلم يهدم حتى جاءت حركة طالبان في القرن الرابع عشر لتقوم بقصفه بالمدافع، ودون أن يجلب ذلك أي مصلحة بل صنعت به المزيد من الأعداء لها ولأفغانستان، ولا سيما أن سكان أفغانستان صاروا مسلمين بنسبة 100%!

        3- المتابعة في مناطق الفراغ التشريعي:

        وعودة إلى استفادة المسلمين من أهل الكتاب في المسائل، التي تحقق مصالح واضحة، فإن المسلمين عندما لا يجدون نصا يأمرهم أو ينهاهم في مساحة ما كانوا يتابعون بني إسرائيل في بعض القضايا، كما في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس قبل نزول آيات التوجه إلى بيت الله الحرام [11] .

        وفعلوا مثل ذلك تقريبا عندما أرادوا الاستفادة من وسائل أهل الكتاب في إعلام الناس بدخول الوقت. روي عن ابن عمر، رضي الله عنهما، أنه كان يقول: كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة، ليس ينادى لها، فتكلموا يوما في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا ناقوسا مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: بل بوقا مثل قرن اليهود، فقال عمر: أولا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا بلال، قم فناد بالصلاة" [12] .

        ورغم أن الصحابة توصلوا إلى ما خالفوا فيه أهل الكتاب في مسألة ميقات الصلاة، لكن الشاهد واضح عندما طرقت المسألة مبدئيا، فتبادر إلى [ ص: 66 ] أذهـان الأكثرين الاستـفادة من تـجارب الكتابيين ولـم يجدوا في ذلك حرجا، ولم ينكر أحد منهم ذلك، كأن الأمر كان من الوضوح بمكان، بل لم يخلطوا بين هذا الأمر وبين البراء، رغم تنزل عشرات الآيات في هذا السياق تنهى المؤمنين عن متابعة اليهود والنصارى والتشبه بهم، وكانت الآيات تترى في شن الغارة على انحرافاتهم وتتهمهم بالتحريف والتبديل والتغيير وبيع آيات الله بثمن قليل وتنعي عليهم انـحرافاتـهـم العقـدية والعباديـة والتشـريعية حـتى أنـهم حرموا ما أحل الله وأحلوا ما حرم الله.

        وبجانب ذلك، فمن الواضح أن هذا كله تم في أمور عبادية خالصة، فكيف بأمور العاديات وما يخص العلوم والمعارف ويرتبط بالصناعات والمنجزات المادية؟!

        ولا شك أن بعض مصادر التشريع المعتمدة عند بعض أئمة المذاهب الإسلامية كانت أبوابا مشرعة ولجت من خلالها الاستفادة الشرعية من سائر الأمم والحضارات، ومن هذه المصادر:

        - المصالح المرسلة:

        وهي المصالح المعتبرة والمستقاة من المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، فقد راعى العلماء في عملية الاقتباس جلب المصالح ودرء المفاسد، ومن ثم فإن كل ما يحقق مصلحة أو يدرأ مفسدة فإنه يصبح جزءا من منظومة التشريع الإسـلامي بـمعناه العريض، حتى ولو كان المصـدر يهوديا أو نصرانيا، كتابيا أو وثنيا، شرقيا أو غربيا.

        [ ص: 67 ] - الاستحسان:

        والاستحسان ليس عملية ذوقية تتحكم بها الأهواء وتسيرها الانطباعات، وإنما هو عملية منهجية تتضمن القيام بنخل الأفكار وغربلة الرؤى المختلفة لأخذ كل ما يجلب النفع للمسلمين وما يدفع الضر عنهم، وينطبق ذلك على سائر الأفكار البشرية بما فيها الأفكار الآتية من خارج منظومة الثقافة الإسلامية.

        - شرع من كان قبلنا:

        ويضم ما هو قائم في الشرائع السابقة من أحكام وحكم، مما يمكنه المساهمة في الإجابة عن بعض التساؤلات، التي لا جواب لها في المنظومة التشريعية والقيمية الإسلامية، بحيث تزيد من ترسيخ القيم وتمتين المنافع والمصالح القائمة والمبتغاة.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية