الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        حاجة الدعاة لعلمي المقاصد وفقه الواقع

        الأستاذ الدكتور / أحمد فؤاد عيساوي

        المطلب الثاني

        علم المقاصد وفقه الواقع

        قيمة مركزية مؤثرة في أصناف وفئات المدعوين

        تبينا فيما سبق أن المدعوين هم أحد الأركان الرئيسة في العملية الدعوية، وأن المدعين أصناف عديدة ومتنوعة، يختلفون باعتبار الفطرة والسن والجنس والبيئة والمكان والحال والزمان والمناخ والمستوى الثقافي والعلمي والعقلي والاقتصادي والاجتماعي والتربوي والأخلاقي والمهني واللغوي والعقدي والتعبدي والفطري [1] .

        والمدعوون يتباينون فيما بينهم في حالات تلقي وتقبل واتباع الخطاب الدعوي والتفاعل معه دون غيره، وذلك عائد لأسباب عديدة، منها ما يتعلق بمكونات وخصائص المدعوين أنفسهم، ومنها ما يخص الخطاب الدعوي نفسه، ومنها ما يتعلق بالدعاة والجهات المتخصصة بصناعة وتوجيه الخطاب الدعوي، ويتعلق أساسا بمستواها ورؤيتها وبمدى فهمها وإحاطتها بنفسيات وعقول ومدارك المدعوين من جهة، وبمدى فهمها وتمكنها من علمي المقاصد وفقه الواقع ومحل التنزيل.

        [ ص: 162 ] ولعلنا نقدم نماذج دعوية نبوية لخطاب نبوي عام مع عموم المخاطبين والمدعوين، ثم نردفه بنماذج دعوية نبوية لخطاب نبوي خاص مع خصوص أصحابه ومدعويه.

        - أولا: تفاعلية الخطاب والمدعوين:

        ينقسم المدعوون أيضا إلى مجموعة من الأصناف، ويختلفون من حيث الاستجابة وقبول الدعوة، فمنهم المدعوون الحقيقيون، والمستقبلون، والمرتقبون، والمتشككون، والمناوئون، ولكل منهم خطابه الدعوي الخاص به والذي يجب أن يحذقه الداعية، منطلقا وحكمة ومقصـدا، وإلا لضاعت جهوده سـدى، ولم تؤد مطلوبها، وتقصـر عن تحقيق أهدافها ونتائجـها المرجوة، لقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري، رضي الله عنهما، حين بعثهما إلى اليمن: "يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا" [2] .

        وعلى الداعية الحصيف أن يدرك أن جمهور المدعوين أصناف عديدة، فثمة المنافقون والذين في قلوبهم مرض، والذين مردوا على النفاق، وثمة الأعراب، وثمة من لا يعرفون الكتاب إلا أماني، وثمة من خلط عملا صالحا وآخر سـيئا، وثمة من استهوته الشياطين، وثمة من اسـتهوته شهوة نفسـه وهواه، وثمة من أخـذته العزة بالإثم، وثمة من كابر واندفع لإغواء الأمة، وثمة [ ص: 163 ] من تخصص في الكيد للشـريعة الإسـلامية، وثمة من ناصب القرآن العداء، وثمة من تخصص في الطعن في نبي الإسلام وصحابته وزوجاته، وثمة من تخصص في الكيد والنيل من السنة ومن كتبها وصحاحها وسننها ومسانيدها.. ويمكننا أن نصنفهم ضمن الأسر الدعوية الآتية: (المدعوين الحقيقيين، والمستقبلين، والمرتقبين، والمتشككين، والمناوئين).

        وفي هذا الصدد يؤكد إمام الحرمين "أبو المعالي الجويني" هذه الحقيقة المقاصدية والدعوية معا بقوله: "ومن لم يتفطن لوقوع المقاصد في الأوامر والنواهي فليس على بصيرة في وضع الشريعة" [3] ، وهو ما يجب أن يحذقه الدعاة أثناء تواصلهم الدعوي مع جمهور المدعوين، فيعرفوا مقاصد القرآن وأنواعها، والمتوجهة أساسا إلى إصلاح الإنسان، بدءا من قلبه وروحه وعقيدته وإيمانه، وحاجته إلى التدين والتعبد والانصياع لأحكام الشرع الحنيف لاستمراره وبقائه وصلاح حاله ومعاشه [4] .

        ولكل صنف من هؤلاء المدعوين خطاب خاص يليق به لوحده دون غيره، يجب أن تراعيه الجهة القائمة بالخطاب، وقد يشـترك معه غيره في ذاك [ ص: 164 ] الخطاب إذا تشابها في الخلال والأوصاف والنفسيات والظروف التكوينية والتأسيسية والتربوية الأولى.. ومثل هذه النماذج الخطابية والدعوية ثرية في المكتبة الإسلامية وزخرت بها أفانين وروائع كتب البيان والبلاغة القرآنية والنبوية والتي تنطلق جميعها من قيم اليسر والرحمة والشفقة والتبشير والتسـكين والتأليف والتوحيد، وغيرها؛ لأن المدعوين لو علموا الحق وشاهدوه وأدركوه، وقدم لهم بتقدير واحترام لما تعنتوا ولما أعرضوا ولما عادوا الدين وتعاليمه، لقوله صلى الله عليه وسلم لمن أراد تعنيف ذلك الأعرابي، الذي بال في المسجد: "..فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين" [5] .

        وسنعرض الآن نماذج وصورا من بعض خطاباته، عليه الصلاة والسلام، لعامة المدعوين.

        - ثانيا: بعض خطاباته الدعوية العامة للمدعوين:

        1- إيجاز لصيانة النفس والعرض:

        المأثور عن النبي، عليه الصلاة والسلام، حسن تعامله مع أصـناف المدعوين، وإيجازه في الوصية حسب طلب المدعو، وتقبل النبي صلى الله عليه وسلم هذه الجرأة نظرا لفقهه بأحوال الناس، ودرايته صلى الله عليه وسلم بالمقصد المرجو من ذلك المدعو، فقد جاء عن الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل، [ ص: 165 ] فقال: يا رسول الله، أوصني وأوجز، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "عليـك بالإيـاس ممـا في أيدي الناس، وإياك والطمع فإنه فقر حـاضر، وإذا صـليت فصل صلاة مودع، وإياك وما يعتذر منه" [6] .

        2- معالم مشرقة تهدي الطريق:

        تكون توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم للمدعوين باعتبار حالهم وظرفهم ودواخل نفسيتهم، ومدى علمه ومعرفته بهم، بحيث لا تتجاوز الإحالة إلى مصدر الإسـلام الأول، وهو القرآن الكريم، ورأس المر كله بتقوى الله ومخافته، فقد جاء عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أوصني.. قال: "أوصيك بتقوى الله، فإنه رأس الأمر كله".. قلت: يا رسول الله، زدني.. قال: "عليك بتلاوة القـرآن، وذكر الله، فإنه نور لك في الأرض، وذخر لك في السماء" [7] .

        3 - نهي مبين:

        المعروف عن البيان النبوي فاعلية رسول الله صلى الله عليه وسلم في تدبيج النصح ببلاغة الإيجاز البرقي في العبارة، والتلميح أحيانا والتصريح أحيانا أخرى، فقد جاء عن [ ص: 166 ] جرموز الهجيمي رضي الله عنه قال: قلت: يا رسـول الله، أوصني.. قال: "أوصيك ألا تكون لعانا" [8] .

        4- منهج ترسيخ القيمة:

        الملاحظ على المنهج الدعوي النبوي سـعيه الحثيث على توطين وتأكيد واحـترام عـالم القيـم في أنفس وعقول ووجـدان وسـلوكات المدعـوين، فعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أوصيكم بالجار" [9] .

        ومن معرض هذه الأفانين الدعوية النبوية لجمهور الصحابة المعنيين بالتوجيه النبوي الشريف، نتبين تركيز رسول الله صلى الله عليه وسلم على بناء النفس السوية وصناعة الشخصية المسلمة المتزنة، سواء مع قدامي الصحابة أو مع حديثي العهد بالإسـلام، مخصصا لكل نوعية خطابها المؤثر والفعال فيها، بحسب مكوناتها ومداخلها.

        وهذا التوجيه النبوي الشريف يكشف لنا فائدة التحكم في المعارف النفسية والاجتماعية والواقعية والبيئية لجمهور المدعوين.

        فعن عبد الله بن عمرو بن العاص، رضـي الله عنهما، أن معاذ رضي الله عنه أراد سفرا، فقال: يا نبي الله، أوصني.. قال: "اعبد الله لا تشرك به شيئا".. قال: يا نبي الله، زدني.. قال: "إذا أسأت فأحسن".. قال: [ ص: 167 ] يا رسول الله، زدني.. قال: "استقم، وليحسن خلقك" [10] .

        ومن هنا ننطلق لنرى المنهج النبوي الأمثل للتعامل مع كل فئة وصنف من أصناف المدعوين، ولكن قبل هذا نبين في عجالة بعضا من خطاباته الدعوية لخصوص المدعوين كأبي ذر الغفاري رضي الله عنه وأبي هريرة رضي الله عنه .

        - ثالثا: بعض خطاباته الدعوية لخصوص المدعوين:

        أما بقية المدعوين والذين يشكلون رأس حربة الدعوة، ويعتبرون من الدعاة المشاركين للداعية الرئيس، فهم يحتاجون إلى خطاب آخر يختلف عن عامتهم، على الرغم من اشتراكهم مع غيرهم فيه أيضا.

        فهذا الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه يقول: "أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث ونهاني عن ثلاث.. نهاني عن نقرة كنقرة الديك، وإقعاء كإقعاء الكلب، والتفات كالتفات الثعلب" [11] ، وهو خطاب خاص بصحابي من مكثري الصحابة في الرواية والصحبة.

        [ ص: 168 ] وصـنوه الصـحابي الجليل أبو ذر الغفاري رضي الله عنه إذ يقول:

        أوصـاني خليـلي صلى الله عليه وسلم بخصال من الخير.. أوصاني "بأن لا أنظر إلى من هو فوقي، وأن أنظر إلى من هو دوني.. وأوصاني بحب المساكين والدنـو منهم.. وأوصـاني أن أصـل رحـمي وإن أدبرت.. وأوصـاني أن لا أخاف في الله لومة لائم.. وأوصـاني أن أقول الحق وإن كان مرا.. وأوصـاني أن أكثر من قول لا حـول ولا قوة إلا بالله، فإنها كنـز من كنوز الجنة" [12] .

        وهو أيضا من مكثري الرواية والصحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومع كل هذا فقد استنصح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت النصيحة جملة من الخصال الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتربوية والأخلاقية والنفسية.

        والأمر نفسـه تكرر مع صحابي آخر.. والملاحظ على الخطـاب النبوي أنه لم تخرج الوصايا عن القضايا والمسائل نفسها المذكورة آنفا، وذلك لعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأهمية علمي المقاصد وفقه الواقع والمحل.

        فعن أسود بن أصرم المحاربي رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أوصني.. قال: "تملك يدك".. قلت: فماذا أملك إذا لم أملك يدي؟.. قال: "تملك [ ص: 169 ] لسانك"، قال: "فماذا أملك إذا لم أملك لساني؟".. قال: "لا تبسط يدك إلا إلى خير، ولا تقل بلسانك إلا معروفا" [13] .

        ومنه نتبين من خلال النماذج النبوية أن وعي الداعية للجهة المدعوة مهم جدا في صياغة وتوجيه ونجاح الخطاب الدعوي، وذلك متوقف على مدى تكوين ومستوى الدعاة في علمي المقاصد وفقه الواقع والمحل.

        [ ص: 170 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية