رابعا: القيم الأخلاقية
تعد الأخلاق إحدى ثلاثة مرتكزات رئيسة كونت بنية التصور الإسلامي عن الكون والحياة إلى جانب العقيدة وفقه العبادات والمعاملات، وهو المرتكز الذي عرف عند علمائنا بالفضائل والأخلاق. وقد امتدح الله تـعالى أخـلاق النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: وإنك لعلى خلق عظيم (القلم:4). وعندما سئلت أم المؤمنين السيدة عائشة، رضي الله عنها، عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم قالت: "كان خلقه القرآن" [1] .. وحث النبي صلى الله عليه وسلم المسـلمين على التمثل بحسن الخلق، فقال مرغبا: "إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم " [2] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : "ليس شيء أثقل في الميزان من خلق حسن" [3] . وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الأمثل في إقامة أخلاق الإسلام وفضائله في مجالات الحياة كافة، ومنها ميدان الحرب والقتال.
1- الرحمة مع العدو:
قال الله تعالى في حق نبيه صلى الله عليه وسلم : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (الأنبياء:107) ، ولم يقل الله سبحانه رحمة للمسلمين، بل رحمة للعالمين جميعا، وكيف يكون هاديا مهديا من دون أن يكون رحيما. ويطلق على الرحمة اليوم مفهوم الإنسانية، فيقال: إن فلانا إنساني في تعامله، بمعنى أنه يضع في الاعتبار أن أي إنسان هو مناظر له في الخلق والتكريم الإلهي، ومن ثم لا يجوز [ ص: 85 ] إلحاق الضرر والأذى به من دون وجه حق، مع أن مفهوم الرحمة أكثر عمقا وشمولا في دلالته من مفهوم الإنسانية.
والرحمة رقة تقتضي الإحسان إلى المرحوم، وتستعمل تارة في الرقة المجردة، وتارة أخرى في الإحسان المجرد عن الرقة، نحو: رحم الله فلانا، فالرحمة تنطوي على معنيين: الرقة والإحسان [4] .
ومن أبين الوقائع، التي تجلت فيها الرحمة في غزوة خيبر أنه وقعت في السبي صـفية بنت حـيي بن أخطب وابنـة عم لها، فطلب النبي صلى الله عليه وسلم من بـلال رضي الله عنه أن يأخذهما إلى معسكر المسلمين، فمر بهما على قتلى قومها، فراحت ابنة عم صفية بالبكاء والصراخ وحثت التراب على رأسها لما رأت سادة قومها جثثا هامـدة على الأرض. فلما رآهـا النبي صلى الله عليه وسلم تفعل ذلك قال لبلال: "أنزعت منك الرحمة يا بلال حين تمر بامرأتين على قتلى رجالهما؟!"، فقد كره النبي صلى الله عليه وسلم صنيع بلال معهما حتى بان على وجهه [5] .
كان من الممكن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يتغاضى عن ذلك ولا يلتفت إليه، فما شأن فتاة يهودية تصرخ وتولول؟! وظروف الحرب ممكن أن يحصل فيها أي شيء، وكان من الممكن أن لا يعاتب النبي صلى الله عليه وسلم واحدا من أقدم المسلمين، تحمل من العذاب ما تحمل على يد مشركي مكة، وهو مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم ، إلا أن حقائق [ ص: 86 ] الإسلام وأخلاقه وقيمه فوق كل شيء، ومن ثم كان لا بد من تسجيل موقف يبين حقيقة المفاهيم الإسلامية، وإثبات حقيقة مؤداها أن الرحمة شعار الإسلام حتى مع من هم في عداد أعدائه ومهما صغر شأن الواحد منهم.
وكان قبول النبي صلى الله عليه وسلم عرض الاستسلام، الذي قدمه كنانة بن الربيع دليل رحمة منه صلى الله عليه وسلم وقد أوشك اليهود على الانهيار تماما، ولو استمر القتال يوما آخر لفتحت بقية الحصون عنوة ولأصبح سكانها أسرى وسبايا، ولغدا كل ما يملكون مغنما للمسلمين، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم آثر أن يكون رحيما بقبول عرض الاستسلام، ولم يكن دأبه في معاركه القتل والمغنم. وهكذا تتجلى رحمة الإسلام في مفاصل كثيرة حتى في ميدان الحرب والقتال.
2- عناية النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه:
كان النبي صلى الله عليه وسلم كثير العناية بأصحابه، لا تشغله القضايا الكبيرة عن تفاصيل حياتهم اليومية، ولاسيما في المواقف التي يحتاجون فيها إلى عطفه ولطفه وإظهار محبته ومواسـاته لهم. فقد أصـيب سلمة بن الأكوع رضي الله عنه في القتال، فأتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فنفث على إصابته ثلاث نفثات، فما اشتكى منها بعدها [6] .
وأصيب محمود بن مسلمة رضي الله عنه في القتال إصابة خطيرة، فنقل إلى المعسكر في الرجيع، وبقي ثلاثة أيام يصارع الموت، وفي أثناء ذلك أوصى أخاه محمد ببناته، فقد كان محمود بن مسـلمة غنيـا حسـن الحـال، ولكن لم يكن حينها قد نزل نصـيب البنـات في الميراث، فخاف عليهن الفقر، وفي أثناء القتال قال [ ص: 87 ] النبي صلى الله عليه وسلم : "من رجل يبشر محمود بن مسلمة أن الله قد أنزل فرائض البنات - أي نصيبهن في التركة - وأن محمد بن مسلمة قد قتل قاتله؟"، فخرج أحد المسلمين لينقل إليه تلك البشرى، فلما بلغته البشارة سر بها، في وقت كان يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نسي أمره لانشغاله بالقتال المحتدم حتى قال: "لا أراه يذكرني" [7] ، إلا أن لطف النبي صلى الله عليه وسلم ومراعاته لأحوال أصحابه فاق حتى ما كانوا يتصورون، بل كان يتتبع أحوالهم حتى ما لم يكن يطلع عليه مباشرة، فكلام محمود عن بناته دار بينه وبين أخيه محمد، ومعرفة النبي صلى الله عليه وسلم به دلت على أنه كان يسأل ويتحرى عن أحوالهم.
وعلى مثل هذا المنوال تبنى العلاقة بين الراعي والرعية، والحاكم والمحكوم، والقائد والمقود.
وبالفعل كان من الممكن أن تشغل الحرب والقتال المحتدم والمهام الجسيمة كل اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم ، إلا أن الأمر لم يكن كذلك، فآحاد المسلمين كجماعتهم، وإذا كان لمحمود أن يلقى ربه، فالأفضل أن يموت قرير العين مطمئنا إلى حال بناته، وأن قاتله قد قتل، وهذا ما لم يفت النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوم به.
وكان (عبد أسود) قد اعتنق الإسلام، تاركا مهنة الرعي، إذ كان يرعى الغنم لأحد يهود خيبر، والتحق من فوره بالقتال لما استلم علي رضي الله عنه الراية من النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يمض كثير وقت حتى استشهد، فنقله المسلمون إلى خباء في معسكرهم، فاطلع عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "لقد كرم الله هذا العبد الأسود، وساقه إلى خيبر، وكان الإسلام من نفسه حقا، قد رأيت عند رأسه زوجتين من الحور العين" [8] . [ ص: 88 ]
لم يكن الرجل سـوى عبد أسود، لم يمض على اسلامه سوى بضع ساعات، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغفل شأنه، فقد جاء يريد الإسلام مختارا راغبا وصادقا في ظروف حرب لا يدري أحد ما تؤول إليه، فكان إقباله دليل صدقه، وبإسلامه صار واحدا من أحرار المسـلمـين، وشـأنه كواحد منهم، ومن ثم لا بد من أن يلقى من العنايـة ما يلقاه أي واحد منهم، لذلك لم يتجاهل النبي صلى الله عليه وسلم أمره، فخصه بتلك الإطلالة، وإخبار المسلمين بما آل إليه أمره عند الله سبحانه وتعالى. وصنيع النبي صلى الله عليه وسلم رسالة إلى صحابته أنهم محل اهتمامه وعنايته في كل أحوالهم.
وفي سياق الهجوم على حصن الصعب بن معاذ، كانت هناك مبارزة فردية بين يهودي يدعى الزيال وعمارة بن عقبة الغفاري رضي الله عنه فأهوى عمارة على الزيال بضربة هائلة على هامته وهو يقول: "خذها وأنا الغلام الغفاري"، قالها مباهيا، فقال الناس: بطل جهاده، معتقدين أنه فعل ذلك رياء، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما بأس به، يؤجر ويحمد" [9] ، وبهذا نزه النبي صلى الله عليه وسلم عمل عمارة من الرياء والبحث عن الشهرة والسمعة.. والرياء محبط للعمل، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن عمله غير محبط، وأن له أجره وثوابه عند الله. وفي ذلك صيانة لعمارة من أن يناله سخط من الله تعالى. كان بوسع النبي صلى الله عليه وسلم أن يسكت عن ذلك ليبقى الخوف والقلق ينال منه لاحتمال وقوعه في الرياء فعلا؛ فحرص النبي صلى الله عليه وسلم على أن يغرس الطمأنينة في نفسه بأن حاله صالح عند الله تعالى.
وأصاب المسلمين في خيبر برد شديد في الليل فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "من كان له لحاف فليلحف من لا لحاف له "، فبحث أبو رافع عمن يلحفه معه في لحافه [ ص: 89 ] فلم يجد، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فألقى عليه بعض لحافه، فناموا حتى الصباح [10] . وهـكذا لم يتـرفع النبي صلى الله عليه وسلم عن إعـانة أصحابه بـما عنده حريصـا على أن لا ينالهم ما يؤذيهم.
ولما فتح المسلمون حصن الصعب بن معاذ وجدوا فيه خمرا كثيرا، فكسر المسلمون آنية الخمر، إلا أن أحد الجند شرب من الخمر حتى قيل عنه: "عبد الله الخمار" فأقـاموا عليه الحد بأن ضربوه حدا بما كان في متناول أيديهم. ثم لعنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تفعل يا عمر، فإنه يحب الله ورسوله"، فعاد عبد الله إلى مكانه بين المسلمين كواحد منهم [11] .
وهذا يعكس طبيعة الرحمة التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم ولطفه بصحابته.
إن هذا النمط من تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع صـحابته رسـخ محبته في قـلوبهم، ومما تجلى به ذلك في معركة خيبر خوف الصحابة، رضي الله عنهم جميعا، على حياة النبي r، فكانوا يبادرون إلى حمايته عند استشعارهم الخطر عليه.
ففي معركة فتح حصن ناعم اشتد رمي اليهود بالسهام والنبال حتى كانت كالمطر على المسلمين، فأحاطوا بالنبي صلى الله عليه وسلم كالترس لحمايته من أن يناله منها شيء [12] ، وتكرر الأمر في معركة فتح حصن الصعب بن معاذ أيضا [13] . [ ص: 90 ]
وعنـدما أعرس النبي صلى الله عليه وسلم بصـفية، رضـي الله عنها، في الصـهباء، بـادر أبـو أيوب الأنصاري رضي الله عنه إلى السهر عند قبة النبي ممتشقا سيفه لحراسته صلى الله عليه وسلم [14] ، كل ذلك عبر عن عمق التلاحم بين النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته ليتحقق بذلك أفضل صور البناء الاجتماعي والسياسي والحضاري.
3- النهي عن المثلة وقتل الأطفال والنساء:
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة يوم خيبر [15] .. وهو أمر كان يتم تأكيده في معظم الغزوات والمعارك إثباتا للمنهج الإنساني الرحيم في التعامل مع العدو وفي أشد حالات الانفعال والغضب وذلك في ميدان الحرب والقتال، إذ تحتدم المشاعر وتتصاعد الانفعالات، وبما يقود إلى ردود فعل متصاعدة ومتوترة، إلا أن هذه التأكيدات المستمرة جاءت لتضبط سلوك المقاتلين في ميدان الحرب وتنزهه من أية انحرافات تتقاطع مع ما عليه المنهج الإسلامي من رحمة في التعامل بعامة.
وفي هذه الغزوة نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء، فقد وجد النبي امرأة مقتولة، فسأل عنها، فتبين أنها كانت امرأة سبية، أردفها أحد المقاتلين خلفه، فحاولت أن تستل سيفه لقتله فقتلها الرجل [16] . وهنا أيضا كان من الممكن أن يسكت النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل هذه المرأة فثم مسوغ لقتلها، بمحاولتها قتل هذا الفارس، ومع ذلك أبدى النبي صلى الله عليه وسلم ملاحظته وتوجيهه بعدم قتل النساء؛ طبعا باستثناء المرأة المقاتلة التي تحمل آلة الحرب للقتال، فإن حكمها حكم المقاتلين في ميدان الحرب.
[ ص: 91 ] كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الأولاد في معركة خيبر [17] ، وكان قد وجه سرية للقتال يوم خيبر، فاحتدم القتال حتى إنهم قتلوا بعض الذرية من أبناء اليهود، فبـلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فعـاتبهم، وقال: "ما حملكم على قتل الذرية" ؟ فقالوا: يا رسول الله، إنما كانوا أولاد المشركين.. قال: "وهل خياركم إلا أولاد المشركين؟ والذي نفس محمد بيده ما من نسمة تولد إلا على الفطرة، حتى يعرب عنها لسانها" [18] .
وعلى العموم فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الأولاد والنساء في غزوة خيبر [19] ، تأكيدا للمنهج الإنساني الرحيم في معارك المسلمين وحروبهم مقارنة بأساليب الآخرين في القتال، الذين أمضوا سيوفهم في القتل من دون تمييز بين رجل مقاتل وامرأة وصبي فحصدوا آلاف الأرواح البريئة من دون وازع أخلاقي.
4- أداء الأمانة:
وفي غزوة خيبر كان ثم راع، عبد أسود، يرعى الغنم لرجل يهودي، سمع هذا العبد بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد عسكر قرب حصون خيبر لقتال القوم، وسمع أن محمدا عليه الصلاة والسلام نبي، فقدم إليه، فقال: يا محمد، ما تقول؟ ما تدعو إليه؟ قال: "أدعوا إلى الإسلام، فأشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله".. قال: فما لي؟ قال: "الجنة إن ثبت على ذلك".. قال: فأسلم. وقال: إن غنمي [ ص: 92 ] هذه وديعة.. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أخرجها من العسكر ثم صح بها وارمها بحصيات، فإن الله عز وجل سيؤدي عنك أمانتك".. ففعل العبد فخرجت الغنم إلى سيدها، الذي علم أن العبد قد أسلم والتحق بمعسكر المسلمين [20] .
ومرة أخرى يبرهن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نبي حقـا، ليس مدع ولا كذاب حاشـاه، فلو كان كذلك لما أبه لعبد أسود يرعى غنما لأعدائه، ولو كان كذلك لاستحوذ على الغنم ومتع جيشه بها. لكنه النبي الحق الذي يهمه هداية أي إنسان وإن كان عبدا أسودا، ويـدعو إلى أقـوم الخلق ومنها أداء الأمانـة حتى وإن كانت لأعدائه.
وليس مثل هذا السلوك بغريب أو جديد على النبي صلى الله عليه وسلم .. ألم يكن أهل مكة يودعون أموالهم عنده؟ ولما هاجر إلى المدينة مودعا مكة وأهلها وراءه كان بوسعه أن يحمل أموالهم هذه معه، وهم خصومه الذين أذاقوه والمسلمين العذاب والمعاملة السيئة، لكنه لم يفعل، فذلك ليس من خلق الأنبياء وسجاياهم، بل ترك ودائع أهل مكة مع علي رضي الله عنه ليؤديها إلى أصحابها.
5- الوفاء بالعهود:
أكد الإسلام ضرورة الالتزام بالعهود والعقود والاتفاقات المبرمة بين الأطراف المختلفة بما يضمن الحقوق بين الناس، وبما يجعل الحياة تمضي سلسة من دون اضطرابات ومشاكل، وعليه تكرر هذا التأكيد مرات عدة في القرآن الكريم، فقال الله تعالى في محكم كتابه: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود (المائدة:1) ، وقال سبحانه: وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا (الإسراء:34) ، [ ص: 93 ] وكذلك قوله جل جلاله: وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم (النحل:91) ، وقال سبحانه: إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما (النساء:107).
ويستمر التأكيد في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم بعدم مشروعية الغدر، وضرورة الوفاء بالعهود، فمن وصاياه صلى الله عليه وسلم لقادته إذا وجههم للقتال: "اغزوا باسم الله، في سبيل الله.. قاتلوا من كفر بالله.. اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا ..." [21] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : "إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء، فقيل: هذه غدرة فلان بن فلان" [22] .
وهكذا قضت توجيهات الكتاب والسنة بالوفاء بالعهود والشروط والمواثيق والعقود وأداء الأمانة ورعايتها، والنهي عن الغدر ونقض العهود والخيانة والتشديد بالنكير على من يقع في شيء منها [23] .
وكانت الحروب ميدانا برز فيه التزام النبي صلى الله عليه وسلم بعهوده ومواثيقه، فقد تقدم يـهودي من أهل النـطاة من المسـلمين وطلب منهم الأمان ومقابلة النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي المقابلة قال للنبي صلى الله عليه وسلم : تؤمني وأهلي على أن أدلك على عورة من عورات اليهود؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "نعم"، فدله على عورة اليهود .. وبعد فتح الحصن [ ص: 94 ] دفع النبي صلى الله عليه وسلم زوجته إليه.. وقال الراوي: "فرأيته أخذ بيد امرأة حسناء" [24] ..
ولمـلاحظـة الـراوي دلالتها، فجـمال المـرأة لم يثن المسـلمـين عن الوفـاء بما تعهدوا به للرجل، وربما فعل آخرون غير ذلك طمعا في المرأة.
وثمة رواية أخرى مماثلة في الواقدي أيضا، يبدو أنها واقعة أخرى مختلفة، جاءت في السياق نفسه، بأن أدلى يهودي بمعلومات عن قومه مقابل التعهد بمنحه الأمان له ولزوجته، فوفى له النبي صلى الله عليه وسلم بما تعهد له به [25] .
أما قضية كنانة بن أبي الحقيق فتختلف في طبيعتها، إذ كان من بين ما اتفق عليه النبي صلى الله عليه وسلم مع كنانة وأخيه أن لا يخفوا عنه شيئا من أموالهم، وإنهما إن فعلا ذلك أهدرا دماءهما، وتسبى النساء والذرية، فوافق كنانة على هذا الشرط. فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن الكنز الذي عندهم، فقال كنانة: "يا أبا القاسم، أنفقناه في حربنا، فلم يبق منه شيء، وكنا نرفعه لمثل هذا اليوم".. وحلف هو وأخوه على قولهما، وأكدا أيمانهما واجتهدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "برئت منكما ذمة الله وذمة رسوله إن كان عند كما؟"، قالا: نعم، ثـم قال النبي صلى الله عليه وسلم : "وكل ما أخذت من أموالكما وأصبت من دمائكما فهو حل لي ولا ذمة لكما؟" قالا: نعم.. وبعد التحقيق والتحري، وبدلالة بعض اليهود تم العثور على الكنز، فتبين كذبهما وخيانتهما للاتفاق، فقتـلا لعدم وفائـهما بالشـرط [26] . وأقر "مونتغمري وات" أن قتلهما جاء بسبب مخالفتهما للاتفاق وإخفائهما الكنز الذي عندهما ولم يدليا [ ص: 95 ] بمعلومات عنه [27] .
وهنا لا بد من التـوقف قليلـا عند بعض الافـتراءات التي جـاءت بأقلام ممن انتسبوا إلى الإسلام، يقول "سيد محمود القمني" بشأن نقض كنانة للاتفاق وما يترتب عليه: "وانطلق السيف الإسلامي يعمل في المستسلمين وليقتل منهم في قول ابن سعد ثلاثة وتسعين رجلا من اليهود" [28] .
وبالعـودة إلى نص ابن سعـد، فإنـه يقول: "فقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود، قاتلوه أشد القتال، وقتلوا من أصحابه عدة، وقتل منهم جماعة كثيرة، وفتحها حصـنا حصـنا، وهي حصـون ذوات عدد منها: النـطاة وفيها حصن الصعب ابن معاذ وحصن ناعم وحصـن قلعة الزبير، والشـق وبه حصـون منها حصـن أبي وحصن النزار، وحصون الكتيبة منها القموص والوطيح وسلالم، وهو حصن ابني أبي الحقيق، وأخذ كنز آل أبي الحقيق، الذي كان في مسك الجمل، وكانوا قد غيبوه في خـربة، فـدل الله رسولـه عليه فاستـخرجه، وقتل منهم ثلاثة وتسعين رجـلا من اليهود منـهم الحارث أبو زينب ومرحـب وأسير وياسر وعامر" [29] .
إن نص ابن سعد نفسه يفضح افتراء القمني وكذبه، فالأسماء التي ذكرها، وفهم القمني أنهم قتلوا في المذبحة التي افتراها، إنما قتلوا في المبارزات الفردية التي حصلت عند [ ص: 96 ] معركة فتح حصن ناعم، وهذا أمر معروف تاريخيا [30] ، فضلا عن أن المصادر ذكرت صراحة أن مجمل من قتل في معركة خيبر من اليهود كان ثلاثة وتسعـين رجلا [31] . ولم يجرؤ أحد من المستشرقين على الإتيان بمثل هذا الافتراء، وجاء به من زعم أنه مسلم. فليس من خلق النبي صلى الله عليه وسلم نكث العهود، ولم يكن -كما تبين في مواضع كثيرة- أنه من هواة سفك الدماء، بل إن العكس هو الصحيح تماما.
6- العفو والمسامحة:
العـفو والتسامـح خلق إسلامي، قال الله تعالى: والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين (آل عمران:134).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم حليما واسع الصدر، من طبعه العفو والتسامح، ولقد مرت به مواقف كثيرة بينت حلمه وتسامحه، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
"كنت أمشي مع رسـول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشـية، فأدركه أعرابي، فجبذ بردائه جبذة شديدة.. قال أنس: فنظرت إلى صـفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم وقد أثرت بها حاشية الرداء من شـدة جبذته، ثم قال: يا محمد، مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك، ثم أمر له بعطاء" [32] .
من منا يرضى أن يعامل في الطريق بمثل هذا السلوك، ومن من ملوكنا وزعمائـنا يقبل بمثل هذا الفعل من دون أن يفصل رأس الرجل عن جسـده!؟ [ ص: 97 ] لكن محمدا صلى الله عليه وسلم غير سائر البشر، فهو الرحمة المهداة.
وواقعة فتح مكة أشهر ما تكون، فقد فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة، وباتت تحت سيطرته، وأصبح الذين أذاقوه الأمرين بالأمس وعذبوا المسلمين وساموهم سوء العذاب تحت هيمنته، فماذا صنع بهم؟ سألهم: "يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل فيكم؟".. قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم.. قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء" [33] .
وفي غزوة خيبر، أهـدت يهـودية تدعى زينب بنت الحارث شاة مصلية، - أي مشوية - إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن وضعت له السم في الذراع؛ لأن النبي، عليه الصلاة والسلام، كانت تعجبه من الشاة ذراعها، فلما مضغ النبي صلى الله عليه وسلم بعضها أحس أن بها سما، فأمر أصحابه بالتوقف عن الأكل، فتوقفوا إلا بشر بن البراء فإنه ابتلع لقمته التي وضعها في فمه، فاستدعى النبي اليهودية، وقال لها: "إن هذا الذراع أخبرني أن به سما، فهل وضعت فيه السم"؟ فأجابت بنعم، قال: "ما حملك على ذلك"؟ قالت: بلغت من قـومي ما لم يخف عليك، فقلت: إن كنت نبيا فستعلم بذلك، وإن كنت ملكا استرحت منك.. وفي معظم الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عنها ولم يعاقبها [34] .. ويقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتلها [ ص: 98 ] بعد أن مات بشر بن البراء على أثر ذلك السم [35] . فالنبي صلى الله عليه وسلم عفا عنها بقدر تعلق الأمر به، ولكن عندما تسبب الأمر بوفاة رجل من المسلمين، فالأمر عندها يأخذ بعدا آخر مختلف، إذ يجب هنا القصاص، وعليه قتلت المرأة قصاصا.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال على إثر ذلك: "اجمعوا لي من كان ها هنا من اليهود"، فلما اجتمعوا عنده سألهم عن أمور، ثم ختم القول معهم بأن سألهم عن سبب وضعهم السم في ذراع الشاة، قالوا: "أردنا إن كنت كذابا نستريح منك، وإن كنت نبيا لم يضرك" [36] . وظاهر الأمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عفا عنهم ولم يؤاخذهم بفعلهم هذا، وهم الذين أشاروا على زينب بنت الحارث بعد أن استشارتهم في الأمر، أما لماذا عفا عنهم؟ وذلك "أنه يعفى عن المشركين إذا غدروا بشيء يستدرك إصلاحه وجبره يعصم الله تعالى منه" [37] ، فاكتفى النبي صلى الله عليه وسلم بالقصاص من زينب بنت الحارث لتسببها بوفاة بشر بن البراء، ولم يعاقب من أشار عليها بالرأي وعفا عنهم، وهو موقف وسلوك لا نجد له نظيرا في مثل تلك الحالات، إذ غالبا ما يلجأ صاحب السطوة والنفوذ إلى الإجراء العقابي الرادع الذي ينم في الوقت نفسه عن رغبة شديدة في الانتقام.
ومن تجليات العفو الأخرى، التي مارسها النبي صلى الله عليه وسلم مع يهود خيبر، مسامحتهم عن أموالهم، إذ إن الاتفاق الذي تم بين النبي صلى الله عليه وسلم وكنانة بن الربيع نص [ ص: 99 ] على أن يسـلم اليهود كل ما عندهم من ذهب وفضة ولا يخرجون إلا بالثياب التي عليهم فقط، لكنهم في الحقيقة لم يفعلوا ذلك. فما أن أخذ الاتفاق مجراه، وبدأت عملية بيع الغنائم كان اليهود "يقبلون ويدبرون، ويبيعون ويشترون، لقد أنفقوا عامة المغنم مما يشترون من الثياب من الثياب والمتاع، وكانوا قد غيبوا نقودهم وعين مالهم" [38] ، فقد أخفى اليهود أموالهم ولم يسلموها، وهم بذلك مثل سيدهم كنانة نقضوا العهد والاتفاق، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤاخذهم بفعلهم هذا، وكان له أن يسبيهم ويسترقهم، إلا أنه تجاوز لهم عن فعلتهم بتغييب أموالهم وعدم تسليمها سماحة وعفوا من عنده.
7- الحزم في تقويم الأمة:
دأب النبي صلى الله عليه وسلم على انتهاز أية فرصة ومناسبة من أجل تقويم الأمة وإعدادها الإعداد اللازم في الوجوه كافة، دينيا واجتماعيا وسلوكيا وغيرها، فثمة أكثر من مسألة تربوية تجلت في غزوة خيبر، كان من بينها ترسيخ الاعتقاد أن الغاية من الجهاد هو القتال في سبيل الله وليس طلب الغنيمة، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أعلن النفير إلى خيبر نهضت الأعراب - ممن تخلفوا عن الحديبية - للمشاركة في الغزوة طمعا في الغنيمة لما كانوا يرونه في خيبر من ثراء. هنا أمر النبي صلى الله عليه وسلم مناديه أن ينادي: "لا يخرجن معنا إلا راغب في الجهاد، فأما الغنيمة فلا" [39] ، تقويما للنفوس وإعدادها إعدادا سليما يناسب مهمة الرسالة وحملها إلى [ ص: 100 ] أصقاع الأرض، مع أن هناك من يرى أن هذه الدعوة حملت في طياتها الرغبة في حصر الغنائم في أهل الحديبية، ومكافأتهم لما انتابهم من ضيق وإحباط جراء صلح الحديبية [40] ، وهو تصور ناجم عن أفق مادي ضيق لم يدرك حقيقة الأبعاد التربوية في الأمر. وعلى هذا الأساس لم يلتحق بغزوة خيبر - من غير أهل الحديبية - سوى الصادقين في جهادهم من غير الباحثين عن الغنيمة، وهنا قرر النبي صلى الله عليه وسلم أن يكافأ هؤلاء على صدقهم فأشركهم في الغنيمة، فشمل من لم يشهد الحديبية أيضا ممن شارك في الغزوة [41] .
وعند بدء المسير نحو خيبر أمر النبي صلى الله عليه وسلم المنادي أن ينادي: "لا يتبعنا مضعف، ولا مصعب" - أي من كانت راحلته صعبة القيادة أو ضعيفة أو أن يكون المقاتل نفسه ضعيفا - فأتبعه أعرابي على بكر له صعب، فوقصه فقتله، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر، فأمر بلالا أن ينادي: "ألا تحل الجنة لعاص" [42] ، تدريبا للأمة على ضرورة الضبط والالتزام بالتعليمات بما يضمن سلامة العمل ونتائجه في المجالات كافة، ولاسيما في الجانب العسكري، الذي يلزمه أعلى درجات الضبط والالتزام بالأوامر.
والأمر الآخر الذي تجلى في غزوة خيبر هو ضرورة الأخذ بالضبط العسكري في ميدان القتال بالانصياع التام للأوامر العسكرية، فلما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى حصن [ ص: 101 ] ناعم في النطاة، وصف أصحابه، نهى عن القتال حتى يأذن لهم، فعمد رجل من أشجع فحمل على يهودي، وحمل عليه مرحب فقتله.. فقال الناس: يا رسول الله، استشهد فلان! فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم : "أبعد ما نهيت عن القتال"؟ فقالوا: نعم.. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا فنادى: "لا تحل الجنة لعاص"، إذ إن مخالفة التعليمات والأوامر العسكرية في ميدان القتال قد تتسبب بما لا يحمد عقباه، ولاسيما أن ذكرى معركة أحد ومخالفة الرماة لأوامر النبي صلى الله عليه وسلم بعدم مغادرة أماكنهم تسـببت بخسـارة المعركة بعدما لاحت تباشير النصـر فيها، تلك الذكرى كانت لـما تزل ماثلة في الأذهان، لذلك كان لا بد في كل مرة من تأكيد ضرورة الالتزام بالأوامر والتعليمات تجنبا لأية مخاطر.
ومن أمور الضبط الأخرى، التي تجلت أيضا في غزوة خيبر ما يتعلق بالتعامل مع الغنائم، إذ مرت بنا وقائع عديدة أفادت بتشديد النكير على من تمتد يده بغير وجه حق إلى الغنائم ليغل منها، وأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى مبلغ العقوبة الأخروية وهي العذاب في النار لمن غل شيئا من الغنائم.
وشدد النبي صلى الله عليه وسلم أيضا على ضرورة عدم استنزاف ما تتم استعارته من الغنائم للحاجة الماسة للقتال كالدواب والثياب والسلاح، مؤكدا ضرورة المحافظة عليها وإعادتها سليمة إلى الغنائم بوصفها حق عام للمسلمين.
وعلى هذا المنوال من اللطف والحزم كان يعمد النبي صلى الله عليه وسلم إلى تقويم الأمة وتربية سلوكها حتى تكون مستعدة لنقل قيم الإسلام الحضارية إلى البشرية جمعاء. [ ص: 102 ]