الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            هجرة الخليل إلى بلاد الشام ودخوله الديار المصرية

            وذلك أن إبراهيم ومن معه من أصحابه المؤمنين أجمعوا على فراق قومهم ، فخرج إبراهيم مهاجرا إلى ربه عز وجل ، وخرج معه لوط مهاجرا ، وسارة زوجته . حتى قدم مصر قال الله تعالى : فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين [ العنكبوت : 26 - 27 ] . وقال تعالى : ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين [ الأنبياء : 71 - 73 ] . لما هجر قومه في الله ، وهاجر من بين أظهرهم ، وكانت امرأته عاقرا لا يولد لها ، ولم يكن له من الولد أحد ، بل معه ابن أخيه لوط بن هاران بن آزر وهبه الله تعالى بعد ذلك الأولاد الصالحين ، وجعل في ذريته النبوة والكتاب ، فكل نبي بعث بعده فهو من ذريته ، وكل كتاب نزل من السماء على نبي من الأنبياء من بعده فعلى أحد نسله وعقبه خلعة من الله وكرامة له حين ترك بلاده وأهله وأقرباءه ، وهاجر إلى بلد يتمكن فيها من عبادة ربه عز وجل ودعوة الخلق إليه ، والأرض التي قصدها بالهجرة أرض الشام ، وهي التي قال الله عز وجل : إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين . قاله أبي بن كعب ، وأبو العالية ، وقتادة ، وغيرهم .

            وروى العوفي ، عن ابن عباس قوله : إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين . مكة ألم تسمع إلى قوله : إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين [ آل عمران : 96 ] . وزعم كعب الأحبار أنها حران . وقد قدمنا عن نقل أهل الكتاب أنه خرج من أرض بابل هو وابن أخيه لوط ، وأخوه ناحور ، وامرأة إبراهيم سارة ، وامرأة أخيه ملكا ، فنزلوا حران فمات تارخ أبو إبراهيم بها .

            وقال السدي : انطلق إبراهيم ولوط قبل الشام فلقي إبراهيم سارة ، وهي ابنة ملك حران ، وقد طعنت على قومها في دينهم فتزوجها على أن لا يغيرها . رواه ابن جرير ، وهو غريب ، والمشهور أنها ابنة عمه هاران الذي تنسب إليه حران ، ومن زعم أنها ابنة أخيه هاران أخت لوط ، كما حكاه السهيلي ، عن القتبي ، والنقاش فقد أبعد النجعة ، وقال بلا علم ، وادعى أن تزويج بنت الأخ كان إذ ذاك مشروعا فليس له على ذلك دليل . ولو فرض أن هذا كان مشروعا في وقت ، كما هو منقول عن الربانيين من اليهود ، فإن الأنبياء لا تتعاطاه ، والله أعلم . ثم المشهور أن إبراهيم عليه السلام لما هاجر من بابل خرج بسارة مهاجرا من بلاده ، كما تقدم ، والله أعلم . وذكر أهل الكتاب أنه لما قدم الشام أوحى الله إليه إني جاعل هذه الأرض لخلفك من بعدك فابتنى إبراهيم مذبحا لله شكرا على هذه النعمة ، وضرب قبته شرقي بيت المقدس ، ثم انطلق مرتحلا إلى اليمن ، وأنه كان جوع أي قحط وشدة ، وغلاء فارتحلوا إلى مصر

            قصة سارة مع ملك مصر

            وذكروا قصة سارة مع ملكها ، وأن إبراهيم قال لها قولي : أنا أخته . وذكروا إخدام الملك إياها هاجر ، ثم أخرجهم منها فرجعوا إلى بلاد التيمن يعني أرض بيت المقدس ، وما والاها ومعه دواب وعبيد وأموال .

            وقد قال البخاري بسنده عن أبي هريرة قال : لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ، ثنتان منهن في ذات الله قوله : إني سقيم وقوله : بل فعله كبيرهم هذا . وقال : بينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبار من الجبابرة ، فقيل له : هاهنا رجل معه امرأة من أحسن الناس . فأرسل إليه فسأله عنها . فقال : من هذه ؟ قال : أختي . فأتى سارة فقال : يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك ، وإن هذا سألني فأخبرته أنك أختي فلا تكذبيني . فأرسل إليها ، فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده فأخذ ، فقال : ادعي الله لي ، ولا أضرك . فدعت الله فأطلق ، ثم تناولها الثانية ، فأخذ مثلها أو أشد ، فقال : ادعي الله لي ، ولا أضرك . فدعت فأطلق فدعا بعض حجبته ، فقال : إنك لم تأتني بإنسان ، وإنما أتيتني بشيطان فأخدمها هاجر . فأتته وهو قائم يصلي فأومأ بيده ؛ مهيم ؟ فقالت : رد الله كيد الكافر أو الفاجر في نحره ، وأخدم هاجر . قال أبو هريرة : فتلك أمكم يا بني ماء السماء . تفرد به من هذا الوجه موقوفا . وقال الإمام أحمد بسنده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ؛ قوله حين دعي إلى آلهتهم فقال : إني سقيم . وقوله : بل فعله كبيرهم هذا . وقوله لسارة : إنها أختي . قال : ودخل إبراهيم قرية فيها ملك من الملوك أو جبار من الجبابرة فقيل : دخل إبراهيم الليلة بامرأة من أحسن الناس . قال : فأرسل إليه الملك أو الجبار من هذه معك ؟ قال : أختي . قال : فأرسل بها . قال : فأرسل بها إليه . وقال : لا تكذبي قولي ، فإني قد أخبرته أنك أختي ، إن على الأرض مؤمن غيري وغيرك ، فلما دخلت عليه قام إليها فأقبلت توضأ وتصلي ، وتقول : اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك ، وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط علي الكافر . قال : فغط حتى ركض برجله . وعن أبي هريرة أنها قالت : اللهم إن يمت يقل : هي قتلته . قال : فأرسل . قال : ثم قام إليها . قال : فقامت توضأ وتصلي ، وتقول : اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك ، وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط علي الكافر . قال : فغط حتى ركض برجله . قال أبو الزناد ، وقال أبو سلمة ، عن أبي هريرة أنها قالت : اللهم إن يمت يقل هي قتلته . قال : فأرسل . قال : فقال في الثالثة أو الرابعة : ما أرسلتم إلي إلا شيطانا أرجعوها إلى إبراهيم ، وأعطوها هاجر . قال : فرجعت فقالت لإبراهيم : أشعرت ؟ إن الله رد كيد الكافر وأخدم وليدة . تفرد به أحمد من هذا الوجه ، وهو على شرط الصحيح ، وكان إبراهيم عليه السلام من وقت ذهب بها إلى الملك قام يصلي لله عز وجل ويسأله أن يدفع عن أهله ، وأن يرد بأس هذا الذي أراد أهله بسوء ، وهكذا فعلت هي أيضا كلما أراد عدو الله أن ينال منها أمرا قامت إلى وضوئها وصلاتها ، ودعت الله عز وجل بما تقدم من الدعاء العظيم ؛ ولهذا قال تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة . فعصمها الله وصانها لعصمة عبده ورسوله وحبيبه وخليله إبراهيم عليه السلام .



            نبوة النساء

            وقد ذهب بعض العلماء إلى نبوة ثلاث نسوة ؛ سارة ، وأم موسى ، ومريم عليهن السلام والذي عليه الجمهور أنهن صديقات رضي الله عنهن وأرضاهن ورأيت في بعض الآثار أن الله عز وجل كشف الحجاب فيما بين إبراهيم عليه السلام ، وبينها فلم يزل يراها منذ خرجت من عنده إلى أن رجعت إليه ، وكان مشاهدا لها وهي عند الملك ، وكيف عصمها الله منه ؛ ليكون ذلك أطيب لقلبه وأقر لعينه وأشد لطمأنينته ، فإنه كان يحبها حبا شديدا لدينها ، وقرابتها منه وحسنها الباهر ، فإنه قد قيل : إنه لم تكن امرأة بعد حواء إلى زمانها أحسن منها رضي الله عنها ، ولله الحمد والمنة .

            وذكر بعض أهل التواريخ : أن فرعون مصر هذا كان أخا للضحاك الملك المشهور بالظلم ، وكان عاملا لأخيه على مصر . ويقال : كان اسمه سنان بن علوان بن عبيد بن عوج بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح ، وذكر ابن هشام في التيجان أن الذي أرادها عمرو بن امرئ القيس بن بايلبون بن سبأ ، وكان على مصر نقله السهيلي فالله أعلم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية