خامسا: الشورى
تعد الشورى من أعظم القيم الحضارية، التي ترتقي بالحياة الإنسانية صوب أمثل أشكالها، إذ تعني: مشاركة الآخرين، ولاسيما من المعنيين في صناعة القرار بإبداء الآراء ومناقشتها، خروجا بأفضل تصور عما يجب فعله أو تقريره في أمر ما، وقد نص الله تعالى في كتابه العزيز على ضرورة اتخاذ الشورى منهجا في صناعة القرار، فقال الله تعالى: وأمرهم شورى بينهم (الشورى:38) ، وقال سبحانه: وشاورهم في الأمر (آل عمران:159).
ومن يغوص في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم سيرى أنه أكثر خلق الله مشاورة، حتى في شؤونه الشخصية، ليس لحاجته الفعلية إلى الشورى، بل تربية للأمة على هذا المنهج القويم في العمل في نواحي الحياة كافة.
وهـكذا شهـدت غزوة خيبر ممارسـات عدة للشورى أو الاستئناس بالرأي أو عدم الانفراد بقرار ما. ومن هذه الممارسات أنه في أثناء التقدم صوب خيبر، وعند الاقتراب منها، قال الدليل، ولا شك أنه كان يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم بصفته القائد الأعلى المعني بالأمر: بينكم وبين القوم ثلثا نهار أو نصفه، فإن أحببتم كمنتم، وخرجت طليعة آتيكم بالخـبر، وإن أحببتم سـرنا جميعـا، فقـالوا: بل نقدمك، فقـدموه [1] . ففي قول الراوي: (فقالوا) إشـارة إلى أن المسـلمين، [ ص: 103 ] أو وجوههم وقادتهم تشاوروا في الأمر، ولا بد من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم على رأسهم في مناقشته.. وهكذا فإنهم خرجوا بقرار هو ثمرة الشورى بينهم.
ولما بلغ المسـلمون خيـبر اتـخذوا معسكرا لهم في منطقـة تعرف بالمنزلة، فلما أصبـح الصباح جـاء الحباب بن المنـذر بن الجمـوح إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله صلى الله عليك، إنك نزلت منزلك هذا، فإن كان عن أمر أمرت به فلا نتكلم فيه، وإن كان الرأي تكلمنا.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بل هو الرأي"، فأبدى الحباب ملاحظاته بشأن المكان، في كونه قريبا كثيرا من حصن اليهود، وهم على مرتفع ويمتازون ببراعتهم في الرمي، فتصيب سهامهم المسلمين، والمكان كثيف النخل بوسع العدو التسلل بين الأشجار ليكمنوا للمسلمين، والأرض ينز منها الماء لقربه من سطحها، وقد يتسبب بمرض المسلمين، فوافق النبي صلى الله عليه وسلم على ملاحظاته، وطلب من محمد بن مسلمة تحري مكان آخر أنسب لاتخاذه معسكرا [2] .
ولما احتدم القتال وبانت صعوبته لكثير من المزايا، التي ذكرناها في أثناء تعريفنا بخبير، أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يفت في عضد عدوه ويكسر روحهم المعنوية، فأمر بقطع النخيل على مشورة من الحباب بن المنذر، وفعلا باشر المسلمون بقطع الأشجار، وهنا بادر بعض الصحابة إلى الإشارة على النبي صلى الله عليه وسلم بالتوقف عن القطع، على أساس أن الله تعالى وعد النبي والمسلمين بغنائم خيبر، فعلام قطع [ ص: 104 ] النخيل، وذكر الواقدي أن الذي أشار عليه بذلك هو أبو بكر رضي الله عنه [3] ، وقال السرخسي: بل إن الذي أشار عليه هو عمر رضي الله عنه [4] .
ولما بدأت الأغذية تنفد، وبدأ الجوع يظهر في حياة المقاتلين، حتى أن بعضهم كلم النبي صلى الله عليه وسلم في ما هم عليه من الجوع، ظهرت في هذه الأثناء مجموعة من الحمر الإنسية فرت من أحد حصون اليهود، فأخذها المسلمون وذبحوها وبدأوا بطهيـها في قـدورهم، فلما علـم النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر نهى عن أكل لحمها وأمرهم بإراقتها، ثم كسـر هذه القدور، فقال رجـل من المسـلمين: "يا رسـول الله، ألا نهريق ما فيها ونغسلها"؟، قال النبي صلى الله عليه وسلم : "أو ذاك" [5] ، فالرجل أشار على النبي برأي آخر، فأقر النبي صلى الله عليه وسلم مشورته.
وكما تقدمت الإشارة إليه، فإن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قدم إلى خيبر وبرفقته المسلمين الذين كانوا في الحبشة، ومعهم أيضا الدوسيون وكانوا خرجوا من اليمن وكان فيهم أبو موسى الأشعري وأبو هريرة، رضي الله عنهما، وكان وصولهم بعد فتح خيبر وقبل توزيع الغنائم، فكلم النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين واستأذنهم في إشراك القادمين في الغنيمة معهم، فأذنوا له [6] ، إذ لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم التفرد بقرار يخص أموال المقاتلين وحقوقهم من دون استطلاع رأيهم في الأمر، وهذا يعبر من دون شك عن احترامه لصحابته ولوجهة نظرهم في قضاياهم العامة. [ ص: 105 ]