ذكر تعالى ودعوتهم إلى ترك ما هم عليه وأمرهم بعبادة الله تعالى فقال تعالى : مناظرته لقومه وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال ياقوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هداني ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم [ الأنعام : 75 - 83 ] . وهذا المقام مقام مناظرة لقومه ، وبيان لهم أن هذه الأجرام المشاهدة من الكواكب النيرة لا تصلح للألوهية ، ولا أن تعبد مع الله عز وجل ؛ لأنها مخلوقة مربوبة مصنوعة مدبرة مسخرة تطلع تارة وتأفل أخرى ، فتغيب عن هذا العالم ، والرب تعالى لا يغيب عنه شيء . ولا تخفى عليه خافية ، بل هو الدائم الباقي بلا زوال لا إله إلا هو ، ولا رب سواه فبين لهم أولا عدم صلاحية الكوكب - قيل : هو الزهرة - لذلك ترقى منها إلى القمر الذي هو أضوأ منها وأبهى من حسنها ، ثم ترقى إلى الشمس التي هي أشد الأجرام المشاهدة ضياء وسناء وبهاء ، فبين أنها مسخرة مسيرة مقدرة مربوبة ، كما قال تعالى : ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون [ فصلت : 37 ] . ولهذا قال : فلما رأى الشمس بازغة . أي طالعة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا . أي لست أبالي في هذه الآلهة التي تعبدونها من دون الله فإنها لا تنفع شيئا ولا تسمع ولا تعقل ، بل هي مربوبة مسخرة كالكواكب ونحوها ، أو مصنوعة منحوتة منجورة .
والظاهر أن موعظته هذه في الكواكب لأهل حران فإنهم كان يعبدونها ، وهذا يرد قول من زعم أنه قال هذا حين خرج من السرب لما كان صغيرا ، كما ذكره ابن إسحاق وغيره ، وهو مستند إلى أخبار إسرائيلية لا يوثق بها ، ولا سيما إذا خالفت الحق ، وأما أهل بابل فكانوا يعبدون الأصنام ، وهم الذين ناظرهم في عبادتها ، وكسرها عليهم وأهانها وبين بطلانها.
إنكار إبراهيم على قومه عبادة الأوثان كما قال تعالى : وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين . وقال في سورة الأنبياء : ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا ياإبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين قلنا يانار كوني بردا وسلاما على إبراهيم وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين [ الأنبياء : 51 - 70 ] . وقال في سورة الشعراء : واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين [ الشعراء : 69 - 83 ] . وقال تعالى في سورة الصافات : وإن من شيعته لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون أئفكا آلهة دون الله تريدون فما ظنكم برب العالمين فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم فتولوا عنه مدبرين فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون ما لكم لا تنطقون فراغ عليهم ضربا باليمين فأقبلوا إليه يزفون قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين [ الصافات : 83 - 98 ] .
يخبر الله تعالى عن إبراهيم خليله عليه السلام أنه أنكر على قومه عبادة الأوثان ، وحقرها عندهم ، وصغرها ، وتنقصها فقال : ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون . أي معتكفون عندها وخاضعون لها قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين . ما كان حجتهم إلا صنيع الآباء والأجداد ، وما كانوا عليه من عبادة الأنداد قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين . كما قال تعالى : إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون أئفكا آلهة دون الله تريدون فما ظنكم برب العالمين . قال قتادة : فما ظنكم به أنه فاعل بكم إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره . وقال لهم : هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون . سلموا له أنها لا تسمع داعيا ولا تنفع ولا تضر شيئا ، وإنما الحامل لهم على عبادتها الاقتداء بأسلافهم ، ومن هو مثلهم في الضلال من الآباء الجهال ؛ ولهذا قال لهم : أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين . وهذا برهان قاطع على بطلان إلهية ما ادعوه من الأصنام ؛ لأنه تبرأ منها وتنقص بها ، فلو كانت تضر لضرته أو تؤثر لأثرت فيه قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين . يقولون : هذا الكلام الذي تقوله لنا ، وتنتقص به آلهتنا ، وتطعن بسببه في آبائنا تقوله محقا جادا فيه أم لاعبا قال : بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين . يعني : بل أقول لكم ذلك جادا محقا ، وإنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو ربكم ، ورب كل شيء فاطر السماوات والأرض الخالق لهما على غير مثال سبق ، فهو المستحق للعبادة وحده لا شريك له ، وأنا على ذلكم من الشاهدين . وقوله : وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين . أقسم ليكيدن هذه الأصنام التي يعبدونها بعد أن تولوا مدبرين إلى عيدهم . قيل : إنه قال هذا خفية في نفسه . وقال ابن مسعود : سمعه بعضهم . وكان لهم عيد يذهبون إليه في كل عام مرة إلى ظاهر البلد فدعاه أبوه ليحضره ، فقال : إني سقيم كما قال تعالى : فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم . عرض لهم في الكلام حتى توصل إلى مقصوده من إهانة أصنامهم ، ونصرة دين الله الحق في بطلان ما هم عليه من عبادة الأصنام التي تستحق أن تكسر ، وأن تهان غاية الإهانة ، فلما خرجوا إلى عيدهم ، واستقر هو في بلدهم فراغ إلى آلهتهم . أي ذهب إليها مسرعا مستخفيا فوجدها في بهو عظيم ، وقد وضعوا بين أيديها أنواعا من الأطعمة قربانا إليها ، فقال لها على سبيل التهكم والازدراء : ألا تأكلون ما لكم لا تنطقون فراغ عليهم ضربا باليمين ؛ لأنها أقوى وأبطش وأسرع وأقهر ، فكسرها بقدوم في يده ، كما قال تعالى : فجعلهم جذاذا أي حطاما كسرها كلها إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون . قيل : إنه وضع القدوم في يد الكبير إشارة إلى أنه غار أن تعبد معه هذه الصغار ، فلما رجعوا من عيدهم ، ووجدوا ما حل بمعبودهم قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين .
وهذا فيه دليل ظاهر لهم لو كانوا يعقلون ، وهو ما حل بآلهتهم التي كانوا يعبدونها ، فلو كانت آلهة لدفعت عن أنفسها من أرادها بسوء لكنهم قالوا من جهلهم ، وقلة عقلهم ، وكثرة ضلالهم ، وخبالهم : من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم . أي يذكرها بالعيب ، والتنقص لها ، والازدراء بها فهو المقيم عليها ، والكاسر لها ، وعلى قول ابن مسعود أي يذكرهم بقوله : وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين . قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون . أي في الملأ الأكبر على رءوس الأشهاد لعلهم يشهدون مقالته ، ويسمعون كلامه ، ويعاينون ما يحل به من الاقتصاص منه ، وكان هذا أكبر مقاصد الخليل عليه السلام أن يجتمع الناس كلهم فيقيم على جميع عباد الأصنام الحجة على بطلان ما هم عليه ، كما قال موسى عليه السلام لفرعون : موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى . فلما اجتمعوا وجاءوا به . كما ذكروا : قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا . قيل : معناه هو الحامل لي على تكسيرها ، وإنما عرض لهم في القول فاسألوهم إن كانوا ينطقون . وإنما أراد بقوله هذا أن يبادروا إلى القول أن هذه لا تنطق فيعترفوا بأنها جماد كسائر الجمادات فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون . أي فعادوا على أنفسهم بالملامة فقالوا : إنكم أنتم الظالمون . أي في تركها لا حافظ لها ، ولا حارس عندها ثم نكسوا على رءوسهم . قال السدي : أي ثم رجعوا إلى الفتنة فعلى هذا يكون قوله : إنكم أنتم الظالمون . أي في عبادتها . وقال قتادة أدركت القوم حيرة سوء أي فأطرقوا ، ثم قالوا : لقد علمت ما هؤلاء ينطقون . أي لقد علمت يا إبراهيم أن هذه لا تنطق فكيف تأمرنا بسؤالها فعند ذلك قال لهم الخليل عليه السلام : أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون . كما قال : فأقبلوا إليه يزفون . قال مجاهد : يسرعون . قال أتعبدون ما تنحتون . أي كيف تعبدون أصناما أنتم تنحتونها من الخشب والحجارة ، وتصورونها وتشكلونها كما تريدون والله خلقكم وما تعملون ؟ وسواء كانت ما مصدرية أو بمعنى الذي فمقتضى الكلام أنكم مخلوقون وهذه الأصنام مخلوقة ، فكيف يعبد مخلوق مخلوقا مثله فإنه ليس عبادتكم لها بأولى من عبادتها لكم ، وهذا باطل فالآخر باطل للتحكم ؛ إذ ليست العبادة تصلح ولا تجب إلا للخالق وحده لا شريك له .