الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            كان فرعون يوسف لا يؤذي بني إسرائيل بل يحسن إليهم ، فلما مات ولي بعده فرعون من فراعنتهم فلم يؤذ بني إسرائيل ، ثم ملك فرعون موسى ، وهو الرابع من الفراعنة ، وكان أخبثهم ، وعاش ثلاثمائة سنة ، واستعبد بني إسرائيل وعذبهم .

            عن معمر بن بشر ، قال: سمعت عبد الله بن المبارك ، يقول: كان فرعون عطارا ، وكان من أهل أصبهان فأفلس وركبه دين ، فخرج يلتمس ما يقضي دينه فلم تزل ترفعه أرض وتضعه أخرى حتى دخل مصر ، ورأى عند باب المدينة وقر بطيخ بدرهم ، وفي المدينة بطيخة بدرهم .

            قال فرعون: قد صرت إلى موضع أقضي ديني وأستغني فاشترى وقرا بدرهم .

            ومضى ليدخله المدينة فتناول كل إنسان بطيخة حتى بقي معه واحدة وباعها بدرهم ، فضجر ، فقالوا له: هكذا سنتنا ، فقال: أما ها هنا أحد يعدل أو نصير؟ فقالوا: لا ها هنا ملك ، قد خلا بلذاته ، وسلط وزيره على الناس ليس ينظر في شيء ، فبسط لبدا على المقابر ، فجعل يأخذ من كل جنازة أربعة دراهم ، فصبر بذلك ما شاء الله حتى ماتت بنت الملك ، فمروا بها عليه ، فقال: هاتوا أربعة دراهم ، فقالوا: هذه بنت الملك ، فقال: هاتوا ثمانية ، فما زال وزالوا يتنازعون حتى أضعف عليهم مرات ، فلما رجعوا قالوا للملك: عمل بنا عامل الموتى كذا وكذا ، قال: ومن عامل الموتى ، فوصفوا له .

            فبعث إلى وزيره ، فدعاه فقال: أنت استعملت هذا؟ قال: لا ، فدعاه ، فقال: من استعملك ، فقص عليه القصة ، وأخبره بأمر البطيخ وأنهم قالوا له: إنه ليس ها هنا أحد يعدل ، فلما رأيت ذلك صنعت ما ترى لينتهي إليك ، فتغير وتنتبه لملكك .

            قال: فمذ كم أنت على حالك ، فقال: سنين كثيرة حتى صرت إلى الأموال الكثيرة ، فأمر بوزيره فضربت عنقه ، واستوزر فرعون فسار فيهم بسيرة حسنة وأذاقهم فيها طعم العيش؛ لما كانوا فيه قبل ، يقضي [بالحق ولو على نفسه .

            ثم] إن الملك مات ، فقالوا: من نستخلف؟ فاجتمع رأيهم فقالوا: لا نستعمل غير هذا الذي أذاقنا طعم العيش ، فملكوه على أنفسهم ، فلم يزل عليهم يموت قرن ويخلفهم آخرون ، وتراخى به السن وطال ملكه حتى ادعى ما علمتم . تاريخ وجود بني إسرائيل في مصر وقال ابن عباس ، وغيره ، دخل حديث بعضهم في بعض : إن الله تعالى لما قبض يوسف وهلك الملك الذي كان معه وتوارثت الفراعنة ملك مصر ونشر الله بني إسرائيل لم يزل بنو إسرائيل تحت يد الفراعنة وهم على بقايا من دينهم مما كان يوسف ، ويعقوب ، وإسحاق ، وإبراهيم شرعوا فيهم من الإسلام حتى كان فرعون موسى ، وكان أعتاهم على الله وأعظمهم قولا وأطولهم عمرا ، واسمه فيما ذكر الوليد بن مصعب ، وكان سيئ الملكة على بني إسرائيل يعذبهم ويجعلهم خولا ويسومهم سوء العذاب . قال تعالى إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا أي ; تجبر وعتا ، وطغى وبغى ، وآثر الحياة الدنيا وأعرض عن طاعة الرب الأعلى . وجعل أهلها شيعا أي قسم رعيته إلى أقسام وفرق وأنواع يستضعف طائفة منهم وهم شعب بني إسرائيل ، الذين هم من سلالة نبي الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الله . وكانوا إذ ذاك خيار أهل الأرض ، وقد سلط الله عليهم هذا الملك الظالم الغاشم الكافر الفاجر ، يستعبدهم ويستخدمهم في أخس الصنائع والحرف ، وأردئها ، وأدناها ، ومع هذا يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين وكان الحامل له على هذا الصنيع القبيح ، أن بني إسرائيل كانوا يتدارسون فيما بينهم ما كانوا يأثرونه عن إبراهيم الخليل ، عليه السلام ، من أنه سيخرج من ذريته غلام يكون هلاك ملك مصر على يديه ، وذلك ، والله أعلم ، حين جرى على سارة امرأة الخليل من ملك مصر ، من إرادته إياها على السوء ، وعصمة الله لها . وكانت هذه البشارة مشهورة في بني إسرائيل ، فتحدث بها القبط فيما بينهم ، ووصلت إلى فرعون في مجلس مسامرته مع أمرائه وأساورته وهم يسمرون عنده ، فأمر عند ذلك بقتل أبناء بني إسرائيل ; حذرا من وجود هذا الغلام ، ولن يغني حذر من قدر .

            وقيل : بل تذاكر فرعون وجلساؤه معا ما وعد الله - عز وجل - إبراهيم أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكا ، فقال بعضهم : إن بني إسرائيل لينتظرون ذلك ، وقد كانوا يظنونه يوسف بن يعقوب ، فلما هلك قالوا : ليس هكذا وعد الله إبراهيم . فقال فرعون : كيف ترون ؟ فأجمعوا على أن يبعث رجالا يقتلون كل مولود في بني إسرائيل ، وقال للقبط : انظروا مماليككم الذين يعملون خارجا فأدخلوهم واجعلوا بني إسرائيل يلون ذلك ، فجعل بني إسرائيل في أعمال غلمانهم ، فذلك حين يقول الله - عز وجل - : إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ، فجعل لا يولد لبني إسرائيل مولود إلا ذبح وكان يأمر بتعذيب الحبالى حتى يضعن ، فكان يشق القصب ويوقف المرأة عليه فيقطع أقدامهن ، وكانت المرأة تضع فتتقي بولدها القصب ، وقذف الله الموت في مشيخة بني إسرائيل وعن ابن مسعود ، وعن أناس من الصحابة أن فرعون رأى في منامه كأن نارا قد أقبلت من نحو بيت المقدس فأحرقت دور مصر وجميع القبط ، ولم تضر بني إسرائيل ، فلما استيقظ هاله ذلك فجمع الكهنة والحزاة والسحرة وسألهم عن ذلك ، فقال له الكهنة : هذا غلام يولد من بني إسرائيل ، يكون سبب هلاك أهل مصر على يديه . فلهذا أمر بقتل الغلمان وترك النسوان . ولهذا قال الله تعالى : ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض وهم بنو إسرائيل ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين أي ; الذين يئول ملك مصر وبلادها إليهم ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون أي ; سنجعل الضعيف قويا ، والمقهور قاهرا ، والذليل عزيزا . وقد جرى هذا كله لبني إسرائيل ; كما قال تعالى : وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا [ الأعراف : 137 ] وقال تعالى : فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم كذلك وأورثناها بني إسرائيل [ الشعراء 57 - 59 ] .

            والمقصود أن فرعون احترز كل الاحتراز أن لا يوجد موسى ، حتى جعل رجالا وقوابل يدورون على الحبالى ، ويعلمون ميقات وضعهن ، فلا تلد امرأة ذكرا إلا ذبحه أولئك الذباحون من ساعته . وعند أهل الكتاب أنه إنما كان يأمر بذبح الغلمان لتضعف شوكة بني إسرائيل ، فلا يقاومونهم إذا غالبوهم أو قاتلوهم . وفي هذا نظر ، بل هو باطل ، وإنما وقع هذا بعد بعثة موسى فجعل يقتل الولدان ، كما قال تعالى : فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم [ غافر : 5 ] . ولهذا قالت بنو إسرائيل لموسى : أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا [ الأعراف : 129 ] . فالصحيح أن فرعون إنما أمر بقتل الغلمان أولا حذرا من وجود موسى عليه السلام . هذا ، والقدر يقول : يا أيها الملك الجبار ، المغرور بكثرة جنوده ، وسلطة بأسه واتساع سلطانه ، قد حكم العظيم الذي لا يغالب ولا يمانع ، ولا تخالف أقداره أن هذا المولود الذي تحترز منه ، وقد قتلت بسببه من النفوس ما لا يعد ولا يحصى ، لا يكون مرباه إلا في دارك وعلى فراشك ، ولا يغذى إلا بطعامك وشرابك في منزلك ، وأنت الذي تتبناه وتربيه وتتعداه ، ولا تطلع على سر معناه ، ثم يكون هلاكك في دنياك وأخراك على يديه ; لمخالفتك ما جاءك به من الحق المبين ، وتكذيبك ما أوحي إليه ، لتعلم أنت وسائر الخلق أن رب السماوات والأرض هو الفعال لما يريد ، وأنه هو القوي الشديد ، ذو البأس العظيم ، والحول والقوة والمشيئة ، التي لا مرد لها .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية