وكان أهل مدين كفارا يقطعون السبيل ، ويخيفون المارة ، ويعبدون الأيكة ، وهي شجرة من الأيك حولها غيضة ملتفة بها ، وكانوا من أسوء الناس معاملة يبخسون المكيال والميزان ، ويطففون فيهما يأخذون بالزائد ، ويدفعون بالناقص وكان الله وسع عليهم في الرزق وبسط لهم في العيش استدراجا لهم منه مع كفرهم بالله ، فبعث الله فيهم رجلا منهم ، وهو رسول الله شعيب عليه السلام قال العلماء: بعثه الله تعالى إلى مدين ، وهو ابن عشرين سنة ، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، ونهاهم عن تعاطي هذه الأفاعيل القبيحة من بخس الناس أشياءهم ، وإخافتهم لهم في سبلهم وطرقاتهم ، فآمن به بعضهم ، وكفر أكثرهم حتى أحل الله بهم البأس الشديد ، وهو الولي الحميد كما قال تعالى : وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم . أي دلالة وحجة واضحة ، وبرهان قاطع على صدق ما جئتكم به . وأنه أرسلني ، وهو ما أجرى الله على يديه من المعجزات التي لم تنقل إلينا تفصيلا ، وإن كان هذا اللفظ قد دل عليها إجمالا .
فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها . أمرهم بالعدل ، ونهاهم عن الظلم ، وتوعدهم على خلاف ذلك فقال : ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين ولا تقعدوا بكل صراط . أي طريق توعدون أي تتوعدون الناس بأخذ أموالهم من مكوس وغير ذلك ، وتخيفون السبل قال السدي في تفسيره عن الصحابة : ولا تقعدوا بكل صراط توعدون . أنهم كانوا يأخذون العشور من أموال المارة . وقال إسحاق بن بشر ، عن جويبر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : كانوا قوما طغاة بغاة يجلسون على الطريق يبخسون الناس يعني يعشرونهم ، وكانوا أول من سن ذلك وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا . فنهاهم عن قطع الطريق الحسية الدنيوية والمعنوية الدينية واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين . ذكرهم بنعمة الله تعالى عليهم في تكثيرهم بعد القلة ، وحذرهم نقمة الله بهم إن خالفوا ما أرشدهم إليه ودلهم عليه ، كما قال لهم في القصة الأخرى : ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط . أي لا تركبوا ما أنتم عليه وتستمروا فيه ، فيمحق الله بركة ما في أيديكم ويفقركم ، ويذهب ما به يغنيكم ، وهذا مضاف إلى عذاب الآخرة ، ومن جمع له هذا وهذا فقد باء بالصفقة الخاسرة ، فنهاهم أولا عن تعاطي ما لا يليق من التطفيف ، وحذرهم سلب نعمة الله عليهم في دنياهم ، وعذابه الأليم في أخراهم ، وعنفهم أشد تعنيف ، ثم قال لهم آمرا بعدما كان عن ضده زاجرا : ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ . قال ابن عباس ، والحسن البصري : بقية الله خير لكم . أي رزق الله خير لكم من أخذ أموال الناس بالتطفيف ، وقال ابن جرير : ما فضل لكم من الربح بعد وفاء الكيل ، والميزان خير لكم من أخذ أموال الناس بالتطفيف . قال : وقد روي هذا عن ابن عباس ، وهذا الذي قاله وحكاه حسن ، وهو شبيه بقوله تعالى : قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث [ المائدة : 100 ] . يعني أن القليل من الحلال خير لكم من الكثير من الحرام فإن ، والحرام ممحوق وإن كثر ، كما قال تعالى : الحلال مبارك وإن قل يمحق الله الربا ويربي الصدقات [ البقرة : 276 ] . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : . رواه أحمد أي إلى قلة ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الربا وإن كثر فإن مصيره إلى قل . البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا ، وبينا بورك لهما في بيعهما ، وإن كتما ، وكذبا محقت بركة بيعهما
والمقصود أن الربح الحلال مبارك فيه وإن قل ، والحرام لا يجدي وإن كثر ؛ ولهذا قال نبي الله شعيب : بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين . وقوله : وما أنا عليكم بحفيظ . أي افعلوا ما آمركم به ابتغاء وجه الله ، ورجاء ثوابه لا لأراكم أنا وغيري