الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        حاجة الدعاة لعلمي المقاصد وفقه الواقع

        الأستاذ الدكتور / أحمد فؤاد عيساوي

        المطلب الثاني

        مقاصد الحوار القرآنية

        تضمن الحوار القصير، الذي جرى بين نبي الله سليمان، عليه الصلاة والسلام، والنملة جملة من الحقائق الكونية والعقدية والتعبدية والتربوية والأخلاقية والطبيعية والبيئية واللغوية وغيرها.

        فالحيوانات كلها لها "فهم وإدراك وأصوات تدل على ما في نفسها، وتتفاهم بها أجناسها، بعضها عن بعض، ومن تلك الأصوات ما يكون أخفى من أن يصل إليه سمعنا، ومنها ما نسمعه.. ومما نسمعه ما نفهم مرادها به، ومنه ما لا نفهمه، فلا نسمع صوت النملة، ولكننا نسمع صوت الهرة -مثلا- ونميز بين صوتها، الذي تدل به على غضبها، وصوتها الذي تدل به على طلبها.. وفي مملكة النمل ومملكة النحل -مثلا- من النظام والترتيب والتقدير والتدبير ما لا يبقى منه شك فيما لهذه الحيوانات من إدراك وتمييز، وما بينها من تفاهم، بل كثير من الحيوانات تصير بالترويض تفهم عنا كثيرا من العبارات والإشارات، وتأتي بالأعمال العجيبة طبق ما يراد منها وتدل عليه.. فهذا أصل ما بلغت إليه من إدراكها ونطقها، اللذين أخبرنا بهما القرآن.. وتلك الغاية من الإدراك والنطق لا سبيل لنا إليها، لاختلاف الخلقة وجهل مدلول الأصوات، [ ص: 199 ] وقد أدركها نبي الله سليمان، عليه الصلاة والسلام، بتعليم من الله كرامة له، وآية على نبوته ومعجزاته للناس" [1] .

        وما يمكن استنتاجه من حوار النملة مع نبي الله سليمان، عليه الصلاة والسلام، الذي ورث نبوة وعلم أبيه، وأعطي فوقه الملك زيادة [2] ، الآتي:

        1 - مكانة الحوار كصيغة من صيغ التواصل بين سائر المخلوقات، وعبر مختلف اللغات؛ لأن "من حكمة اللغة العربية الشريفة أن سمت أصوات الحيوانات نطقا، كما سمت - في المتعارف- اللفظ الذي يعبر به عما في الضمير نطقا؛ لأن الأصوات لغير الإنسان تقوم مقام الألفاظ للإنسان، فهي طريق تفاهمها، وطريق فهم ما يمكن لإنسان فهمه عنها" [3] .

        2 - معرفة أدبيات الحوار البناء وشروطه وخصائصه ومميزاته وضوابطه وطرائفه، فقد كان "صدور ذلك الإنذار البليغ من مثل تلك النملة في ضعفها وصغرها طريف مستظرف ككل شيء يصدر من حيث لا ينتظر صدوره.. فهذا مبعث تعجب سليمان، عليه الصلاة والسلام، وشهادة النملة له ولجنوده بأنهم لو وطئوا النمل لوطئوه من غير شعور، فهم لرحمتهم وشفقتهم وارتباطهم بزمام التقوى وأخذهم بالعدل لا يتعمدون التعدي على أضعف المخلوقات [ ص: 200 ] العجماء.. هذه الشهادة أدخلت السرور على سليمان، عليه الصلاة والسلام، لما دلت عليه من ثبوت هذا الوصف العظيم له ولجنده وظهوره منهم واشتهارهم به كما بعث سروره شعوره بما آتاه الله من الملك العظيم والعلم، الذي لم يؤته غيره حتى فهم به ما همست به النملة، وهي من الحكم، الذي ليس له صوت يستبان في حال من الأحوال" [4] .

        3 - أهمية رسم وضبط أهداف الحوار منطلقا وهدفا ومقصدا.. و"شارك الحيوان الإنسان في الإدراك والتمييز، وبلغ إدراكه إلى معرفة وجود خالقه ورازقه، ولكن الإنسان يمتاز عنه بقوة التحليل والتركيب لكل ما يصل إليه حسه وإدراكه، وتطبيق ذلك على كل ما تمتد إليه قدرته ويكون في متناول يده" [5] .

        4 - معرفة أركان عملية الحوار الأساسية: "طرفا الحوار، موضوع الحوار، وسائله، فنياته، آثاره، أهدافه ونتائجه".. وقد ظهر ذلك جليا في ذلك الحوار القصير، حيث بدت كل العمليات العقلية والوجدانية حاضرة، من "..التركيب والتحليل والتطبيق.. فإدراك الحيوان فطري إلهامي، يعطاه من أول الخلقة، والإنسان يعطى أصل الإدراك الإجمالي.. وقد ذكر سليمان، عليه الصلاة والسلام، منطق الطير، وهو قد علم منطق غير الطير أيضا، فقد فهم نطق النملة؛ ذلك لأن الحيوانات غير الإنسان مراتب: الزاحفة، والماشية، والطائرة، وأشرفها الطائرة، فاقتصر على الطير تنبيها بالأعلى على الأدنى" [6] .

        [ ص: 201 ] كما بدت حقيقة ركني الحوار الأساسيين، وهما النملة ونبي الله سليمان، عليه الصلاة والسلام، حيث "عبر سليمان، عليه الصلاة والسلام، عن نفسه بنون العظمة، ونوه بذلك الفضل المبين، وما كان عليه الصلاة والسلام ليتعظم بسلطان ولا ليتطاول بفضل، فالأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، أشد الخلق تواضعا لله وأرحمهم بعباده، وإنما أراد تعظيم نعمة الله في عيون الناس وتفخيم ملك النبوة في قلوب الرعية ليملأ نفوسهم بالجلال والهيبة، فيدعوهم ذلك إلى الإيمان والطاعة، فينتظم الملك ويهنأ العيش، وتمتد بهم أسباب السعادة إلى خير الدنيا والآخرة.. وهذا هو الذي توخاه سليمان، عليه الصلاة والسلام، من المصلحة بإظهار العظمة، ولذا لم يقل: علمت، ولا لي وعندي من كل شيء، ولم يقل فضلي، فهو فضل الله من علمه، وآتاه من فضله به عمن سواه" [7] .

        5 - معرفة بنية الخطاب المتكون من الحكم والأسرار والمقاصد والرموز، وإدراك الحيوانات لمصالحا ومضارها. و"قد شوهد بالعيان في أنواع من الحيوانات حسن تدبيرها لأمر معاشها ودقة سعيها في جلب منافعها ودفع مضارها، فمن الجائز أن يصل إدراكها بالفطرة إلى ما وراء ذلك من وجود خالقها ورازقها. وهذا هو الذي أخبرنا به القرآن في هذه الآيات من أمر النملة وأمر الهدهد.. فنحن به مؤمنون لجوازه عقلا وثبوته سمعا، مثل سائر السمعيات.." [8] .

        [ ص: 202 ] 6 - إمكانية إجراء الحوارات على ألسنة الحيوانات، وهو المعروف في الفنون الأدبية بـ "أدب الحيوان"، وبرع فيه "أبو عثمان، عمرو بن بحر الكناني البصري الجاحظ" وكتابه "الحيـوان" و"البـخلاء"، و"أبو محمد، عبد الله بن المقفع" وكتابه الشهير "كليلة ودمنة"، و"La Fan رضي الله عنه ain صلى الله عليه وسلم - لافونتين" وقصصه وأشعاره المسماة بـ "الفابل- Fab صلى الله عليه وسلم ll صلى الله عليه وسلم "، و"أحمد شوقي" ومسرحياته الشعرية، و"توفيق الحكيم" وروايته "حمار الحكيم"، و"أحمد رضا حوحو" وقصصه الأدبية "مع حمار الحكيم".

        7 - أهمية معرفة قيمة وقوة وعلو الحق الاعتبارية والأخلاقية، أمام سلطة وجبروت الملك والسلطة، فالقوة الحقيقية هي قوة العقل والروح لا قوة الجسد.

        8 - أهمية ومكانة التربية الروحية والوجدانية في استقامة المجتمعات واستمرارها سوية وصالحة وبناءة ومتوازنة.

        9 - معرفـة واجب الفرد نحو قومـه، فـ "لا حياة للشـخص إلا بحياة قومه، ولا نجاة له إلا بنجاتهم، وأن لا خير لهم فيه إلا إذا شـعر بأنه جزء منهم، ومظهر هذا الشـعور أن يحرص على خيرهم كما يحرص على نفسه، وأن لا يكون اهتمامه بهم دون اهتمامه بها.. فهذه النملة هي كبيرة النمل، فقد كان عندها من قوة الإحساس ما أدركت به الخطر قبل غيرها، فبادرت بالإنذار، فلا يصلح لقيادة الأمم وزعامتها إلا من كان عنده من بعد النظر [ ص: 203 ] وصدق الحس وصائب الفراسة وقوة الإدراك للأمور قبل وقوعها، ما يمتاز به عن غيره، ويكون سريع الإنذار بما يحس وما يتوقع" [9] .

        10- تمكن النملة من تحقيق المقاصد العامة لقومها، فقد حفظت لهم وحدتهم وحياتهم ونسلهم ومالهم ومستقبلهم؛ لأن "عاطفة الجنسية غريزة طبيعية، فهذه النملة لم تهتم بنفسها فتنجو بمفردها، ولم ينسها هول ما رأت من عظمة ذلك الجند إنذار بني جنسها، إذ كانت بفطرتها أن لا حياة لهم بدونها، ولا نجاة لها إذا لم تنج معهم، فأنذرتهم في أشد ساعات الخطر أبلغ الإنذار، ولم ينسها الخوف على نفسها وعلى بني جنسها من الخطر الداهم أن تذكر عذر سليمان وجنده" [10] .

        كما أنها "وفـت لقـومها وأدت واجبـها نحوهم، فكيف بالإنسـان العاقل فيما يجب عليه نحو قومـه! هذه عظـة بالغة لمن لا يهتم بأمور قومه ولا يؤدي الواجب نحوهم، ولمن يرى الخطر داهما لقومه فيسكت ويتعامى، ولمن يقود الخطر إليهم ويصبه بيده عليهم، آه ما أحوجنا معشر المسلمين إلى أمثال هذه النملة" [11] .

        وهكذا نتبين مقاصد ومنافع فن الحوار في القرآن الكريم وعلاقته بفقه المقاصد والمحل والتنزيل والواقع.

        [ ص: 204 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية