وقام فرعون منهزما حتى دخل البيت ، فقال لموسى: اجعل بيننا وبينك أجلا ننظر فيه ، فقال له موسى: لم أومر بذلك وأنا أمرت بمناجزتك ، وإن أنت لم تخرج إلي دخلت إليك .
فأوحى الله عز وجل إلى موسى: أن اجعل بينك وبينه أجلا ، واجعل ذلك إليه ، قال فرعون: أجعله إلى أربعين يوما ، ففعل . وكان فرعون لا يأتي الخلاء إلا في أربعين يوما مرة ، فاختلف ذلك اليوم أربعين مرة . وكان هذا من أكبر مقاصد موسى ، عليه السلام; أن يظهر آيات الله وحججه وبراهينه جهرة بحضرة الناس ولهذا قال : موعدكم يوم الزينة وكان يوم عيد من أعيادهم ، ومجتمع لهم وأن يحشر الناس ضحى أي; من أول النهار ، في وقت اشتداد ضياء الشمس ، فيكون الحق أظهر وأجلى . ولم يطلب أن يكون ذلك ليلا في ظلام ، كيما يروج عليهم محالا وباطلا ، بل طلب أن يكون نهارا جهرة لأنه على بصيرة من ربه ، ويقين أن الله سيظهر كلمته ودينه وإن رغمت أنوف القبط .
قال الله تعالى : فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى [ طه : 60 - 64 ] . يخبر تعالى عن فرعون أنه ذهب ، فجمع من كان ببلاده من السحرة ، وكانت بلاد مصر في ذلك الزمان مملوءة سحرة ، فضلاء ، في فنهم غاية فجمعوا له من كل بلد ، ومن كل مكان ، عدد السحرة الذين جمعهم فرعون فاجتمع منهم خلق كثير وجم غفير . فقيل : كانوا ثمانين ألفا . قاله محمد بن كعب . وقيل : سبعين ألفا . قاله القاسم بن أبي بزة وقال السدي : بضعة وثلاثين ألفا . وعن أبي أمامة : تسعة عشر ألفا . وقال محمد بن إسحاق : خمسة عشر ألفا . وقال كعب الأحبار : كانوا اثني عشر ألفا . وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس : كانوا سبعين رجلا . وروى عنه أيضا أنهم كانوا أربعين غلاما من بني إسرائيل أمرهم فرعون أن يذهبوا إلى العرفاء ، فيتعلموا السحر . ولهذا قالوا : وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى وفي هذا نظر .
قال وهب: بعث إلى السحرة [فجمعهم] وقال: قد جاءنا ساحر ما رأينا مثله قط ، فإن غلبتموه أكرمكم . وكان يرأس السحرة ساتور ، وعازور ، وحطحط ، ومصفى ، وهم الذين آمنوا لما رأوا سلطان الله فتبعتهم السحرة في الإيمان .
وفي عدد السحرة أقوال كثيرة مذكورة في التفسير وحضر فرعون وأمراؤه وأهل دولته وأهل بلده عن بكرة أبيهم; وذلك أن فرعون نادى فيهم أن يحضروا هذا الموقف العظيم ، فخرجوا وهم يقولون : لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين [ الشعراء : 40 ] . وعظ موسى للسحرة ونهيهم عن تعاطي السحر وتقدم موسى عليه السلام إلى السحرة ، فوعظهم وزجرهم عن تعاطي السحر الباطل ، الذي فيه معارضة لآيات الله وحججه ، فقال : ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى فتنازعوا أمرهم بينهم قيل : معناه أنهم اختلفوا فيما بينهم; فقائل يقول : هذا كلام نبي وليس بساحر . وقائل منهم يقول : بل هو ساحر . فالله أعلم . وأسروا التناجي بهذا وغيره قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما يقولون : إن هذا وأخاه هارون ساحران ، عليمان ، مطبقان متقنان لهذه الصناعة ، ومرادهم أن يجتمع الناس عليهما ، ويصولا على الملك وحاشيته ، ويستأصلاكم عن آخركم ، ويستأمرا عليكم بهذه الصناعة فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى وإنما قالوا الكلام الأول ليتدبروا ويتواصوا ، ويأتوا بجميع ما عندهم من المكيدة والمكر والخديعة والسحر والبهتان . وهيهات ، كذبت والله الظنون وأخطأت الآراء ، أنى يعارض البهتان والسحر والهذيان خوارق العادات ، التي أجراها الديان على يدي عبده الكليم ورسوله الكريم ، المؤيد بالبرهان الذي يبهر الأبصار ، وتحار فيه العقول والأذهان . وقولهم : فأجمعوا كيدكم أي; جميع ما عندكم ، ثم ائتوا صفا أي; جملة واحدة . ثم حض بعضهم بعضا على التقدم في هذا المقام; لأن فرعون كان قد وعدهم ومناهم ، وما يعدهم الشيطان إلا غرورا .
قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى [ طه : 65 - 69 ] . لما اصطف السحرة ووقف موسى وهارون ، عليهما السلام ، تجاههم ، قالوا له : إما أن تلقي قبلنا ، وإما أن نلقي قبلك . قال : بل ألقوا أنتم . وكانوا قد عمدوا إلى حبال وعصي فأودعوها الزئبق وغيره من الآلات التي تضطرب بسببها تلك الحبال والعصي اضطرابا يخيل للرائي أنها تسعى باختيارها ، وإنما تتحرك بسبب ذلك ، فعند ذلك سحروا أعين الناس واسترهبوهم ، وألقوا حبالهم وعصيهم وهم يقولون : بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون [ الشعراء : 44 ] . قال الله تعالى : فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم [ الأعراف : 116 ] . وقال تعالى : فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة موسى أي; خاف على الناس أن يفتتنوا بسحرهم ومحالهم قبل أن يلقي ما في يده ، فإنه لا يضع شيئا قبل أن يؤمر ، فأوحى الله إليه في الساعة الراهنة : لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى فعند ذلك ألقى موسى عصاه وقال : ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون [ يونس : 81 ، 82 ] . وقال تعالى : فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون [ الشعراء : 45 ] . وذلك أن موسى عليه السلام ، لما تقدم وألقاها صارت حية عظيمة ذات قوائم - فيما ذكره غير واحد من علماء السلف - وعنق عظيم ، وشكل هائل مزعج ، بحيث إن الناس انحازوا منها ، وهربوا سراعا ، وتأخروا عن مكانها وأقبلت هي على ما ألقوه من الحبال والعصي ، فجعلت تلقفه واحدا واحدا ، في أسرع ما يكون من الحركة ، والناس ينظرون إليها ، ويتعجبون منها .