الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            يوشع بن نون ، عليه السلام وفتح مدينة الجبارين

            أمر الله تعالى موسى ، عليه السلام ، أن يكتب أسماء المقاتلة من بني إسرائيل ، ممن يحمل السلاح ويقاتل ، ممن بلغ عشرين سنة فصاعدا ، وأن يجعل على كل سبط نقيبا منهم; السبط الأول سبط روبيل; لأنه بكر يعقوب ، كان عدة المقاتلة منهم ستة وأربعين ألفا وخمسمائة ، ونقيبهم منهم ، وهو أليصور بن شديئورا ، السبط الثاني سبط شمعون ، وكانوا تسعة وخمسين ألفا وثلاثمائة ، ونقيبهم شلوميئيل بن هوريشداي ، السبط الثالث سبط يهوذا ، وكانوا أربعة وسبعين ألفا وستمائة ، ونقيبهم نحشون بن عميناداب ، السبط الرابع سبط إيساخر ، وكانوا أربعة وخمسين ألفا وأربعمائة ، ونقيبهم نشائيل بن صوغر ، السبط الخامس سبط يوسف ، عليه السلام ، وكانوا أربعين ألفا وخمسمائة ، ونقيبهم يوشع بن نون ، السبط السادس سبط ميشا ، وكانوا أحدا وثلاثين ألفا ومائتين ، ونقيبهم جمليئيل بن فدهصور . السبط السابع سبط بنيامين ، وكانوا خمسة وثلاثين ألفا وأربعمائة ، ونقيبهم أبيدن بن جدعون ، السبط الثامن سبط جاد ، وكانوا خمسة وأربعين ألفا وستمائة وخمسين رجلا ، ونقيبهم الياساف بن رعوئيل ، السبط التاسع سبط أشير ، وكانوا أحدا وأربعين ألفا وخمسمائة ، ونقيبهم فجعيئيل بن عكرن ، السبط العاشر سبط دان ، وكانوا اثنين وستين ألفا وسبعمائة ، ونقيبهم أخيعزر بن عميشداي ، السبط الحادي عشر سبط نفتالي ، وكانوا ثلاثة وخمسين ألفا وأربعمائة ، ونقيبهم أخيرع بن عين ، السبط الثاني عشر سبط زبولون ، وكانوا سبعة وخمسين ألفا وأربعمائة ، ونقيبهم ألباب بن حيلون . هذا نص كتابهم الذي بأيديهم . والله أعلم . وليس منهم بنو لاوي ، فأمر الله موسى أن لا يعدهم معهم; لأنهم موكلون بحمل قبة الشهادة ، وخزنها ونصبها إذا ارتحلوا وهم سبط موسى وهارون ، عليهما السلام ، وكانوا اثنين وعشرين ألفا من ابن شهر فما فوق ، ذلك وهم في أنفسهم قبائل ، إلى كل قبيلة طائفة من قبة الزمان يحرسونها ، ويحفظونها ، ويقومون بمصالحها ، ونصبها ، وحملها ، وهم كلهم حولها ينزلون ويرتحلون أمامها ويمينها وشمالها ووراءها .

            وجملة ما ذكر من المقاتلة ، غير بني لاوي ، خمسمائة ألف وأحد وسبعون ألفا وستمائة وستة وخمسون ، لكن قالوا : فكان عدد بني إسرائيل ممن عمره عشرون سنة فما فوق ذلك ممن حمل السلاح ، ستمائة ألف وثلاثة آلاف وخمسمائة وخمسين رجلا ، سوى بني لاوي وفي هذا نظر; فإن جميع الجمل المتقدمة ، إن كانت كما وجدنا في كتابهم لا تطابق الجملة التي ذكروها . والله أعلم . فكان بنو لاوي الموكلون بحفظ قبة الزمان ، يسيرون في وسط بني إسرائيل ، وهم القلب ، ورأس الميمنة بنو روبيل ، ورأس الميسرة بنو ران ، وبنو نفتالي يكونون ساقة ، وقرر موسى ، عليه السلام ، بأمر الله تعالى له ، الكهانة في بني هارون ، كما كانت لأبيهم من قبلهم ، وهم : ناداب ، وهو بكره ، وأبيهو ، والعازر ، ويثمر .

            والمقصود أن بني إسرائيل لم يبق منهم أحد ممن كان نكل عن دخول مدينة الجبارين ، الذين قالوا : فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون [ المائدة : 24 ] . قاله الثوري ، عن أبي سعيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس . وقاله قتادة ، وعكرمة ، ورواه السدي ، عن ابن عباس ، وابن مسعود ، وناس من الصحابة ، حتى قال ابن عباس ، وغيره من علماء السلف والخلف : ومات موسى ، وهارون قبله ، كلاهما في التيه جميعا . وقد زعم ابن إسحاق أن الذي فتح بيت المقدس هو موسى ، وإنما كان يوشع على مقدمته لكن لعله لما أراد موسى دخول بيت المقدس ، أول مقدمه من الديار المصرية ، ولعله مراد ابن إسحاق ، ولكنه ما فهمه بعض الناقلين عنه . وقد قدمنا عن نص التوراة ما يشهد لبعض هذا . والله أعلم . ولعل هذه قصة أخرى كانت في خلال سيرهم في التيه ، فإن في هذا السياق ذكر حسبان ، وهي بعيدة عن أرض بيت المقدس ، أو لعله كان هذا لجيش موسى الذين عليهم يوشع بن نون ، حين خرج بهم من التيه قاصدا بيت المقدس ، كما صرح به السدي . والله أعلم .

            وفاة هارون بالتيه وعلى كل تقدير ، فالذي عليه الجمهور ، أن هارون توفي بالتيه قبل موسى أخيه بنحو من سنتين . وبعده موسى في التيه أيضا ، كما قدمنا ، وأنه سأل ربه أن يقرب إلى بيت المقدس ، فأجيب إلى ذلك ، فكان الذي خرج بهم من التيه ، وقصد بهم بيت المقدس ، هو يوشع بن نون ، عليه السلام ، فذكر أهل الكتاب ، وغيرهم من أهل التاريخ ، أنه قطع ببني إسرائيل نهر الأردن ، وانتهى إلى أريحا ، وكانت من أحصن المدائن سورا ، وأعلاها قصورا ، وأكثرها أهلا ، فحاصرها ستة أشهر ، ثم إنهم أحاطوا بها يوما ، وضربوا بالقرون ، يعني الأبواق ، وكبروا تكبيرة رجل واحد ، فتفسخ سورها ، وسقط وجبة واحدة ، فدخلوها ، وأخذوا ما وجدوا فيها من الغنائم ، وقتلوا اثني عشر ألفا من الرجال والنساء ، وحاربوا ملوكا كثيرة ، ويقال : إن يوشع ظهر على أحد وثلاثين ملكا من ملوك الشام . وذكروا أنه انتهى محاصرته لها إلى يوم جمعة بعد العصر ، فلما غربت الشمس ، أو كادت تغرب ، ويدخل عليهم السبت الذي جعل عليهم ، وشرع لهم ذلك الزمان ، قال لها : إنك مأمورة وأنا مأمور ، اللهم احبسها علي . فحبسها الله عليه ، حتى تمكن من فتح البلد ، وأمر القمر فوقف عند الطلوع ، وهذا يقتضي أن هذه الليلة كانت الليلة الرابعة عشرة من الشهر . والأول ، وهو قصة الشمس المذكورة في الحديث الذي سأذكره . وأما قصة القمر ، فمن عند أهل الكتاب ، ولا ينافي الحديث ، بل فيه زيادة تستفاد ، فلا تصدق ولا تكذب ، ولكن ذكرهم أن هذا في فتح أريحا فيه نظر ، والأشبه ، والله أعلم ، أن هذا كان في فتح بيت المقدس ، الذي هو المقصود الأعظم ، وفتح أريحا كان وسيلة إليه . والله أعلم .

            قال الإمام أحمد بسنده عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الشمس لم تحبس لبشر إلا ليوشع ليالي سار إلى بيت المقدس . انفرد به أحمد من هذا الوجه ، وهو على شرط البخاري . وفيه دلالة على أن الذي فتح بيت المقدس هو يوشع بن نون ، عليه السلام ، لا موسى ، وأن حبس الشمس كان في فتح بيت المقدس لا أريحا ، كما قلنا وفيه أن هذا كان من خصائص يوشع ، عليه السلام ، فيدل على ضعف الحديث الذي رويناه; أن الشمس رجعت حتى صلى علي بن أبي طالب صلاة العصر ، بعد ما فاتته ، بسبب نوم النبي صلى الله عليه وسلم على ركبته ، فسأل رسول الله أن يردها عليه ، حتى يصلي العصر ، فرجعت . وقد صححه أحمد بن صالح المصري ، ولكنه منكر ، ليس في شيء من الصحاح ولا الحسان ، وهو مما تتوفر الدواعي على نقله ، وتفردت بنقله امرأة من أهل البيت مجهولة ، لا يعرف حالها . والله أعلم .

            وقال الإمام أحمد بسنده عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه : لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبن ، ولا آخر قد بنى بنيانا ولم يرفع سقفها ، ولا آخر قد اشترى غنما أو خلفات وهو ينتظر أولادها . فغزا فدنا من القرية حين صلى العصر أو قريبا من ذلك ، فقال للشمس : أنت مأمورة وأنا مأمور ، اللهم احبسها علي شيئا . فحبست عليه حتى فتح الله عليه ، فجمعوا ما غنموا فأقبلت النار لتأكله ، فأبت أن تطعمه فقال : فيكم غلول فليبايعني من كل قبيلة رجل . فبايعوه ، فلصقت يد رجل بيده ، فقال : فيكم الغلول ولتبايعني قبيلتك . فبايعته قبيلته ، فلصق بيد رجلين أو ثلاثة فقال : فيكم الغلول ، أنتم غللتم . فأخرجوا له مثل رأس بقرة من ذهب ، قال : فوضعوه بالمال وهو بالصعيد ، فأقبلت النار فأكلته ، فلم تحل الغنائم لأحد من قبلنا ، ذلك بأن الله رأى ضعفنا ، وعجزنا ، فطيبها لنا انفرد به مسلم من هذا الوجه .

            والمقصود أنه لما دخل بهم باب المدينة ، أمروا أن يدخلوها سجدا أي ركعا متواضعين شاكرين لله ، عز وجل ، على ما من به عليهم من الفتح العظيم ، الذي كان الله وعدهم إياه ، وأن يقولوا حال دخولهم : حطة . أي; حط عنا خطايانا التي سلفت من نكولنا الذي تقدم منا . ولهذا لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم فتحها دخلها وهو راكب ناقته ، وهو متواضع حامد شاكر ، حتى إن عثنونه ، وهو طرف لحيته ، ليمس مورك رحله ، مما يطأطئ رأسه خضعانا لله ، عز وجل ، ومعه الجنود والجيوش ، ممن لا يرى منه إلا الحدق لا سيما الكتيبة الخضراء ، التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم لما دخلها ، اغتسل وصلى ثماني ركعات . وهي صلاة الشكر على النصر ، على المنصور من قولي العلماء . وقيل : إنها صلاة الضحى . وما حمل هذا القائل على قوله هذا ، إلا لأنها وقعت وقت الضحى . وأما بنو إسرائيل ، فإنهم خالفوا ما أمروا به قولا وفعلا; دخلوا الباب يزحفون على أستاههم وهم يقولون : حبة في شعرة . وفي رواية : حنطة في شعرة . وحاصله : أنهم بدلوا ما أمروا به ، واستهزءوا به ، كما قال تعالى ، حاكيا عنهم في سورة " الأعراف " ، وهي مكية : وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون [ الأعراف : 161 ، 162 ] . وقال تعالى في سورة " البقرة " وهي مدنية مخاطبا لهم : وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون [ البقرة : 58 ، 59 ] . وعن ابن عباس ، وادخلوا الباب سجدا قال : ركعا من باب صغير . رواه الحاكم ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، قال مجاهد والسدي ، والضحاك : الباب هو باب حطة من بيت إيلياء ، بيت المقدس . قال ابن مسعود : فدخلوا مقنعي رؤوسهم ، ضد ما أمروا به . وهذا لا ينافي قول ابن عباس ، أنهم دخلوا يزحفون على أستاههم .، فإنهم دخلوا يزحفون وهم مقنعو رءوسهم . وقوله : وقولوا حطة الواو هنا حالية ، لا عاطفة أي ادخلوا سجدا في حال قولكم : حطة . قال ابن عباس ، وعطاء ، والحسن ، وقتادة ، والربيع : أمروا أن يستغفروا .

            قال البخاري بسنده عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : قيل لبني إسرائيل : ادخلوا الباب سجدا ، وقولوا حطة . فدخلوا يزحفون على أستاههم فبدلوا وقالوا : حطة حبة في شعرة وعن ابن مسعود قال في قوله : فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم قال : قالوا : ( هطى سمقاثا أزبة مزبا ) فهي بالعربية : حبة حنطة حمراء مثقوبة ، فيها شعرة سوداء . وقد ذكر الله تعالى أنه عاقبهم على هذه المخالفة بإرسال الرجز الذي أنزله عليهم ، وهو الطاعون ، كما ثبت في " الصحيحين " من حديث الزهري ، عن عامر بن سعد ، وعن أسامة بن زيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : إن هذا الوجع - أو السقم - رجز عذب به بعض الأمم قبلكم وقال أبو العالية : هو الغضب . وقال الشعبي : الرجز إما الطاعون ، وإما البرد . وقال سعيد بن جبير هو الطاعون .

            وزعم هشام بن محمد الكلبي: أن بقية بقيت من الكنعانيين بعد قتل يوشع من قتل منهم ، وأن إفريقيش بن قيس بن صيفي بن سبأ بن كعب مر بهم متوجها إلى إفريقية ، فاحتلها وقتل ملوكها وأسكنها البقية التي بقيت من الكنعانيين ، فهم البرابرة ، وإنما سموا بربرا لأن إفريقيش قال لهم: ما أكثر بربرتكم ، فسموا لذلك بربرا .

            فقالوا: ونهض يوشع إلى بعض الملوك فقاتله فغلبه وصلبه على خشبة وأحرق المدينة ، وقتل من أهلها اثني عشر ألفا .

            واحتال أهل بلد آخر حتى جعل لهم أمانا فظهر على باطنهم ، فدعا الله عليهم أن يكونوا حطابين وسقاءين ، فكانوا كذلك . وهرب خمسة من الملوك فاختفوا في غار ، فأمر يوشع بسد باب الغار حتى فرغ من أعدائه ، ثم أخرجهم فقتلهم وصلبهم .

            وتتبع سائر الملوك واستباح منهم واحدا وثلاثين ملكا ، وقسم الأرض التي غلب عليها . ولما استقرت يد بني إسرائيل على بيت المقدس ، استمروا فيه ، وبين أظهرهم نبي الله يوشع ، يحكم بينهم بكتاب الله التوراة ، حتى قبضه الله إليه ، وهو ابن مائة وسبع وعشرين سنة ، فكان مدة حياته بعد موسى ، سبعا وعشرين سنة . لا يعلم بقبره أحد من الخلق . وقيل دفن في جبل إفراييم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية