كان العمالقة مع ملكهم جالوت قد عظمت نكايتهم في بني إسرائيل حتى كادوا يهلكونهم ، فلما رأى بنو إسرائيل ذلك قالوا : ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا . أي : وأي شيء يمنعنا من القتال وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا يقولون : نحن محروبون موتورون ، فحقيق لنا أن نقاتل عن أبنائنا المنهوبين المستضعفين فيهم ، المأسورين في قبضتهم . فدعا الله فأرسل إليه عصا وقرنا فيه دهن ، وقيل له : إن صاحبكم يكون في طوله طول هذه العصا ، وإذا دخل عليك رجل فنش الدهن الذي في القرن فهو ملك بني إسرائيل فادهن رأسه به وملكه عليهم ، فقاسوا أنفسهم بالعصا فلم يكونوا مثلها ، وكان طالوت دباغا . وقيل كان سقاء يسقي الماء ويبيعه ، فضل حماره فانطلق يطلبه ، فلما اجتاز بالمكان الذي فيه أشمويل دخل يسأله أن يدعو له ليرد الله حماره ، فلما دخل نش الدهن ، فقاسوه بالعصا فكان مثلها ، وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا ، وهو بالسريانية شاول بن قيس بن أنمار بن ضرار بن يحرف بن يفتح بن أيش بن بنيامين بن يعقوب بن إسحاق . فقالوا له : ما كنت قط أكذب منك الساعة ونحن من سبط المملكة ولم يؤت طالوت سعة من المال فنتبعه .
فقال أشمويل : إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم . فقالوا إن كنت صادقا فأت بآية . فقال : إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة . هذا أيضا من بركة ولاية هذا الرجل الصالح عليهم ويمنه عليهم; أن يرد الله عليهم التابوت الذي كان سلب منهم ، وقهرهم الأعداء عليه ، وقد كانوا ينصرون على أعدائهم بسببه . فيه سكينة من ربكم تفسير السكينة والسكينة رأس هر ، وقيل طشت من ذهب يغسل فيها قلوب الأنبياء ، وقيل غير ذلك ، وفيه الألواح وهي من در ، وياقوت ، وزبرجد ، وأما البقية فهي عصا موسى ، ورضاضة الألواح .
فحملته الملائكة وأتت به إلى طالوت نهارا بين السماء والأرض والناس ينظرون ليكون آية لله عليكم وحجة باهرة على صدق ما أقوله لكم ، وعلى صحة ولاية هذا الملك الصالح عليكم ، ولهذا قال : إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين وقيل : إنه لما غلب العمالقة على هذا التابوت ، وكان فيه ما ذكر من السكينة والبقية المباركة - وقيل : كان فيه التوراة أيضا - فلما استقر في أيديهم وضعوه تحت صنم لهم بأرضهم ، فلما أصبحوا إذا التابوت على رأس الصنم فوضعوه تحته ، فلما كان اليوم الثاني إذا التابوت فوق الصنم ، فلما تكرر هذا علموا أن هذا أمر من الله تعالى فأخرجوه من بلدهم ، وجعلوه في قرية من قراهم ، فأخذهم داء في رقابهم ، فلما طال عليهم هذا جعلوه في عجلة وربطوها في بقرتين وأرسلوهما ، فيقال : إن الملائكة ساقتهما حتى جاءوا بهما ملأ بني إسرائيل وهم ينظرون ، كما أخبرهم نبيهم بذلك . فالله أعلم على أي صفة جاءت به الملائكة ، والظاهر أن الملائكة كانت تحمله بأنفسهم ، كما هو المفهوم من الآية . والله أعلم . وإن كان الأول قد ذكره كثير من المفسرين أو أكثرهم . فأخرجه طالوت إليهم ، فأقروا بملكه ساخطين وخرجوا معه كارهين ، وهم ثمانون ألفا . فلما خرجوا قال لهم طالوت : إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني . وهو نهر فلسطين ، وقيل : الأردن ، فشربوا منه إلا قليلا ، وهم أربعة آلاف ، فمن شرب منه عطش ومن لم يشرب منه إلا غرفة روي ، فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه . لقيهم جالوت ، وكان ذا بأس شديد ، فلما رأوه رجع أكثرهم و قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ، ولم يبق معه غير ثلاثمائة وبضعة عشر عدد أهل بدر ، فلما رجع من رجع قالوا : كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين . وكان فيهم إيشى أبو داود ومعه من أولاده ثلاثة عشر ابنا ، وكان داود أصغر بنيه ، وقد خلفه يرعى لهم ويحمل لهم الطعام ، وكان قد قال لأبيه ذات يوم : يا أبتاه ، ما أرمي بقذافتي شيئا إلا صرعته . ثم قال له : لقد دخلت بين الجبال فوجدت أسدا رابضا فركبت عليه وأخذت بأذنيه فلم أخفه ، ثم أتاه يوما آخر فقال : إني لأمشي بين الجبال فأسبح فلا يبقى جبل إلا سبح معي . فقال له : أبشر ، فإن هذا خير أعطاكه الله .
فأرسل الله إلى النبي الذي مع طالوت قرنا فيه دهن وتنور من حديد ، فبعث به إلى طالوت ، وقال له : إن صاحبكم الذي يقتل جالوت يوضع هذا الدهن على رأسه فيغلي حتى يسيل من القرن ، ولا يجاوز رأسه إلى وجهه ويبقى على رأسه كهيئة الإكليل ، ويدخل في هذا التنور فيملأه . فدعا طالوت بني إسرائيل فجربهم ، فلم يوافقه منهم أحد ، فأحضر داود من رعيه ، فمر في طريقه بثلاثة أحجار ، فكلمته وقلن : خذنا يا داود تقتل بنا جالوت ، فأخذهن فجعلهن في مخلاته ، وكان طالوت قد قال : من قتل جالوت زوجته ابنتي وأجريت خاتمه في مملكتي .
فلما جاء داود ، وضعوا القرن على رأسه ، فغلى حتى ادهن منه ولبس التنور فملأه ، وكان داود مسقاما أزرق مصفارا ، فلما دخل في التنور تضايق عليه حتى ملأه ، فرح أشمويل وطالوت وبنو إسرائيل بذلك وتقدموا إلى جالوت ، وتصافوا للقتال ، وخرج داود نحو جالوت وأخذ الأحجار ووضعها في قذافته ورمى بها جالوت ، فوقع الحجر بين عينيه فنقب رأسه فقتله ، ولم يزل الحجر يقتل كل من أصابه ينفذ منه إلى غيره ، فانهزم عسكر جالوت بإذن الله ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين طلبوا من الله أن يفرغ عليهم الصبر; أي يغمرهم به من فوقهم ، فتستقر قلوبهم ولا تقلق ، وأن يثبت أقدامهم في مجال الحرب ، ومعترك الأبطال ، وحومة الوغى ، والدعاء إلى النزال ، فسألوا التثبت الظاهر والباطن ، وأن ينزل عليهم النصر على أعدائهم وأعدائه ، من الكافرين الجاحدين بآياته وآلائه ، فأجابهم العظيم القدير السميع البصير الحكيم الخبير إلى ما سألوا وأنالهم ما إليه فيه رغبوا ولهذا قال : فهزموهم بإذن الله أي; بحول الله لا بحولهم ، وبقوة الله ونصره لا بقوتهم وعددهم ، مع كثرة أعدائهم وكمال عددهم ، كما قال تعالى : ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون .
وقوله تعالى : وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء شجاعة داود عليه السلام فيه دلالة على شجاعة داود ، عليه السلام ، وأنه قتله قتلا أذل به جنده وكسر جيشه ، ولا أعظم من غزوة يقتل فيها ملك عدوه ، فيغنم بسبب ذلك الأموال الجزيلة ، ويأسر الأبطال والشجعان والأقران ، وتعلو كلمة الإيمان على الأوثان ، ويدال لأولياء الله على أعدائه ، ويظهر الدين الحق على الباطل وأوليائه . ووفى طالوت بما وعد وزوج داود ابنته وأجرى حكمه في ملكه ، وعظم داود ، عليه السلام ، عند بني إسرائيل ، وأحبوه ومالوا إليه أكثر من طالوت ، فذكروا أن طالوت حسده وأراد قتله ، واحتال على ذلك ، فلم يصل إليه ، وجعل العلماء ينهون طالوت عن قتل داود ، فتسلط عليهم فقتلهم ، حتى لم يبق منهم إلا القليل ، ثم حصل له توبة وندم وإقلاع عما سلف منه ، وجعل يكثر من البكاء ، ويخرج إلى الجبانة فيبكي حتى يبل الثرى بدموعه ، فنودي ذات يوم من الجبانة : أن يا طالوت ، قتلتنا ونحن أحياء ، وآذيتنا ونحن أموات . فازداد لذلك بكاؤه وخوفه ، واشتد وجله ، ثم جعل يسأل عن عالم يسأله عن أمره ، وهل له من توبة ، فقيل له : وهل أبقيت عالما؟ حتى دل على امرأة من العابدات ، فأخذته فذهبت به إلى قبر يوشع ، عليه السلام ، قالوا : فدعت الله فقام يوشع من قبره ، فقال : أقامت القيامة؟ فقالت : لا ولكن هذا طالوت يسألك : هل له من توبة؟ فقال : نعم ، ينخلع من الملك ، ويذهب فيقاتل في سبيل الله حتى يقتل . ثم عاد ميتا . فترك الملك لداود ، عليه السلام ، وذهب ومعه ثلاثة عشر من أولاده ، فقاتلوا في سبيل الله حتى قتلوا . قالوا : فذلك قوله تعالى : وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء هكذا ذكره ابن جرير في " تاريخه " من طريق السدي بإسناده . وفي بعض هذا نظر ونكارة . والله أعلم .
وقال محمد بن إسحاق : النبي الذي بعث فأخبر طالوت بتوبته ، هو اليسع بن أخطوب . حكاه ابن جرير أيضا . وذكر الثعلبي أنها أتت به إلى قبر أشمويل ، فعاتبه على ما صنع بعده من الأمور . وهذا أنسب . ولعله إنما رآه في النوم ، لا أنه قام من القبر حيا; فإن هذا إنما يكون معجزة لنبي ، وتلك المرأة لم تكن نبية . والله أعلم . قال ابن جرير : وزعم أهل التوراة أن مدة ملك طالوت إلى أن قتل مع أولاده ، كانت أربعين سنة . فالله أعلم .