الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            باب ذكر أمم أهلكوا بعامة

            وذلك قبل نزول التوراة ; بدليل قوله تعالى ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى [ القصص : 43 ] . الآية عن أبي سعيد الخدري ، قال ما أهلك الله قوما بعذاب من السماء أو من الأرض ، بعد ما أنزلت التوراة على وجه الأرض ، غير القرية التي مسخوا قردة ; ألم تر أن الله تعالى يقول ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى ورفعه البزار في رواية له ، والأشبه ، والله أعلم ، وقفه ، فدل على أن كل أمة أهلكت بعامة ، قبل موسى عليه السلام .

            فمنهم : أصحاب الرس ، قال الله تعالى ، في سورة " الفرقان " وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبيرا [ الفرقان : 38 ، 39 ] . وقال تعالى ، في سورة " ق " كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود وعاد وفرعون وإخوان لوط وأصحاب الأيكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد [ ق : 12 - 14 ] . وهذا السياق والذي قبله يدل على أنهم أهلكوا ، ودمروا ، وتبروا ، وهو الهلاك . وهذا يرد اختيار ابن جرير ; من أنهم أصحاب الأخدود ، الذين ذكروا في سورة " البروج " ; لأن أولئك عند ابن إسحاق وجماعة ، كانوا بعد المسيح ، عليه السلام . ، وفيه نظر أيضا . وروى ابن جرير قال : قال ابن عباس : أصحاب الرس أهل قرية من قرى ثمود .

            وقد ذكر الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر في أول " تاريخه " ، عند ذكر بناء دمشق عن " تاريخ " أبي القاسم عبيد الله بن عبد الله بن خرداذبة ، وغيره ، أن أصحاب الرس كانوا بحضور ، فبعث الله إليهم نبيا يقال له : حنظلة بن صفوان . فكذبوه وقتلوه ، فسار عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح ، بولده من الرس ، فنزل الأحقاف ، وأهلك الله أصحاب الرس ، وانتشروا في اليمن كلها ، وفشوا مع ذلك في الأرض كلها ، حتى نزل جيرون بن سعد بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح دمشق وبنى مدينتها ، وسماها جيرون وهي إرم ذات العماد ، وليس أعمدة الحجارة في موضع أكثر منها بدمشق ، فبعث الله هود بن عبد الله بن رباح بن خالد بن الخلود بن عاد إلى عاد - يعني أولاد عاد - بالأحقاف ، فكذبوه ، وأهلكهم الله عز وجل . فهذا يقتضي أن أصحاب الرس قبل عاد بدهور متطاولة . فالله أعلم .

            وعن ابن عباس ، قال : الرس بئر بأذربيجان . وعن عكرمة ، قال : الرس بئر رسوا فيها نبيهم . أي ; دفنوه فيها . وقال ابن جريج قال عكرمة : أصحاب الرس بفلج ، وهم أصحاب ياسين . وقال قتادة : فلج من قرى اليمامة . قلت : فإن كانوا أصحاب ياسين ، كما زعمه عكرمة ، فقد أهلكوا بعامة ، قال الله تعالى في قصتهم إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون [ يس : 29 ] . وستأتي قصتهم بعد هؤلاء . وإن كانوا غيرهم وهو الظاهر فقد أهلكوا أيضا وتبروا . وعلى كل تقدير فينافي ما ذكره ابن جرير

            وقد ذكر أبو بكر محمد بن الحسن النقاش ، أن أصحاب الرس كانت لهم بئر ترويهم ، وتكفي أرضهم جميعها ، وكان لهم ملك عادل حسن السيرة ، فلما مات وجدوا عليه وجدا عظيما ، فلما كان بعد أيام تصور لهم الشيطان في صورته ، وقال : إني لم أمت ، ولكن تغيبت عنكم حتى أرى صنيعكم . ففرحوا أشد الفرح ، وأمر بضرب حجاب بينهم وبينه ، وأخبرهم أنه لا يموت أبدا ، فصدق به أكثرهم ، وافتتنوا به ، وعبدوه ، فبعث الله فيهم نبيا ، وأخبرهم أن هذا شيطان يخاطبهم من وراء الحجاب ، ونهاهم عن عبادته ، وأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له . قال السهيلي : وكان يوحى إليه في النوم ، وكان اسمه حنظلة بن صفوان ، فعدوا عليه فقتلوه ، وألقوه في البئر ، فغار ماؤها ، وعطشوا بعد ريهم ويبست أشجارهم ، وانقطعت ثمارهم ، وخربت ديارهم ، وتبدلوا بعد الأنس بالوحشة ، وبعد الاجتماع بالفرقة ، وهلكوا عن آخرهم ، وسكن في مساكنهم الجن والوحوش ، فلا يسمع ببقاعهم إلا عزيف الجن ، وزئير الأسد ، وصوت الضباع .

            وعن ابن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أول الناس يدخل الجنة يوم القيامة العبد الأسود; وذلك أن الله تعالى بعث نبيا إلى أهل قرية ، فلم يؤمن به من أهلها إلا ذلك الأسود ، ثم إن أهل القرية عدوا على النبي ، فحفروا له بئرا ، فألقوه فيها ، ثم أطبقوا عليه بحجر أصم قال : فكان ذلك العبد يذهب فيحتطب على ظهره ، ثم يأتي بحطبه فيبيعه ، ويشتري به طعاما وشرابا ، ثم يأتي به إلى ذلك البئر ، فيرفع تلك الصخرة ، ويعينه الله عليها ، ويدلي إليه طعامه وشرابه ، ثم يردها كما كانت . قال : فكان كذلك ما شاء الله أن يكون ، ثم إنه ذهب يوما يحتطب ، كما كان يصنع ، فجمع حطبه وحزم حزمته وفرغ منها ، فلما أراد أن يحتملها ، وجد سنة ، فاضطجع ينام ، فضرب الله على أذنه سبع سنين نائما ، ثم إنه هب ، فتمطى وتحول لشقه الآخر فاضطجع ، فضرب الله على أذنه سبع سنين أخرى ، ثم إنه هب ، واحتمل حزمته ، ولا يحسب أنه نام إلا ساعة من نهار ، فجاء إلى القرية ، فباع حزمته ، ثم اشترى طعاما وشرابا ، كما كان يصنع ، ثم إنه ذهب إلى الحفرة ، إلى موضعها الذي كانت فيه ، فالتمسه فلم يجده ، وقد كان بدا لقومه فيه بداء ، فاستخرجوه ، وآمنوا به وصدقوه . قال : فكان نبيهم يسألهم عن ذلك الأسود : ما فعل؟ فيقولون له : ما ندري . حتى قبض الله النبي ، عليه السلام ، وأهب الأسود من نومه بعد ذلك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن ذلك الأسود لأول من يدخل الجنة .

            ثم قد رده ابن جرير نفسه ، وقال : لا يجوز أن يحمل هؤلاء على أنهم أصحاب الرس المذكورون في القرآن . قال : لأن الله أخبر عن أصحاب الرس أنه أهلكهم ، وهؤلاء قد بدا لهم فآمنوا بنبيهم ، اللهم إلا أن يكون حدثت لهم أحداث ، آمنوا بالنبي بعد هلاك آبائهم . والله أعلم . ثم اختار أنهم أصحاب الأخدود ، وهو ضعيف; لما تقدم ولما ذكر في قصة أصحاب الأخدود ، حيث توعدوا بالعذاب في الآخرة إن لم يتوبوا ، ولم يذكر هلاكهم ، وقد صرح بهلاك أصحاب الرس . فالله أعلم .

            وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: " ما صدق نبي ما صدقت ، إن من الأنبياء من لم يصدقه من أمته إلا الرجل الواحد " . فمن الأنبياء أصحاب الرس .

            قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كان أصحاب الرس يعبدون شجرة ، فبعث الله تعالى إليهم نبيا من ولد يهوذا بن يعقوب ، فحفروا له بئرا وألقوه فيها فهلكوا .

            وقال سعيد بن جبير : كان لهم نبي يقال له: " حنظلة بن صفوان " قتلوه فأهلكهم الله .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية