الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            فلما اطمأن نوح في الفلك ، وأدخل فيه كل من أمر به ، وكان ذلك بعد ستمائة سنة من عمره في قول بعضهم ، وحمل معه من حمل وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم . أي على اسم الله ابتداء سيرها وانتهاؤه إن ربي لغفور رحيم . أي وذو عقاب أليم مع كونه غفورا رحيما لا يرد بأسه عن القوم المجرمين ، كما أحل بأهل الأرض الذين كفروا به . وعبدوا غيره قال الله تعالى : وهي تجري بهم في موج كالجبال . وذلك أن الله تعالى أرسل من السماء مطرا لم تعهده الأرض قبله ، ولا تمطره بعده كان كأفواه القرب ، وأمر الأرض فنبعت من جميع فجاجها وسائر أرجائها ، كما قال تعالى : فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواح ودسر [ القمر : 10 - 13 ] . والدسر : المسامير تجري بأعيننا أي بحفظنا وكلاءتنا وحراستنا ومشاهدتنا لها جزاء لمن كان كفر .

            وقد ذكر ابن جرير وغيره أن الطوفان كان في ثالث عشر شهر آب في حمارة القيظ . وقال تعالى : إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية . أي السفينة . لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية . قال جماعة من المفسرين : ارتفع الماء على أعلى جبل بالأرض خمسة عشر ذراعا . وهو الذي عند أهل الكتاب . وقيل : ثمانين ذراعا . وعم جميع الأرض ; طولها والعرض ، سهلها وحزنها ، وجبالها ، وقفارها ورمالها ، ولم يبق على وجه الأرض ممن كان بها من الأحياء عين تطرف ، ولا صغير ولا كبير . قال الإمام مالك ، عن زيد بن أسلم : كان أهل ذلك الزمان قد ملئوا السهل والجبل . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : لم تكن بقعة في الأرض إلا ولها مالك وحائز . رواهما ابن أبي حاتم . موقف ابن نوح عليه السلام ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين [ هود : 42 - 43 ] . وهذا الابن هو يام أخو سام وحام ويافث . وقيل : اسمه كنعان . وكان كافرا عاملا غير صالح ، مخالفا أباه في دينه ومذهبه ، فهلك مع من هلك . هذا وقد نجا مع أبيه الأجانب في النسب لما كانوا موافقين في الدين والمذهب : وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين . أي ; لما فرغ من أهل الأرض ، ولم يبق منها أحد ممن عبد غير الله عز وجل ، أمر الله الأرض أن تبلع ماءها ، وأمر السماء أن تقلع . أي تمسك عن المطر وغيض الماء . أي نقص عما كان وقضي الأمر ، أي وقع بهم الذي كان قد سبق في علمه وقدره ، من إحلاله بهم ما حل بهم وقيل بعدا للقوم الظالمين . أي ; نودي عليهم بلسان القدرة بعدا لهم من الرحمة والمغفرة ، كما قال تعالى : فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين [ الأعراف : 64 ] . وقال تعالى : فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين [ يونس : 73 ] . وقال تعالى : ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين [ الأنبياء : 77 ] . وقال تعالى : فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون ثم أغرقنا بعد الباقين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم [ الشعراء : 119 - 122 ] وقال تعالى : فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين [ العنكبوت : 14 - 15 ] . وقال تعالى : ثم أغرقنا الآخرين [ الصافات : 82 ] وقال : ولقد تركناها آية فهل من مدكر فكيف كان عذابي ونذر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر [ القمر : 15 - 17 ] . وقال تعالى : مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا [ نوح : 25 - 27 ] . وقد استجاب الله تعالى وله الحمد والمنة دعوته فلم يبق منهم عين تطرف .

            وقد روى الإمامان : أبو جعفر بن جرير ، وأبو محمد بن أبي حاتم في تفسيريهما عن عائشة أم المؤمنين ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فلو رحم الله من قوم نوح أحدا لرحم أم الصبي . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مكث نوح عليه السلام في قومه ألف سنة يعني إلا خمسين عاما ، وغرس مائة سنة الشجر فعظمت ، وذهبت كل مذهب ، ثم قطعها ، ثم جعلها سفينة ، ويمرون عليه ، ويسخرون منه ، ويقولون : تعمل سفينة في البر كيف تجري . قال : سوف تعلمون . فلما فرغ ونبع الماء وصار في السكك . خشيت أم الصبي عليه وكانت تحبه حبا شديدا خرجت به إلى الجبل حتى بلغت ثلثه ، فلما بلغها الماء ، خرجت به حتى استوت على الجبل ، فلما بلغ الماء رقبتها رفعته بيديها ، فغرقا ، فلو رحم الله منهم أحدا لرحم أم الصبي . وهذا حديث غريب ، وقد روي عن كعب الأحبار ، ومجاهد ، وغير واحد شبيه لهذه القصة ، وأحرى بهذا الحديث أن يكون موقوفا متلقى عن مثل كعب الأحبار . والله أعلم .

            الزعم بأن عوج بن عنق كان موجودا قبل نوح والمقصود أن الله لم يبق من الكافرين ديارا ، فكيف يزعم بعض المفسرين : أن عوج بن عنق ، ويقال : ابن عناق كان موجودا من قبل نوح إلى زمان موسى ويقولون : كان كافرا متمردا جبارا عنيدا ، ويقولون : كان لغير رشدة بل ولدته أمه عنق بنت آدم من زنا ، وأنه كان يأخذ من طوله السمك من قرار البحار ، ويشويه في عين الشمس ، وأنه كان يقول لنوح ، وهو في السفينة : ما هذه القصيعة التي لك ، ويستهزئ به . ويذكرون أنه كان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة وثلاثة وثلاثين ذراعا وثلثا ، إلى غير ذلك من الهذيانات التي لولا أنها مسطرة في كثير من كتب التفاسير ، وغيرها من التواريخ ، وأيام الناس لما تعرضنا لحكايتها لسقاطتها ، وركاكتها ، ثم إنها مخالفة للمعقول والمنقول .

            أما المعقول فكيف يسوغ فيه أن يهلك الله ولد نوح لكفره ، وأبوه نبي الأمة وزعيم أهل الإيمان ، ولا يهلك عوج بن عنق ، ويقال : عناق . وهو أظلم وأطغى على ما ذكروا ، وكيف لا يرحم الله منهم أحدا ، ولا أم الصبي ، ولا الصبي ، ويترك هذا الدعي الجبار العنيد الفاجر الشديد الكافر الشيطان المريد على ما ذكروا ؟ !

            وأما المنقول فقد قال الله تعالى : ثم أغرقنا الآخرين . وقال : رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ثم هذا الطول الذي ذكروه مخالف لما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعا ، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن . فهذا نص الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى . أنه لم يزل الخلق ينقص حتى الآن أي ; لم يزل الناس في نقصان في طولهم من آدم إلى يوم إخباره بذلك ، وهلم جرا إلى يوم القيامة .

            وهذا يقتضي أنه لم يوجد من ذرية آدم من كان أطول منه فكيف يترك هذا ويذهل عنه ، ويصار إلى أقوال الكذبة الكفرة من أهل الكتاب الذين بدلوا كتب الله المنزلة وحرفوها وأولوها ووضعوها على غير مواضعها ، فما ظنك بما هم يستقلون بنقله أو يؤتمنون عليه ، وهم الكذبة الخونة ، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة . وما أظن أن هذا الخبر عن عوج بن عناق إلا اختلاقا من بعض زنادقتهم وفجارهم الذين كانوا أعداء الأنبياء ، والله أعلم .

            مناشدة نوح عليه السلام ربه تعالى في ولده ثم ذكر الله تعالى مناشدة نوح ربه في ولده ، وسؤاله له عن غرقه على وجه الاستعلام والاستكشاف ، ووجه السؤال أنك وعدتني بنجاة أهلي معي وهو منهم وقد غرق فأجيب بأنه ليس من أهلك أي الذين وعدت بنجاتهم أي أما قلنا لك : وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم . فكان هذا ممن سبق عليه القول منهم بأن سيغرق بكفره ، ولهذا ساقته الأقدار إلى أن انحاز عن حوزة أهل الإيمان ، فغرق مع حزبه أهل الكفر والطغيان.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية