كتاب الوقف قال الشيخ الإمام الزاهد الأجل شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله إملاء : اعلم بأن الوقف لغة الحبس والمنع ، وفيه لغتان أوقف يوقف إيقافا ووقف يقف وقفا قال الله تعالى { وقفوهم إنهم مسئولون } . وفي الشريعة عبارة عن حبس المملوك عن التمليك من الغير وظن بعض أصحابنا رحمهم الله أنه غير جائز على قول وإليه يشير في ظاهر الرواية فنقول أما أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه فكان لا يجيز ذلك ومراده أن لا يجعله لازما . أبو حنيفة
فأما أصل الجواز ثابت ; لأنه يجعل الواقف حابسا للعين على ملكه صارفا للمنفعة إلى الجهة التي سماها فيكون بمنزلة العارية والعارية جائزة غير لازمة ; ولهذا قال لو أوصى به بعد موته يكون لازما بمنزلة الوصية بالمنفعة بعد الموت . عنده
وذكر الطحطاوي رحمه الله تعالى أن عنده لو نفذه في مرضه فهو كالمضاف إلى ما بعد الموت ; لأن تصرف المريض مرض الموت في الحكم كالمضاف إلى ما بعد الموت حتى يعتبر من ثلثه وخصوصا فيما لا [ ص: 28 ] يكون تمليكا كالعتق كأنه يجعله موقوفا على ما يظهر عند موته والصحيح أن ما باشره في المرض بمنزلة ما لو باشره في الصحة في أنه لا يتعلق به اللزوم ، ولا يمتنع الإرث بمنزلة العارية إلا أن يقول في حياتي وبعد موتي فحينئذ يلزم إذا كان مؤبدا وصار الأبد فيه كعمر الموصى له بالخدمة في لزوم الوصية بعد الموت .
فأما أبو يوسف رحمهما الله قالا الوقف لا يزيل ملكه ، وإنما يحبس العين عن الدخول في ملك غيره ، وليس من ضرورة ذلك امتناع زوال ملكه فلزوال الملك في حقه يلزم حتى لا يورث عنه بعد وفاته ; لأن الوارث يخلف المورث في ملكه وكان ومحمد رحمه الله يقول أولا بقول أبو يوسف رحمه الله ، ولكنه لما حج مع أبي حنيفة الرشيد رحمه الله فرأى وقوف الصحابة رضوان الله عليهم بالمدينة ونواحيها رجع فأفتى بلزوم الوقف فقد رجع عند ذلك عن ثلاث مسائل ( إحداها ) هذه ( والثانية ) تقدير الصاع بثمانية أرطال ( والثالثة ) أذان الفجر قبل طلوع الفجر .
وحجتهم في ذلك الآثار المشهورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين منهم عمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعائشة وحفصة رضي الله تعالى عنهم فإنهم باشروا الوقف وهو باق إلى يومنا هذا ، وكذلك وقف إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه باق إلى يومنا هذا ، وقد أمرنا باتباعه قال الله تعالى { فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا } والناس تعاملوا به من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا يعني اتخاذ الرباطات والخانات وتعامل الناس من غير نكير حجة ، وقد استبعد رحمه الله قول محمد في الكتاب لهذا وسماه تحكما على الناس من غير حجة فقال ما أخذ الناس بقول أبي حنيفة وأصحابه إلا بتركهم التحكم على الناس . أبي حنيفة
فإذا كانوا هم الذين يتحكمون على الناس بغير أثر ، ولا قياس لم يقلدوا هذه الأشياء ، ولو جاز التقليد كان من مضى من قبل مثل أبي حنيفة الحسن البصري وإبراهيم النخعي رحمهما الله أحرى أن يقلدوا ولم يحمد على ما قال . وقيل بسبب ذلك انقطع خاطره فلم يتمكن من تفريغ مسائل الوقف حتى خاض في الصكوك واستكثر أصحابه من بعده من تفريغ مسائل الوقف كالخصاف وهلال رحمهما الله ، ولو كان رضي الله تعالى عنه في الأحياء حين قال ما قال لدمر عليه فإنه كما قال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه رأيت رجلا لو قال هذه الأسطوانة من ذهب لدل عليه ، ولكن كل مجري بالجلاء يسر ، ثم استدل بالمسجد فقال اتخاذ المسجد يلزم بالاتفاق وهو إخراج لتلك البقعة عن ملكه من غير أن يدخل في ملك أحد ، ولكنها تصير محبوسة بنوع قربة قصدها . مالك
فكذلك [ ص: 29 ] في الوقف وبهذا تبين أنه ليس من ضرورة الحبس عن الدخول في ملك الغير امتناع خروجه عن ملكه ، ثم للناس حاجة إلى ما يرجع إلى مصالح معاشهم ومعادهم . فإذا جاز هذا النوع من الإخراج والحبس لمصلحة المعاد . فكذلك لمصلحة المعاش كبناء الخانات والرباطات واتخاذ المقابر ، ولو جاز الفرق بين هذه الأشياء لكان الأولى أن يقال لا يلزم المسجد وتلزم المقبرة حتى لا يورث لما في النبش من الإضرار والاستبعاد عند الناس ، أو كان ينبغي أن يلتزم الوقف دون المسجد ; لأن في الوقف ، وإن انعدم التمليك في عينه فلذلك يوجد فيما هو المقصود به وهو التصدق بالغلة ، وذلك لا يوجد في المسجد فكان هذا الفرق أبعد عن التحكم مما ذهب إليه رحمه الله هذا معنى ما احتج به أبو حنيفة رحمه الله ، وقد طوله في الكتاب . محمد
ويستدلون بالعتق أيضا ففيه إزالة الملك الثابت في العبد من غير تمليك وصح ذلك على قصد التقرب . فكذلك في الوقف وحجة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم { أبي حنيفة } فبين النبي عليه الصلاة والسلام أن الإرث إنما ينعدم في الصدقة التي أمضاها ، وذلك لا يكون إلا بعد التمليك من غيره . يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت وما سوى ذلك فهو مال الوارث
( وسئل ) الشعبي عن الحبس فقال جاء محمد عليه الصلاة والسلام ببيع الحبس فهذا بيان أن كان في شريعة من قبلنا وأن شريعتنا ناسخة لذلك . وقال لزوم الوقف ابن مسعود رضي الله تعالى عنهم لا حبس عن فرائض الله تعالى ، ولكنهم يحملون هذا الأثر على ما كان أهل الجاهلية يصنعونه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ويقولون الشرع أبطل ذلك كله ، ولكنا نقول النكرة في موضع النفي تعم فيتناول كل طريق يكون فيه حبس عن الميراث إلا ما قام عليه دليل . وابن عباس
( واستدل ) بعض مشايخنا رحمهم الله بقوله عليه الصلاة والسلام { } فقالوا معناه ما تركناه صدقة لا يورث ذلك عنا ، وليس المراد أن أموال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا تورث ، وقد قال الله تعالى { إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة وورث سليمان داود } . وقال تعالى { فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب } فحاشا أن يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف المنزل فعلى هذا التأويل في الحديث بيان أن لزوم الوقف من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام خاصة بناء على أن الوعد منهم كالعهد من غيرهم ، ولكن في هذا الكلام نظر فقد استدل رضي الله عنه على أبو بكر رضي الله عنها حين ادعت فاطمة فدك بهذا الحديث على ما روي أنها ادعت أن رسول الله [ ص: 30 ] صلى الله عليه وسلم وهب فدك لها وأقامت رجلا وامرأة فقال رضي الله تعالى عنه ضمي إلى الرجل رجلا ، أو إلى المرأة امرأة فلما لم تجد ذلك جعلت تقول من يرثك فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه أولادي فقالت أبو بكر رضي الله تعالى عنها أيرثك أولادك ، ولا أرث أنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال فاطمة رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { أبو بكر } فعرفنا أن المراد بيان أن ما تركه يكون صدقة ، ولا يكون ميراثا عنه . إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة
وقد وقعت الفتنة بين الناس بسبب ذلك فترك الاشتغال به أسلم والمعنى فيه أن العين الموقوفة فيه كانت مملوكة قبل الوقف وبقيت بعده مملوكة والمملوك بغير مالك لا يكون فمن ضرورة بقائها مملوكة أن يكون هو المالك ، أو غيره ولم تصر مملوكة لغيره فكانت باقية على ملكه والوارث يخلف المورث في ملكه ، وبيان قولنا أنها بقيت مملوكة أنه ينتفع بها على وجه الانتفاع بالمملوكات من حيث السكنى والزراعة وسائر وجوه الانتفاعات ، ولأنها خلقت مملوكة في الأصل ، وقد تقرر ذلك بتمام الإحراز فلا يتصور إخراجها عن أن تكون مملوكة إلا أن يجعلها لله تعالى خالصا وبالوقف لا يتحقق ذلك .
وفي هذه التسمية ما يدل على أنها مملوكة محبوسة ، وبه فارق العتق فالآدمي خلق في الأصل ليكون مالكا فصفة المملوكية فيه عارض محتمل للرفع . وإذا رفع كان مالكا كما كان ، ومن ضرورة إثبات قوة المالكية انعدام المملوكية وبخلاف المسجد فإن تلك البقعة تخرج من أن تكون مملوكة وتصير لله تعالى ألا ترى أنه لا ينتفع بها بشيء من منافع الملك ، وإن كانت تصلح لذلك ، وقد وجدنا لهذا الطريق أصلا في الشرع وهو الكعبة فتلك البقعة لله تعالى خالصة متحرزة عن ملك العباد فألحقنا سائر المساجد بها ولم نجد مثل ذلك في الوقف بل الوقف بمنزلة تسييب أهل الجاهلية من حيث إنه لا تخرج به العين من أن تكون مملوكة منتفعا بها .
ولو سيب دابته لم تخرج من ملكه . فكذلك إذا وقف أرضه ، أو داره . وإذا بقيت مملوكة له لا يمتنع الإرث فيها إلا باعتبار حق يستثنيه لنفسه بعد وفاته ، وذلك فيما إذا أضاف الوقف إلى ما بعد الموت فإنه تبقى العين على حكم ملكه لشغله إياه بحاجته والناس لم يأخذوا قول في المسألة إلا باشتهار الآثار . فأما من حيث المعنى كلامه قوي وهو يحمل الآثار على الوقف المضاف إلى ما بعد الموت ، أو المنفعة في الحياة ، وبعد الموت ، قال رحمه الله تعالى قد تم الكتاب على قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه . أبي حنيفة
وإنما البيان بعد هذا على قولهما ، ثم بدأ الكتاب بحديث رواه [ ص: 31 ] عن عن صخر بن جويرية { نافع رضي الله عنه كانت له أرض تدعى ثمغا وكان نخلا نفيسا فقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يا رسول الله إني استفدت مالا وهو عندي نفيس أفأتصدق به فقال صلوات الله وسلامه عليه تصدق بأصله لا يباع ، ولا يوهب ، ولا يورث ، ولكن لينفق من ثمره عمر } ، فتصدق به أن رضي الله عنه في سبيل الله تعالى ، وفي الرقاب والضيف والمساكين وابن السبيل ولذي القربى منه ، ولا جناح على من وليه أن يأكل منه بالمعروف ، أو يؤكل صديقا له غير متمول منه . عمر
وهذه الأرض سهم رضي الله عنه عمر بخيبر حين قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر بين أصحابه رضي الله عنهم وثمغ لقب لها ، وقد كانت لأملاكهم ألقاب حتى كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناقة يقال لها العضباء وبغلة يقال لها دلدل وفرس يقال له السكب وحمار يقال له يعفور وعمامة تسمى السحابة ، ثم في هذا دليل أن فينبغي أن يختار لذلك أنفس أمواله وأطيبها قال الله تعالى { من قصد التقرب إلى الله سبحانه وتعالى لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } . وقال الله سبحانه وتعالى { ، ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } ; فلهذا اختار رضي الله عنه أنفس أمواله وأطيبها لما أراد التصدق ، وفيه دليل على أن من أراد التقرب إلى الله تعالى فالأولى أن يقدم السؤال عن ذلك وأن الربا لا يدخل في هذا السؤال بخلاف ما يقوله جهال المتقشفة ، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوقف بقوله تصدق بأصله لا يباع ، ولا يوهب ، ولا يورث فهو من حجة من يقول بلزوم الوقف . عمر
وقد روي عن رضي الله عنه أنه وقف كما فعله علي رضي الله عنه ، ولكن لم يستثن للوالي شيئا ، وفيه دليل على أن كل ذلك واسع إن استثنى للوالي أن عمر كما فعله يأكل بالمعروف رضي الله عنه وهو صواب ، وإن لم يستثن ذلك كما فعله عمر رضي الله عنه فهو صواب أيضا وللوالي أن يأكل منه بالمعروف مقدار حاجته كما أن للإمام فعل ذلك في بيت المال ولوصي اليتيم ذلك في مال اليتيم إذا عمل له قال الله تعالى { علي ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف } ، ولكن لا يكون له أن يؤكل غيره ممن ليس في عياله إلا إذا شرط الواقف ذلك كما فعله رضي الله عنه ، أو يؤكل صديقا له . عمر
( وقوله ) غير متمول منه يعني يكتفي بما يأكل ، ولا يكتسب به المال بالبيع لنفسه وهو نظير الغازي في طعام الغنيمة يباح له أن يتناول بقدر حاجته ، ولا يتمول ذلك بالبيع والإقراض من غيره ، وفيه دليل رحمه الله أن الوقف لا يتم إلا بالتسليم إلى المتولي ، وفي قوله لا جناح على من وليه إشارة إلى ذلك ، وقد روي أنه جعل وقفه في يد ابنته محمد حفصة رضي الله تعالى عنهما قال رحمه الله ; ولهذا يأخذ إذا [ ص: 32 ] تصدق بها في حياته في صحته كان ذلك من جميع ماله . محمد
وإذا تصدق به في مرضه كان ذلك من ثلثه ; لأنه إزالة الملك بطريق التبرع ،