الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            كان العمالقة مع ملكهم جالوت قد عظمت نكايتهم في بني إسرائيل حتى كادوا يهلكونهم ، فلما رأى بنو إسرائيل ذلك قالوا : ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا . أي : وأي شيء يمنعنا من القتال وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا يقولون : نحن محروبون موتورون ، فحقيق لنا أن نقاتل عن أبنائنا المنهوبين المستضعفين فيهم ، المأسورين في قبضتهم . فدعا الله فأرسل إليه عصا وقرنا فيه دهن ، وقيل له : إن صاحبكم يكون في طوله طول هذه العصا ، وإذا دخل عليك رجل فنش الدهن الذي في القرن فهو ملك بني إسرائيل فادهن رأسه به وملكه عليهم ، فقاسوا أنفسهم بالعصا فلم يكونوا مثلها ، وكان طالوت دباغا . وقيل كان سقاء يسقي الماء ويبيعه ، فضل حماره فانطلق يطلبه ، فلما اجتاز بالمكان الذي فيه أشمويل دخل يسأله أن يدعو له ليرد الله حماره ، فلما دخل نش الدهن ، فقاسوه بالعصا فكان مثلها ، وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا ، وهو بالسريانية شاول بن قيس بن أنمار بن ضرار بن يحرف بن يفتح بن أيش بن بنيامين بن يعقوب بن إسحاق . فقالوا له : ما كنت قط أكذب منك الساعة ونحن من سبط المملكة ولم يؤت طالوت سعة من المال فنتبعه .

            فقال أشمويل : إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم . فقالوا إن كنت صادقا فأت بآية . فقال : إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة . هذا أيضا من بركة ولاية هذا الرجل الصالح عليهم ويمنه عليهم; أن يرد الله عليهم التابوت الذي كان سلب منهم ، وقهرهم الأعداء عليه ، وقد كانوا ينصرون على أعدائهم بسببه . فيه سكينة من ربكم تفسير السكينة والسكينة رأس هر ، وقيل طشت من ذهب يغسل فيها قلوب الأنبياء ، وقيل غير ذلك ، وفيه الألواح وهي من در ، وياقوت ، وزبرجد ، وأما البقية فهي عصا موسى ، ورضاضة الألواح .

            فحملته الملائكة وأتت به إلى طالوت نهارا بين السماء والأرض والناس ينظرون ليكون آية لله عليكم وحجة باهرة على صدق ما أقوله لكم ، وعلى صحة ولاية هذا الملك الصالح عليكم ، ولهذا قال : إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين وقيل : إنه لما غلب العمالقة على هذا التابوت ، وكان فيه ما ذكر من السكينة والبقية المباركة - وقيل : كان فيه التوراة أيضا - فلما استقر في أيديهم وضعوه تحت صنم لهم بأرضهم ، فلما أصبحوا إذا التابوت على رأس الصنم فوضعوه تحته ، فلما كان اليوم الثاني إذا التابوت فوق الصنم ، فلما تكرر هذا علموا أن هذا أمر من الله تعالى فأخرجوه من بلدهم ، وجعلوه في قرية من قراهم ، فأخذهم داء في رقابهم ، فلما طال عليهم هذا جعلوه في عجلة وربطوها في بقرتين وأرسلوهما ، فيقال : إن الملائكة ساقتهما حتى جاءوا بهما ملأ بني إسرائيل وهم ينظرون ، كما أخبرهم نبيهم بذلك . فالله أعلم على أي صفة جاءت به الملائكة ، والظاهر أن الملائكة كانت تحمله بأنفسهم ، كما هو المفهوم من الآية . والله أعلم . وإن كان الأول قد ذكره كثير من المفسرين أو أكثرهم . فأخرجه طالوت إليهم ، فأقروا بملكه ساخطين وخرجوا معه كارهين ، وهم ثمانون ألفا . فلما خرجوا قال لهم طالوت : إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني . وهو نهر فلسطين ، وقيل : الأردن ، فشربوا منه إلا قليلا ، وهم أربعة آلاف ، فمن شرب منه عطش ومن لم يشرب منه إلا غرفة روي ، فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه . لقيهم جالوت ، وكان ذا بأس شديد ، فلما رأوه رجع أكثرهم و قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ، ولم يبق معه غير ثلاثمائة وبضعة عشر عدد أهل بدر ، فلما رجع من رجع قالوا : كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين . وكان فيهم إيشى أبو داود ومعه من أولاده ثلاثة عشر ابنا ، وكان داود أصغر بنيه ، وقد خلفه يرعى لهم ويحمل لهم الطعام ، وكان قد قال لأبيه ذات يوم : يا أبتاه ، ما أرمي بقذافتي شيئا إلا صرعته . ثم قال له : لقد دخلت بين الجبال فوجدت أسدا رابضا فركبت عليه وأخذت بأذنيه فلم أخفه ، ثم أتاه يوما آخر فقال : إني لأمشي بين الجبال فأسبح فلا يبقى جبل إلا سبح معي . فقال له : أبشر ، فإن هذا خير أعطاكه الله .

            فأرسل الله إلى النبي الذي مع طالوت قرنا فيه دهن وتنور من حديد ، فبعث به إلى طالوت ، وقال له : إن صاحبكم الذي يقتل جالوت يوضع هذا الدهن على رأسه فيغلي حتى يسيل من القرن ، ولا يجاوز رأسه إلى وجهه ويبقى على رأسه كهيئة الإكليل ، ويدخل في هذا التنور فيملأه . فدعا طالوت بني إسرائيل فجربهم ، فلم يوافقه منهم أحد ، فأحضر داود من رعيه ، فمر في طريقه بثلاثة أحجار ، فكلمته وقلن : خذنا يا داود تقتل بنا جالوت ، فأخذهن فجعلهن في مخلاته ، وكان طالوت قد قال : من قتل جالوت زوجته ابنتي وأجريت خاتمه في مملكتي .

            فلما جاء داود ، وضعوا القرن على رأسه ، فغلى حتى ادهن منه ولبس التنور فملأه ، وكان داود مسقاما أزرق مصفارا ، فلما دخل في التنور تضايق عليه حتى ملأه ، فرح أشمويل وطالوت وبنو إسرائيل بذلك وتقدموا إلى جالوت ، وتصافوا للقتال ، وخرج داود نحو جالوت وأخذ الأحجار ووضعها في قذافته ورمى بها جالوت ، فوقع الحجر بين عينيه فنقب رأسه فقتله ، ولم يزل الحجر يقتل كل من أصابه ينفذ منه إلى غيره ، فانهزم عسكر جالوت بإذن الله ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين طلبوا من الله أن يفرغ عليهم الصبر; أي يغمرهم به من فوقهم ، فتستقر قلوبهم ولا تقلق ، وأن يثبت أقدامهم في مجال الحرب ، ومعترك الأبطال ، وحومة الوغى ، والدعاء إلى النزال ، فسألوا التثبت الظاهر والباطن ، وأن ينزل عليهم النصر على أعدائهم وأعدائه ، من الكافرين الجاحدين بآياته وآلائه ، فأجابهم العظيم القدير السميع البصير الحكيم الخبير إلى ما سألوا وأنالهم ما إليه فيه رغبوا ولهذا قال : فهزموهم بإذن الله أي; بحول الله لا بحولهم ، وبقوة الله ونصره لا بقوتهم وعددهم ، مع كثرة أعدائهم وكمال عددهم ، كما قال تعالى : ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون .

            وقوله تعالى : وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء شجاعة داود عليه السلام فيه دلالة على شجاعة داود ، عليه السلام ، وأنه قتله قتلا أذل به جنده وكسر جيشه ، ولا أعظم من غزوة يقتل فيها ملك عدوه ، فيغنم بسبب ذلك الأموال الجزيلة ، ويأسر الأبطال والشجعان والأقران ، وتعلو كلمة الإيمان على الأوثان ، ويدال لأولياء الله على أعدائه ، ويظهر الدين الحق على الباطل وأوليائه . ووفى طالوت بما وعد وزوج داود ابنته وأجرى حكمه في ملكه ، وعظم داود ، عليه السلام ، عند بني إسرائيل ، وأحبوه ومالوا إليه أكثر من طالوت ، فذكروا أن طالوت حسده وأراد قتله ، واحتال على ذلك ، فلم يصل إليه ، وجعل العلماء ينهون طالوت عن قتل داود ، فتسلط عليهم فقتلهم ، حتى لم يبق منهم إلا القليل ، ثم حصل له توبة وندم وإقلاع عما سلف منه ، وجعل يكثر من البكاء ، ويخرج إلى الجبانة فيبكي حتى يبل الثرى بدموعه ، فنودي ذات يوم من الجبانة : أن يا طالوت ، قتلتنا ونحن أحياء ، وآذيتنا ونحن أموات . فازداد لذلك بكاؤه وخوفه ، واشتد وجله ، ثم جعل يسأل عن عالم يسأله عن أمره ، وهل له من توبة ، فقيل له : وهل أبقيت عالما؟ حتى دل على امرأة من العابدات ، فأخذته فذهبت به إلى قبر يوشع ، عليه السلام ، قالوا : فدعت الله فقام يوشع من قبره ، فقال : أقامت القيامة؟ فقالت : لا ولكن هذا طالوت يسألك : هل له من توبة؟ فقال : نعم ، ينخلع من الملك ، ويذهب فيقاتل في سبيل الله حتى يقتل . ثم عاد ميتا . فترك الملك لداود ، عليه السلام ، وذهب ومعه ثلاثة عشر من أولاده ، فقاتلوا في سبيل الله حتى قتلوا . قالوا : فذلك قوله تعالى : وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء هكذا ذكره ابن جرير في " تاريخه " من طريق السدي بإسناده . وفي بعض هذا نظر ونكارة . والله أعلم .

            وقال محمد بن إسحاق : النبي الذي بعث فأخبر طالوت بتوبته ، هو اليسع بن أخطوب . حكاه ابن جرير أيضا . وذكر الثعلبي أنها أتت به إلى قبر أشمويل ، فعاتبه على ما صنع بعده من الأمور . وهذا أنسب . ولعله إنما رآه في النوم ، لا أنه قام من القبر حيا; فإن هذا إنما يكون معجزة لنبي ، وتلك المرأة لم تكن نبية . والله أعلم . قال ابن جرير : وزعم أهل التوراة أن مدة ملك طالوت إلى أن قتل مع أولاده ، كانت أربعين سنة . فالله أعلم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية