الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            قصة قوم يس وهم أصحاب القرية

            قال الله تعالى واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون وما علينا إلا البلاغ المبين قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم قالوا طائركم معكم أإن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال ياقوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون إني إذا لفي ضلال مبين إني آمنت بربكم فاسمعون قيل ادخل الجنة قال ياليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون [ يس : 13 - 29 ] . اشتهر عن كثير من السلف والخلف أن هذه القرية أنطاكية .

            قال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس ، وكعب ، ووهب أنهم قالوا : وكان لها ملك اسمه أنطيخس بن أنطيحس ، وكان يعبد الأصنام ، فبعث الله إليه ثلاثة من الرسل ; وهم صادق ، وصدوق ، وشلوم ، فكذبهم .

            وعن شعيب الجبائي : كان اسم الرسولين الأولين : شمعون ويوحنا ، واسم الثالث بولس ، والقرية أنطاكية . وهذا القول ضعيف جدا ; لأن أهل أنطاكية لما بعث إليهم المسيح ثلاثة من الحواريين ، كانوا أول مدينة آمنت بالمسيح في ذلك الوقت ، ولهذا كانت إحدى المدن الأربع التي يكون فيها بطارقة النصارى ; وهن أنطاكية والقدس وإسكندرية ، ورومية . ثم بعدها إلى القسطنطينية ولم يهلكوا ، وأهل هذه القرية المذكورة في القرآن أهلكوا ، كما قال في آخر قصتها بعد قتلهم صديق المرسلين واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون لكن إن كانت الرسل الثلاثة المذكورون في القرآن ، بعثوا إلى أهل أنطاكية قديما ، فكذبوهم وأهلكهم الله ثم عمرت بعد ذلك ، فلما كان في زمن المسيح آمنوا برسله إليهم ، فلا يمنع هذا . والله أعلم .

            قال الله تعالى واضرب لهم مثلا يعني : لقومك يا محمد أصحاب القرية يعني المدينة إذ جاءها المرسلون إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث أي ; أيدناهما بثالث في الرسالة فقالوا إنا إليكم مرسلون فردوا عليهم بأنهم بشر مثلهم ، كما قالت الأمم الكافرة لرسلهم ، يستبعدون أن يبعث الله نبيا بشريا ، فأجابوهم بأن الله يعلم أنا رسله إليكم ، ولو كنا كذبنا عليه لعاقبنا وانتقم منا أشد الانتقام وما علينا إلا البلاغ المبين أي; إنما علينا ، أي نبلغكم ما أرسلنا به إليكم ، والله هو الذي يهدي من يشاء ، ويضل من يشاء قالوا إنا تطيرنا بكم أي ; تشاءمنا بما جئتمونا به لئن لم تنتهوا لنرجمنكم قيل بالمقال . وقيل بالفعال . ويؤيد الأول قوله وليمسنكم منا عذاب أليم توعدوهم بالقتل والإهانة . قالوا طائركم معكم أي ; مردود عليكم أإن ذكرتم أي ; بسبب أنا ذكرناكم بالهدى ودعوناكم إليه ، توعدتمونا بالقتل والإهانة بل أنتم قوم مسرفون أي ; لا تقبلون الحق ، ولا تريدونه .

            وقوله تعالى وجاء من أقصا المدينة رجل يسعى يعني : لنصرة الرسل ، وإظهار الإيمان بهم قال يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون أي ; يدعونكم إلى الحق المحض ، بلا أجرة ولا جعالة . ثم دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، ونهاهم عن عبادة ما سواه ، مما لا ينفع شيئا لا في الدنيا ولا في الآخرة إني إذا لفي ضلال مبين أي ; إن تركت عبادة الله وعبدت سواه . ثم قال مخاطبا للرسل إني آمنت بربكم فاسمعون قيل : فاستمعوا مقالتي ، واشهدوا لي بها عند ربكم . وقيل : معناه فاسمعوا يا قومي إيماني برسل الله جهرة . فعند ذلك قتلوه . قيل : رجما . وقيل : عضا . وقيل : وثبوا إليه وثبة رجل واحد فقتلوه . وحكى ابن إسحاق عن بعض أصحابه ، عن ابن مسعود قال : وطئوه بأرجلهم حتى أخرجوا قصبه .

            وعن أبي مجلز : كان اسم هذا الرجل حبيب بن مرى . ثم قيل : كان نجارا . وقيل : حبالا . وقيل : إسكافا . وقيل : قصارا . وقيل : كان يتعبد في غار هناك . فالله أعلم . وعن ابن عباس : كان حبيب النجار قد أسرع فيه الجذام ، وكان كثير الصدقة ، قتله قومه . ولهذا قال تعالى ادخل الجنة يعني : لما قتله قومه أدخله الله الجنة ، فلما رأى ما فيها من النضرة والسرور قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين يعني : ليؤمنوا بما آمنت به ، فيحصل لهم ما حصل لي . قال ابن عباس : نصح قومه في حياته يا قوم اتبعوا المرسلين وبعد مماته يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين رواه ابن أبي حاتم . وكذلك قال قتادة : لا تلقى المؤمن إلا ناصحا ، لا تلقاه غاشا ، لما عاين ما عاين من كرامة الله قال : يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين تمنى على الله أن يعلم قومه بما عاين من كرامة الله وما هجم عليه . قال قتادة فلا والله ، ما عاتب الله قومه بعد قتله إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون .

            وقوله تعالى وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين أي ; ما احتجنا في الانتقام منهم إلى إنزال جند من السماء عليهم .

            وقال مجاهد وقتادة : وما أنزل عليهم جندا ، أي رسالة أخرى . قال ابن جرير : والأول أولى . قلت : وأقوى . ولهذا قال وما كنا منزلين أي ; وما كنا نحتاج في الانتقام إلى هذا ، حين كذبوا رسلنا وقتلوا ولينا إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون .

            قال المفسرون : بعث الله إليهم جبريل ، عليه السلام ، فأخذ بعضادتي الباب الذي لبلدهم ، ثم صاح بهم صيحة واحدة فإذا هم خامدون أي ; قد أخمدت أصواتهم ، وسكنت حركاتهم ، ولم يبق منهم عين تطرف . وهذا كله مما يدل على أن هذه القرية ليست أنطاكية ; لأن هؤلاء أهلكوا بتكذيبهم رسل الله إليهم ، وأهل أنطاكية آمنوا ، واتبعوا رسل المسيح من الحواريين إليهم ; فلهذا قيل : إن أنطاكية أول مدينة آمنت بالمسيح .

            وقيل : ومما كان من الأحداث أيام ملوك الطوائف

            إرسال الله تعالى الرسل الثلاثة إلى مدينة أنطاكية ، وكانوا من الحواريين أصحاب المسيح ، وأرسل أولا اثنين ، وقد اختلف في أسمائهما ، فقدما أنطاكية فرأيا عندها شيخا يرعى غنما ، وهو حبيب النجار ، فسلما عليه ، فقال : من أنتما ؟ قالا : رسولا عيسى ندعوكم إلى عبادة الله تعالى . قال : معكما آية ؟ قالا : نعم ، نحن نشفي المرضى ونبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله . قال حبيب إن لي ابنا مريضا منذ سنين ، وأتى بهما منزله ، فمسحا ابنه ، فقام في الوقت صحيحا ، ففشا الخبر في المدينة ، وشفى الله على أيديهما كثيرا من المرضى ، وكان لهم ملك اسمه أنطيخس يعبد الأصنام ، فبلغ إليه خبرهما ، فدعاهما ، فقال : من أنتما ؟ قالا : رسل عيسى ندعوك إلى الله تعالى . قال : فما آيتكما ؟ قالا : نبرئ الأكمه والأبرص ونشفي المرضى بإذن الله . فقال : قوما حتى ننظر في أمركما ، فقاما ، فضربهما العامة .

            وقيل : إنهما قدما المدينة فبقيا مدة لا يصلان إلى الملك ، فخرج الملك يوما ، فكبرا وذكرا الله ، فغضب وحبسهما وجلد كل واحد منهما مائة جلدة ، فلما كذبا وضربا بعث المسيح شمعون رأس الحواريين لينصرهما ، فدخل البلد متنكرا وعاشر حاشية الملك ، فرفعوا خبره إلى الملك ، فأحضره ورضي عشرته وأنس به وأكرمه ، فقال له يوما : أيها الملك بلغني أنك حبست رجلين في السجن وضربتهما حين دعواك إلى دينهما فهل كلمتهما وسمعت قولهما ؟ فقال الملك : حال الغضب بيني وبين ذلك . قال : فإن رأى الملك أن يحضرهما حتى نسمع كلامهما ، فدعاهما الملك ، فقال لهما شمعون : من أرسلكما ؟ قالا : الله الذي خلق كل شيء ولا شريك له . قال : فوصفاه وأوجزا . قالا : إنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد . قال شمعون : فما آيتكما ؟ قالا : ما تتمناه .

            فأمر الملك ، فجيء بغلام مطموس العينين موضعهما كاللحمة ، فما زالا يدعوان ربهما حتى انشق موضع البصر ، وأخذا بندقتين من الطين فوضعاهما في حدقتيه فصارتا مقلتين يبصر بهما . فعجب الملك لذلك فقال : إن قدر إلهكما الذي تعبدانه على إحياء ميت آمنا به وبكما . قالا : إن إلهنا قادر على كل شيء . فقال الملك : إن هاهنا ميتا منذ سبعة أيام فلم ندفنه حتى يرجع أبوه وهو غائب ، فأحضر الميت وقد تغيرت ريحه ، فدعوا الله تعالى علانية وشمعون يدعو سرا ، فقام الميت فقال لقومه : إني مت مشركا وأدخلت في أودية من النار وأنا أحذركم ما أنتم فيه . ثم قال : فتحت أبواب السماء فنظرت فرأيت شابا حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة . فقال الملك : ومن هم ؟ فقال : هذا ، وأومأ إلى شمعون ، وهذان ، وأشار إليهما ، فعجب الملك ، فحينئذ دعا شمعون الملك إلى دينه ، فآمن قومه ، وكان الملك فيمن آمن وكفر آخرون . وقيل : بل كفر الملك وأجمع هو وقومه على قتل الرسل ، فبلغ ذلك حبيبا النجار ، وهو على باب المدينة ، فجاء يسعى إليهم فيذكرهم ويدعوهم إلى طاعة الله وطاعة المرسلين ، فذلك قوله تعالى : ( إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث ) ، وهو شمعون ، فأضاف الله تعالى الإرسال إلى نفسه ، وإنما أرسلهم المسيح لأنه أرسلهم بإذن الله تعالى .

            فلما كذبهم أهل المدينة ، حبس الله عنهم المطر ، فقال أهلها للرسل : ( إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم ) ، فلما حضر حبيب ، وكان مؤمنا يكتم إيمانه ، وكان يجمع كسبه كل يوم وينفق على عياله نصفه ويتصدق بنصفه ، فقال : ( ياقوم اتبعوا المرسلين ) . فقال قومه : وأنت مخالف لربنا ومؤمن بإله هؤلاء ؟ فقال : ( وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون ) ، فلما قال ذلك قتلوه ، فأوجب الله له الجنة ، فذلك قوله تعالى : ( قيل ادخل الجنة قال ياليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين ) وأرسل الله عليهم صيحة فماتوا .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية