الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            قصة بقرة بني إسرائيل

            قال الله تعالى : وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون وإذ قتلتم نفسا فادارءتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون [ البقرة : 67 - 73 ] .

            قال ابن عباس ، وعبيدة السلماني ، وأبو العالية ، ومجاهد ، والسدي ، وغير واحد من السلف : كان رجل في بني إسرائيل كثير المال ، وكان شيخا كبيرا وله بنو أخ ، وكانوا يتمنون موته; ليرثوه ، فعمد أحدهم فقتله في الليل ، وطرحه في مجمع الطرق ، ويقال : على باب رجل منهم . فلما أصبح الناس اختصموا فيه ، وجاء ابن أخيه ، فجعل يصرخ ويتظلم ، فقالوا : ما لكم تختصمون ولا تأتون نبي الله ، فجاء ابن أخيه فشكى أمر عمه إلى رسول الله موسى ، عليه السلام ، فقال موسى ، عليه السلام : أنشد الله رجلا عنده علم من أمر هذا القتيل إلا أعلمنا به . فلم يكن عند أحد منهم علم ، وسألوه أن يسأل في هذه القضية ربه ، عز وجل ، فسأل ربه ، عز وجل ، في ذلك فأمره الله أن يأمرهم بذبح بقرة ، فقال : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا يعنون; نحن نسألك عن أمر هذا القتيل ، وأنت تقول هذا . قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين أي; أعوذ بالله أن أقول عنه غير ما أوحى إلي . وهذا هو الذي أجابني حين سألته عما سألتموني عنه أن أسأله فيه . قال ابن عباس وغير واحد : فلو أنهم عمدوا إلى أي بقرة فذبحوها لحصل المقصود منها ، ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم . وقد ورد فيه حديث مرفوع ، وفي إسناده ضعف ، فسألوا عن صفتها ، ثم عن لونها ثم عن سنها فأجيبوا بما عز وجوده عليهم .

            والمقصود أنهم أمروا بذبح بقرة عوان; وهي الوسط بين النصف الفارض ، وهي الكبيرة ، والبكر ، وهي الصغيرة . قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وأبو العالية ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، وجماعة . ثم شددوا ، وضيقوا على أنفسهم ، فسألوا عن لونها ، فأمروا بصفراء فاقع لونها ، أي مشرب بحمرة ، تسر الناظرين ، وهذا اللون عزيز . ثم شددوا أيضا فقالوا : ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون ففي الحديث المرفوع ، الذي رواه ابن أبي حاتم ، وابن مردويه : لولا أن بني إسرائيل استثنوا لما أعطوا وفي صحته نظر والله أعلم . قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون وهذه الصفات أضيق مما تقدم ، حيث أمروا بذبح بقرة ، ليست بالذلول ، وهي المذللة بالحراثة وسقي الأرض بالسانية ، مسلمة; وهي الصحيحة التي لا عيب فيها . قاله أبو العالية ، وقتادة . وقوله : لا شية فيها أي ليس فيها لون يخالف لونها بل هي مسلمة من العيوب ومن مخالطة سائر الألوان غير لونها ، فلما حددها بهذه الصفات ، وحصرها بهذه النعوت والأوصاف ، قالوا الآن جئت بالحق ويقال : إنهم لم يجدوا هذه البقرة بهذه الصفة إلا عند رجل منهم ، كان بارا بأبيه ، فطلبوها منه ، فأبى عليهم ، فأرغبوه في ثمنها ، حتى - أعطوه فيما ذكر السدي - بوزنها ذهبا ، فأبى عليهم حتى أعطوه بوزنها عشر مرات ، فباعها منهم ، فأمرهم نبي الله موسى بذبحها ، فذبحوها وما كادوا يفعلون أي; وهم يترددون في أمرها . ثم أمرهم عن الله أن يضربوا ذلك القتيل ببعضها ، قيل : بلحم فخذها . وقيل : بالعظم الذي يلي الغضروف . وقيل : بالبضعة التي بين الكتفين ، فلما ضربوه ببعضها أحياه الله تعالى فقام وهو تشخب أوداجه ، فسأله نبي الله : من قتلك؟ قال قتلني ابن أخي . ثم عاد ميتا كما كان ، قال الله تعالى : كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون أي; كما شاهدتم إحياء هذا القتيل ، عن أمر الله له ، كذلك أمره في سائر الموتى ، إذا شاء إحياءهم أحياهم في ساعة واحدة ، كما قال : ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة الآية [ لقمان : 28 ] . رواية أخرى في قصة بقرة بني إسرائيل وفي رواية أخرى عن السدي عن أشياخه ، قال: كان رجل من بني إسرائيل مكثرا من المال ، وكانت له بنت ، وكان له ابن أخ محتاج ، فخاطب إليه ابن أخيه ابنته ، فأبى أن يزوجه ، فغضب الصبي ، وقال: والله لأقتلن عمي ، ولآخذن ماله ، ولأنكحن ابنته ، ولآكلن ديته .

            فأتاه الفتى فقال له: يا عم ، قد قدم تجار في بعض أسباط بني إسرائيل ، فانطلق معي فخذ لي من تجارة هؤلاء القوم لعلي أصيب فيها فإنهم إذا رأوك معي أعطوني .

            فخرج العم مع الفتى ليلا ، فلما بلغ ذلك السبط قتله الفتى ، ثم رجع إلى أهله ، فلما أصبح جاء كأنه يطلب عمه لا يدري أين هو ، وإذا هو بذلك السبط مجتمعين عليه ، فأخذهم ، وقال: قتلتم عمي فأدوا إلي ديته ، وجعل يبكي ويحثو التراب على رأسه ، وينادي: واعماه .

            قال أبو العالية: وأتى القاتل إلى موسى ، فقال: إن قريبي قتل ولا أجد من يبين لي من قتله غيرك . فنادى موسى في الناس: أنشدكم الله ، من كان عنده من هذا القتيل علم إلا بينه لنا ، فلم يكن عندهم علم ، فأقبل القاتل على موسى وقال: أنت نبي الله فأسأل الله أن يبين لنا ، فسأل ربه فأمره بذبح البقرة .



            وعن عبد الصمد بن معقل ، أنه سمع وهبا يقول:

            إن فتى من بني إسرائيل كان برا بوالدته ، وكان يقوم ثلث الليل يصلي ، ويجلس عند رأس والدته ثلث الليل ، فيذكرها التسبيح والتكبير والتهليل والتحميد ، ويقول: يا أماه إن كنت ضعفت عن قيام الليل فكبري الله وسبحيه وهلليه ، وكان ذلك عملهما الدهر كله ، فإذا أصبح أتى الجبل فاحتطب على ظهره ، فيأتي به السوق فيبيعه بما شاء الله أن يبيعه ، فيتصدق بثلثه ، ويبقي لعبادته ثلثا ، ويعطي الثلث أمه ، فكانت أمه تأكل النصف وتتصدق بالنصف ، فكان ذلك عملهما الدهر .

            فلما طال ذلك عليهما ، قالت: يا بني اعلم أني ورثت من أبيك بقرة وختمت عنقها ، وتركتها في البقر على اسم الله إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، وسأبين لك ما لونها وهيئتها ، فادعها باسم إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ، وإن علامتها أنها ليست بهرمة ولا فتية غير أنها بينهما ، وهي صفراء فاقع لونها تسر الناظرين ، إذا نظرت إلى جلدها خيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها ، وليست بالذلول ، لونها واحد ، فإذا رأيتها فخذ عنقها فأزلها تتبعك بإذن إله إسرائيل .

            فانطلق الفتى وحفظ وصية والدته ، وسار في البرية يومين أو ثلاثة ، ثم صاح بها ، وقال: بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب إلا ما أتيتيني ، فأقبلت البقرة إليه وتركت الرعي وقامت بين يدي الفتى . فأخذ بعنقها ، فتكلمت البقرة وقالت: يا أيها الفتى البر بوالدته اركبني ، فقال الفتى: لم تأمرني والدتي أن أركب عليك ، ولكنها أمرتني أن أسوقك ، فأحب أن أتبع قولها ، قالت: وإله إسرائيل لو ركبتني ما كنت لتقدر علي ، فانطلق أيها الفتى البر بوالدته ، فإنك لو أمرت هذا الجبل أن ينقلع من أصله لاقتلع لبرك بوالدتك وطاعتك إلهك .



            فانطلق فطار طائر من بين يديه فاختلس البقرة ، فدعاها بإله إبراهيم فأقبلت وقالت: إن الطائر إبليس اختلسني ، فلما ناديتني جاء ملك من الملائكة فانتزعني منه فردني إليك لبرك بوالدتك وطاعتك إلهك .

            فدخل الفتى إلى أمه فأخبرها بالخبر ، فقالت: يا بني إني أراك تحتطب على ظهرك فاذهب بهذه البقرة فبعها وخذ ثمنها وتقو به فقال: بكم أبيعها؟ قالت: بثلاثة دنانير على رضى مني .

            فانطلق إلى السوق فبعث الله ملكا من الملائكة فقال للفتى: بكم تبيعها؟ قال: بثلاثة دنانير على رضى من والدتي ، قال: لك ستة دنانير ولا تستأمر والدتك ، قال: لو أعطيتني زنتها لن أبيعها حتى أستأمرها . فخرج الفتى فأخبر والدته الخبر فقالت: بعها بستة دنانير على رضى مني .

            فانطلق ، فأتاه الملك وقال: ما فعلت؟ فقال: أبيعها بستة دنانير على رضى من والدتي ، فقال: فخذ اثني عشر دينارا ولا تستأمرها ، قال: لا .

            فانطلق إلى أمه ، فقالت: يا بني إن الذي يأتيك ملك من الملائكة في صورة آدمي ، فإذا أتاك فقل له: إن والدتي تقرأ عليك السلام وتقول: بكم تأمرني أن أبيع هذه البقرة؟ فقال له الملك: أيها الفتى يشتري بقرتك هذه موسى بن عمران لقتيل يقتل في بني إسرائيل ، فاشتروها منه على أن يملئوا له جلدها دنانير ، فعمدوا إلى جلدها فملئوه دنانير ، ثم دفعوه إلى الفتى . فعمد الفتى فتصدق بالثلثين على الفقراء من بني إسرائيل ، وتقوى بالثلث .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية