الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            باب ذكر جماعة من أنبياء بني إسرائيل بعد داود وسليمان وقبل زكريا ويحيى عليهم السلام

            فمنهم شعيا بن أمصيا . قال محمد بن إسحاق : وكان قبل زكريا ويحيى ، وهو ممن بشر بعيسى ومحمد عليهما السلام ، وكان في زمانه ملك اسمه صديقة على بني إسرائيل ببلاد بيت المقدس ، وكان سامعا مطيعا لشعيا فيما يأمره به وينهاه عنه من المصالح ، وكانت الأحداث قد عظمت في بني إسرائيل فمرض الملك وخرجت في رجله قرحة.

            مسير سنحاريب إلى بني إسرائيل

            وقصد بيت المقدس ملك بابل في ذلك الزمان ، وهو سنحاريب ، قال ابن إسحاق في ستمائة ألف راية . وفزع الناس فزعا عظيما شديدا ، وقال الملك للنبي شعيا : ماذا أوحى الله إليك في أمر سنحاريب وجنوده ؟ فقال : لم يوح إلي فيهم شيئا بعد . ثم نزل عليه الوحي بالأمر للملك صديقة بأن يوصي ويستخلف على ملكه من يشاء ; فإنه قد اقترب أجله ، فلما أخبره بذلك أقبل الملك على القبلة فصلى وسبح ودعا وبكى ، فقال وهو يبكي ويتضرع إلى الله ، عز وجل ، بقلب مخلص وتوكل وصبر : اللهم رب الأرباب وإله الآلهة ، يا رحمن يا رحيم ، يا من لا تأخذه سنة ولا نوم ، اذكرني بعلمي ، وفعلي ، وحسن قضائي على بني إسرائيل وذلك كله كان منك ، فأنت أعلم به من نفسي ، سري وإعلاني لك . قال : فاستجاب الله له ورحمه ، وأوحى الله إلى شعيا أن يبشره بأنه قد رحم بكاءه ، وقد أخر في أجله خمس عشرة سنة ، وأنجاه من عدوه سنحاريب . فلما قال له ذلك ذهب منه الوجع وانقطع عنه الشر والحزن ، وخر ساجدا وقال في سجوده : اللهم أنت الذي تعطي الملك من تشاء ، وتنزعه ممن تشاء ، وتعز من تشاء ، وتذل من تشاء ، عالم الغيب والشهادة ، أنت الأول والآخر ، والظاهر والباطن ، وأنت ترحم وتستجيب دعوة المضطرين .

            فلما رفع رأسه أوحى الله إلى شعيا أن يأمره أن يأخذ ماء التين فيجعله على قرحته ، فيشفى ويصبح قد برئ . ففعل ذلك ، فشفي ، وأرسل الله على جيش سنحاريب الموت فأصبحوا وقد هلكوا كلهم سوى سنحاريب وخمسة من أصحابه ، منهم بخت نصر فأرسل ملك بني إسرائيل فجاء بهم ، فجعلهم في الأغلال وطاف بهم في البلاد على وجه التنكيل بهم والإهانة لهم سبعين يوما ، ويطعم كل واحد منهم كل يوم رغيفين من شعير ، ثم أودعهم السجن ، وأوحى الله تعالى إلى شعيا أن يأمر الملك بإرسالهم إلى بلادهم ، لينذروا قومهم ما قد حل بهم ، فلما رجعوا جمع سنحاريب قومه وأخبرهم بما قد كان من أمرهم ، فقال له السحرة والكهنة : إنا أخبرناك عن شأن ربهم وأنبيائهم فلم تطعنا ، وهي أمة لا يستطيعها أحد من ربهم . فكان أمر سنحاريب مما خوفهم الله به . ثم مات سنحاريب بعد سبع سنين .

            وفاة النبي شعيا

            قال ابن إسحاق ثم لما مات صديقة ملك بني إسرائيل مرج أمرهم واختلطت أحداثهم ، وكثر شرهم ، فأوحى الله تعالى إلى شعيا ، فقام فيهم فوعظهم وذكرهم ، وأخبرهم عن الله بما هو أهله وأنذرهم بأسه وعقابه إن خالفوه وكذبوه ، فلما فرغ من مقالته عدوا عليه وطلبوه ليقتلوه ، فهرب منهم ، فمر بشجرة فانفلقت له فدخل فيها ، وأدركه الشيطان فأخذ بهدبة ثوبه فأبرزها ، فلما رأوا ذلك جاءوا بالمنشار فوضعوه على الشجرة ، فنشروها ونشروه معها ، فإنا لله وإنا إليه راجعون . قال ابن إسحاق: هو الذي قال لإيليا وهي قرية ببيت المقدس ، واسمها "أورى شلم" ، فقال: أبشري أورى شلم ، يأتيك الآن راكب الحمار ، يعني عيسى ، ويأتيك بعده راكب البعير ، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم .

            وقال: كان في بني إسرائيل ملك يدعى صدقيا ، وكان إذا ملك الملك عليهم بعث الله تعالى نبيا يسدده ويرشده ويكون فيما بينه وبين الله عز وجل ، ولا تنزل عليهم الكتب ، إنما يؤمرون باتباع التوراة .

            فلما ملك ذلك الملك بعث الله معه شعيا ، فملك ذلك الملك بني إسرائيل وبيت المقدس زمانا . فلما انقضى ملكه عظمت فيهم الأحداث وشعيا معه ، فبعث الله سنحاريث معه ستمائة ألف راية ، فأقبل سابيا حتى نزل [حول] بيت المقدس والملك مريض ، في ساقه قرحة ، فجاءه النبي شعيا ، فقال له: يا ملك بني إسرائيل ، إن سنحاريث ملك بابل قد نزل بك هو وجنوده ستمائة ألف راية ، فكبر ذلك على الملك ، فقال: يا نبي الله ، هل أتاك وحي من الله كيف يفعل الله بنا وبسنحاريث وجنوده؟ قال: لا .

            فبينا هم على ذلك أوحى الله تعالى إلى شعيا: أرأيت ملك بني إسرائيل فمره أن يوصي وصيته ويستخلف على ملكه من يشاء من أهل بيته .



            فأتى النبي شعيا ملك بني إسرائيل فأخبره ، فأقبل على القبلة فصلى وسبح ودعا وبكى ، وقال وهو يبكي ويتضرع إلى الله: زدني في عمري ، فأوحى الله إلى شعيا أن يخبر الملك أن ربه قد رحمه وقد أخر أجله خمس عشرة سنة ، وأنجاه من عدوه . فقال الملك لشعيا: سل ربك أن يجعل لنا علما بما هو صانع بعدونا هذا .

            قال: فقال الله لشعيا: قل له إني قد كفيتك عدوك وأنجيتك منهم ، وأنهم سيصبحون موتى كلهم إلا سنحاريث وخمسة من كتابه .

            فلما أصبح جاء صارخ فصرخ على باب المدينة: يا ملك بني إسرائيل ، إن الله قد كفاك عدوك ، فاخرج فإن سنحاريث ومن معه قد هلكوا .

            فلما خرج [الملك] التمس سنحاريث فلم يوجد في الموتى ، فبعث الملك في طلبه ، فأدركه الطلب في مغارة هو وخمسة من كتابه أحدهم بخت نصر ، فجعلوهم في الجوامع ، ثم أتوا بهم ملك بني إسرائيل ، فلما رآهم خر ساجدا ، ثم قال لسنحاريث: كيف ترى فعل ربنا بكم؟ ألم يقتلكم بحوله وقوته ونحن وأنتم غافلون! فقال سنحاريث له: قد أتاني خبر ربكم ونصره إياكم ورحمته التي رحمكم بها قبل أن أخرج من بلادي ، فلم أطع مرشدا ، ولم يلقني في الشقوة إلا قلة عقلي .

            فقال ملك بني إسرائيل: إن ربنا إنما أبقاك ومن معك لتخبروا من وراءكم بما رأيتم من فعل ربنا ، ولتنذروا من بعدكم .

            ثم أمر أمير حرسه فقذف في رقابهم الجوامع ، وطاف بهم سبعين يوما حول بيت المقدس ، وكان يرزقهم في كل يوم خبزتين من شعير لكل رجل منهم . فقال سنحاريث لملك بني إسرائيل: القتل خير مما تفعل بنا ، فافعل ما أمرت .

            فأمر بهم إلى سجن القتل ، فأوحى الله إلى شعيا النبي: أن قل لملك بني إسرائيل يرسل سنحاريث ومن معه لينذروا من وراءهم ، وليكرمهم وليحملهم حتى يبلغوا بلادهم .

            فبلغ النبي شعيا ذلك الملك ، ففعل ، فخرج سنحاريث ومن معه حتى قدموا بابل ، فلما قدموا جمع الناس فأخبرهم كيف فعل الله بجنوده ، ثم لبث سنحاريث بعد ذلك سبع سنين ثم مات .



            وقد زعم بعض أهل الكتاب أن هذا الملك من بني إسرائيل الذي سار إليه سنحاريث كان أعرج ، وكان عرجه من عرق النسا ، وأن سنحاريث إنما طمع في مملكته لزمانته وضعفه ، وأنه قد كان سار إليه قبل سنحاريث ملك من ملوك بابل يقال له "ليفر" ، وكان بخت نصر ابن عمه وكاتبه ، وأن الله أرسل عليه ريحا أهلكت جيشه ، وأفلت هو وكاتبه ، وأن هذا البابلي قتله ابن له ، وأن بخت نصر غضب لصاحبه فقتل ابنه الذي قتل أباه ، وأن سنحاريث سار بعد ذلك إليه ، وكان مسكنه نينوى مع ملك أذربيجان يومئذ ، وكان يدعى سلمان الأعسر ، وأن سنحاريث وسلمان اختلفا ، فتحاربا حتى تفانى جنداهما ، وصار ما كان معهما غنيمة لبني إسرائيل .

            وقال بعضهم: بل الذي غزاه سنحاريث حزقيا صاحب شعيا ، وأنه لما أحاط ببيت المقدس بجنوده بعث الله تعالى ملكا ، فقتل من أصحابه في ليلة واحدة مائة ألف وخمسة وثمانين ألفا .

            وكان ملكه إلى أن توفي تسعا وعشرين سنة .

            ثم ملك بعده ابنه "منشا بن حزقيا" إلى أن توفي خمسا وخمسين سنة .

            ملك أولاد سنحاريث

            ثم ملك بعده ابنه "أمون" إلى أن قتله أصحابه اثنتي عشرة سنة .

            ثم ملك ابنه "يوشيا" إلى أن قتله فرعون المقعد ملك مصر إحدى وعشرين سنة .

            ثم ملك بعده ابنه "ياهواحاز" فغزاه فرعون المقعد فأسره وأشخصه إلى مصر ، وملك "يوثاقيم بن ياهواحاز" على ما كان عليه أبوه ، ووظف عليه خراجا يؤديه إليه ، فبقي كذلك اثنتي عشرة سنة .

            ثم ملك بعده ابنه "يوثاحين" ، فغزاه بخت نصر ، فأسره وأشخصه إلى بابل بعد ثلاثة أشهر من ملكه ، وملك مكانه "شيا" عمه وسماه "صديقيا" فخالفه ، فغزاه فظفر به ، فذبح ولده بين يديه ، وسمل عينيه وحمله إلى بابل ، وخرب المدينة وسبى بني إسرائيل ، وحملهم إلى بابل ، فمكثوا بها إلى أن ردهم إلى بيت المقدس كيرش بن جاما سب" لقرابة كانت بينه وبينهم من قبل أمه ، فكان جميع ما ملك "صديقيا" إحدى عشرة سنة وثلاثة أشهر .

            ثم صار ملك بيت المقدس والشام "لأشتاسب بن بهراسب" ، وعامله على ذلك كله بخت نصر .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية