الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            قصة قارون مع موسى عليه السلام وسلبه كل مكنون ومخزون قال الأعمش بسنده عن ابن عباس ، قال : كان قارون ابن عم موسى . وكذا قال إبراهيم النخعي ، وعبد الله بن الحارث بن نوفل ، وسماك بن حرب ، وقتادة ، ومالك بن دينار ، وابن جريج ، وزاد فقال : هو قارون بن يصهر بن قاهث ، وموسى بن عمران بن قاهث . قال ابن جريج : وهذا قول أكثر أهل العلم أنه كان ابن عم موسى . ورد قول ابن إسحاق إنه كان عم موسى . قال قتادة : وكان يسمى المنور; لحسن صوته بالتوراة ولكن عدو الله نافق ، كما نافق السامري ، فأهلكه البغي لكثرة ماله . وقال شهر بن حوشب : زاد في ثيابه شبرا طولا; ترفعا على قومه . وقد ذكر الله تعالى كثرة كنوزه; حتى إن مفاتيحه كان يثقل حملها على الفئام من الرجال الشداد ، وقد قيل : إنها كانت من الجلود ، وإنها كانت تحمل على ستين بغلا . فالله أعلم . وقد وعظه النصحاء من قومه; قائلين : لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين أي; لا تبطر بما أعطيت ، وتفخر على غيرك . وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة يقولون : لتكن همتك مصروفة لتحصيل ثواب الله في الدار الآخرة ، فإنه خير وأبقى ، ومع هذا ولا تنس نصيبك من الدنيا أي; وتناول منها بمالك ما أحل الله لك ، فتمتع لنفسك بالملاذ الطيبة الحلال ، وأحسن كما أحسن الله إليك أي; وأحسن إلى خلق الله كما أحسن الله خالقهم وبارئهم إليك ، ولا تبغ الفساد في الأرض أي; ولا تسئ إليهم ، ولا تفسد فيهم فتقابلهم ضد ما أمرت فيهم ، فيعاقبك ويسلبك ما وهبك ، إن الله لا يحب المفسدين فما كان جوابه قومه لهذه النصيحة الصحيحة الفصيحة ، إلا أن قال إنما أوتيته على علم عندي يعني : أنا لا أحتاج إلى استعمال ما ذكرتم ، ولا إلى ما إليه أشرتم; فإن الله إنما أعطاني هذا لعلمه أني أستحقه ، وأني أهل له ، ولولا أني حبيب إليه ، وحظي عنده ، لما أعطاني ما أعطاني . قال الله تعالى ردا عليه ما ذهب إليه : أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون أي; قد أهلكنا من الأمم الماضين بذنوبهم وخطاياهم من هو أشد من قارون قوة وأكثر أموالا وأولادا ، فلو كان ما قال صحيحا لم نعاقب أحدا ممن كان أكثر مالا منه ، ولم يكن ماله دليلا على محبتنا له ، واعتنائنا به ، كما قال تعالى : وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا [ سبأ : 37 ] . وقال تعالى : أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون [ المؤمنون : 55 ، 56 ] . وهذا الرد عليه يدل على صحة ما ذهبنا إليه من معنى قوله : إنما أوتيته على علم عندي .

            وأما من زعم أن المراد من ذلك ، أنه كان يعرف صنعة الكيمياء ، أو أنه كان يحفظ الاسم الأعظم ، فاستعمله في جمع الأموال ، فليس بصحيح; لأن الكيمياء تخييل وصبغة لا تحيل الحقائق ، ولا تشابه صنعة الخالق ، والاسم الأعظم لا يصعد الدعاء به من كافر به ، وقارون كان كافرا في الباطن ، منافقا في الظاهر ، ثم لا يصح جوابه لهم بهذا على هذا التقدير ، ولا يبقى بين الكلامين تلازم ، .

            قال الله تعالى : فخرج على قومه في زينته ذكر كثير من المفسرين أنه خرج في تجمل عظيم; من ملابس ، ومراكب ، وخدم ، وحشم. وقد حمل معه ثلاثمائة جارية على مثل برذونه وأربعة آلاف من أصحابه ، وبنى داره ، وضرب عليها صفائح الذهب ، وعمل لها بابا من ذهب ، فتمنى أهل الغفلة والجهل مثل ما له ، فنهاهم أهل العلم بالله .

            وأمره الله تعالى بالزكاة ، فجاء إلى موسى من كل ألف دينار دينار ، وعلى هذا من كل ألف شيء شيء ، فلما عاد إلى بيته وجده كثيرا ، فجمع نفرا يثق بهم من بني إسرائيل فقال : إن موسى أمركم بكل شيء فأطعتموه ، وهو الآن يريد أخذ أموالكم . فقالوا : أنت كبيرنا وسيدنا ، فمرنا بما شئت . فقال : آمركم أن تحضروا فلانة البغي فتجعلوا لها جعلا فتقذفه بنفسها ، ففعلوا ذلك ، فأجابتهم إليه .

            ثم أتى موسى ، فقال : إن قومك قد اجتمعوا لك لتأمرهم وتنهاهم . فخرج إليهم ، فقال : من سرق قطعناه ، ومن افترى جلدناه ، ومن زنى وليس له امرأة جلدناه مائة جلدة ، وإن كانت له امرأة رجمناه حتى يموت . فقال له قارون : وإن كنت أنت ؟ فقال : نعم . قال : فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة . فقال ادعوها فإن قالت فهو كما قالت .

            فلما جاءت قال لها موسى : أقسمت عليك بالذي أنزل التوراة إلا صدقت : أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء ؟ قالت : لا ، كذبوا ، ولكن جعلوا لي جعلا على أن أقذفك . فسجد ودعا عليهم ، فأوحى الله إليه : مر الأرض بما شئت تطعك . فقال : يا أرض خذيهم .

            وقيل : إن هذا الأمر بلغ موسى ، فدعا الله تعالى عليه ، فأوحى الله إليه : مر الأرض بما شئت تطعك . فجاء موسى إلى قارون ، خسف الأرض بقارون فلما دخل عليه عرف الشر في وجهه ، فقال له : يا موسى ارحمني . فقال موسى : يا أرض خذيهم . فاضطربت داره وساخت بقارون ، وأصحابه إلى الكعبين ، وجعل يقول : يا موسى ارحمني . قال يا أرض خذيهم ، فأخذتهم إلى ركبهم . فلم يزل يستعطفه وهو يقول : يا أرض خذيهم ، حتى خسف بهم ، فأوحى الله إلى موسى : ما أفظك ! أما وعزتي لو إياي نادى لأجبته ، ولا أعيد الأرض تطيع أحدا أبدا بعدك ، فهو يخسف به كل يوم ، فلما أنزل الله نقمته حمد المؤمنون الله ، وعرف الذين تمنوا مكانه بالأمس خطأ أنفسهم واستغفروا ، وتابوا . لما ذكر تعالى خروجه في زينته ، واختياله فيها ، وفخره على قومه بها ، قال : فخسفنا به وبداره الأرض كما روى البخاري من حديث الزهري ، عن سالم ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : بينا رجل يجر إزاره ، إذ خسف به ، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة . وقد روي عن قتادة أنه قال : يخسف بهم كل يوم قامة ، إلى يوم القيامة . وعن ابن عباس أنه قال : خسف بهم إلى الأرض السابعة . وقد ذكر كثير من المفسرين هاهنا إسرائيليات كثيرة ، أضربنا عنها صفحا وتركناها قصدا .

            وقوله تعالى : فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين لم يكن له ناصر من نفسه ، ولا من غيره ، كما قال : فما له من قوة ولا ناصر [ الطارق : 10 ] . ولما حل به ما حل من الخسف ، وذهاب الأموال ، وخراب الدار ، وهلاك النفس والأهل والعقار ، ندم من كان تمنى مثل ما أوتي ، وشكروا الله تعالى الذي يدبر عباده بما يشاء من حسن التدبير المخزون ، ولهذا قالوا : لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون ، وقد قال قتادة : ويكأن بمعنى ألم تر أن . وهذا قول حسن من حيث المعنى . والله أعلم . ثم أخبر تعالى تلك الدار الآخرة وهي دار القرار . وهي الدار التي يغبط من أعطيها ، ويعزى من حرمها ، إنما هي معدة للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا . فالعلو هو التكبر والفخر والأشر والبطر . والفساد هو عمل المعاصي اللازمة والمتعدية; من أخذ أموال الناس ، وإفساد معايشهم ، والإساءة إليهم ، وعدم النصح لهم ، ثم قال تعالى : والعاقبة للمتقين .

            وقصة قارون هذه ، قد تكون قبل خروجهم من مصر; لقوله : فخسفنا به وبداره الأرض فإن الدار ظاهرة في البنيان ، وقد تكون بعد ذلك في التيه ، وتكون الدار عبارة عن المحلة التي تضرب فيها الخيام .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية