الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ذكر فضائل موسى عليه السلام وشمائله وصفاته ووفاته

            قال الله تعالى : واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا [ مريم : 51 - 53 ] . ذكره بالرسالة والنبوة والإخلاص والتكليم والتقريب ، ومن عليه بأن جعل أخاه هارون نبيا وقال تعالى : قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي [ الأعراف : 144 ] . وتقدم في " الصحيحين " ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : لا تفضلوني على موسى ، فإن الناس يصعقون يوم القيامة ، فأكون أول من يفيق ، فأجد موسى باطشا بقائمة العرش ، فلا أدري أصعق فأفاق قبلي ، أم جوزي بصعقة الطور . وقدمنا أن هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب الهضم والتواضع ، وإلا فهو صلوات الله وسلامه ، عليه خاتم الأنبياء ، وسيد ولد آدم في الدنيا والآخرة قطعا جزما لا يحتمل النقيض . وقال تعالى : إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط إلى أن قال : ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما [ النساء : 163 ، 164 ] . وقال تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها [ الأحزاب : 69 ] . قال بعض السلف : كان من وجاهته أنه شفع في أخيه عند الله ، وطلب منه أن يكون معه وزيرا ، فأجابه الله إلى سؤاله ، وأعطاه طلبته ، وجعله نبيا; كما قال : ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا ثم قال البخاري عن الأعمش ، سألت أبا وائل ، قال : سمعت عبد الله قال : قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسما ، فقال رجل : إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله . فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فغضب حتى رأيت الغضب في وجهه ، ثم قال يرحم الله موسى ، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر مرور النبي صلى الله عليه وسلم بقبر موسى عليه السلام وقد ثبت في " الصحيح " في أحاديث الإسراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بموسى ، وهو قائم يصلي في قبره . ورواه مسلم عن أنس .

            وفي " الصحيحين " من رواية قتادة ، عن أنس عن مالك بن صعصعة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه مر ليلة أسري به ، بموسى في السماء السادسة ، فقال له جبريل : هذا موسى فسلم عليه . قال : فسلمت عليه . فقال : مرحبا بالنبي الصالح ، والأخ الصالح . فلما تجاوزت بكى; قيل له : ما يبكيك؟ قال : أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي وذكر إبراهيم في السماء السابعة . وهذا هو المحفوظ ، وما وقع في حديث شريك بن أبي نمر ، عن أنس ، من أن إبراهيم في السادسة ، وموسى في السابعة ، بتفضيل كلام الله فقد ذكر غير واحد من الحفاظ ، أن الذي عليه الجادة ، أن موسى في السادسة ، وإبراهيم في السابعة ، وأنه مسند ظهره إلى البيت المعمور الذي يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة ، ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم . واتفقت الروايات كلها على أن الله تعالى لما فرض على محمد صلى الله عليه وسلم ، وأمته ، خمسين صلاة في اليوم والليلة ، فمر بموسى ، قال : " ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ، فإني قد عالجت بني إسرائيل قبلك أشد المعالجة ، وإن أمتك أضعف أسماعا ، وأبصارا ، وأفئدة " فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله ، عز وجل ، ويخفف عنه في كل مرة ، حتى صارت خمس صلوات في اليوم والليلة . وقال الله تعالى : هي خمس ، وهي خمسون أي; بالمضاعفة فجزى الله عنا محمدا صلى الله عليه وسلم خيرا ، وجزى الله عنا موسى ، عليه السلام ، خيرا .

            وقال البخاري بسنده عن ابن عباس ، قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما ، فقال : عرضت علي الأمم ، ورأيت سوادا كثيرا سد الأفق ، فقيل : هذا موسى في قومه ذكر موسى في القرآن وقد ذكر الله تعالى موسى ، عليه السلام ، في القرآن كثيرا ، وأثنى عليه ، وأورد قصته في كتابه العزيز مرارا ، وكررها كثيرا ، مطولة ، ومبسوطة ، ومختصرة ، وأثنى عليه بليغا . وكثيرا ما يقرنه الله ، ويذكره ، ويذكر كتابه مع محمد صلى الله عليه وسلم ، وكتابه كما قال في سورة " البقرة " : ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون [ البقرة : 110 ] . وقال تعالى : الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام [ آل عمران : 1 - 4 ] . وقال تعالى في سورة " الأنعام " : وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون [ الأنعام : 91 ، 92 ] . فأثنى تعالى على التوراة ، ثم مدح القرآن العظيم مدحا عظيما ، وقال تعالى في آخرها : ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون [ الأنعام : 154 ، 155 ] . وقال تعالى في سورة " المائدة " : إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [ المائدة : 44 ] . إلى أن قال : وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه [ المائدة : 47 ، 48 ] . الآية . فجعل القرآن حاكما على سائر الكتب غيره ، وجعله مصدقا لها ، ومبينا ما وقع فيها من التحريف والتبديل ، فإن أهل الكتاب استحفظوا على ما بأيديهم من الكتب ، فلم يقدروا على حفظها ، ولا على ضبطها وصونها ، فلهذا دخلها ما دخلها من تغييرهم وتبديلهم; لسوء فهومهم ، وقصورهم في علومهم ، ورداءة قصودهم ، وخيانتهم لمعبودهم ، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة ، ولهذا يوجد في كتبهم من الخطأ البين على الله وعلى رسله ، ما لا يحد ولا يوصف ، وما لا يوجد مثله ولا يعرف . وقال تعالى في سورة " الأنبياء " : ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون [ الأنبياء : 48 - 50 ] . وقال الله تعالى في سورة " القصص " : فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين [ القصص : 48 ، 49 ] . فأثنى الله على الكتابين ، وعلى الرسولين ، عليهما السلام ، وقالت الجن لقومهم : إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه [ الأحقاف : 30 ] . وقال ورقة بن نوفل لما قص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خبر ما رأى من أول الوحي ، وتلا عليه : اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم [ العلق : 1 - 5 ] . قال سبوح سبوح ، هذا الناموس الذي أنزل على موسى بن عمران .

            وبالجملة فشريعة موسى ، عليه السلام ، كانت عظيمة ، وأمته كانت أمة كثيرة ، ووجد فيها أنبياء ، وعلماء ، وعباد ، وزهاد ، وألباء ، وملوك ، وأمراء ، وسادات ، وكبراء ، لكنهم كانوا فبادوا وتبدلوا ، كما بدلت شريعتهم ، ومسخوا قردة وخنازير ، ثم نسخت بعد كل حساب ملتهم ، وجرت عليهم خطوب وأمور يطول ذكرها.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية