الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ذكر شيء من خبر دانيال ، عليه السلام

            عن عبد الله بن أبي الهذيل ، قال : ضرى بخت نصر أسدين ، فألقاهما في جب وجاء بدانيال فألقاه عليهما ، فلم يهيجاه فمكث ما شاء الله ، ثم اشتهى ما يشتهي الآدميون من الطعام والشراب ، فأوحى الله إلى أرميا وهو بالشام : أن أعدد طعاما وشرابا لدانيال . فقال : يا رب ، أنا بالأرض المقدسة ودانيال بأرض بابل من أرض العراق . فأوحى الله إليه : أن أعدد ما أمرناك به فإنا سنرسل من يحملك ويحمل ما أعددت . ففعل ، وأرسل إليه من حمله وحمل ما أعد حتى وقف على رأس الجب فقال : دانيال ، دانيال . فقال : من هذا ؟ قال : أنا أرميا . فقال : ما جاء بك ؟ فقال : أرسلني إليك ربك . قال : وقد ذكرني ربي ؟ قال : نعم . فقال دانيال : الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره ، والحمد لله الذي لا يخيب من رجاه ، والحمد لله الذي من وثق به لم يكله إلى غيره ، والحمد لله الذي يجزي بالإحسان إحسانا ، والحمد لله الذي يجزي بالصبر نجاة ، والحمد لله الذي هو يكشف ضرنا بعد كربنا ، والحمد لله الذي هو ثقتنا حين تسوء ظنوننا بأعمالنا ، والحمد لله الذي هو رجاؤنا حين تنقطع الحيل عنا .

            ما وجده المسلمون عند فتح تستر ودعاء النبي دانيال

            وقال أبو العالية : لما افتتحنا تستر وجدنا في مال بيت الهرمزان سريرا ، عليه رجل ميت ، عند رأسه مصحف ، فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر بن الخطاب ، فدعا له كعبا فنسخه بالعربية ، فأنا أول رجل من العرب قرأه ، قرأته مثل ما أقرأ القرآن هذا . فقلت لأبي العالية : ما كان فيه ؟ قال : سيركم وأموركم ولحون كلامكم وما هو كائن بعد . قلت : فما صنعتم بالرجل ؟ قال : حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبرا متفرقة ، فلما كان بالليل دفناه وسوينا القبور كلها ; لنعميه على الناس فلا ينبشونه . قلت : فما يرجون منه ؟ قال : كانت السماء إذا حبست عنهم برزوا بسريره فيمطرون . قلت : من كنتم تظنون الرجل ؟ قال : رجل يقال له دانيال . قلت : منذ كم وجدتموه قد مات ؟ قال : منذ ثلاثمائة سنة . قلت : ما تغير منه شيء ؟ قال : لا إلا شعرات من قفاه ; إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض ولا تأكلها السباع . وهذا إسناد صحيح إلى أبي العالية ولكن إن كان تاريخ وفاته محفوظا من ثلاثمائة سنة ، فليس بنبي بل هو رجل صالح ; لأن عيسى ابن مريم ليس بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم نبي ، بنص الحديث الذي في البخاري والفترة التي كانت بينهما أربعمائة سنة ، وقيل : ستمائة . وقيل : ستمائة وعشرون سنة . وقد يكون تاريخ وفاته من ثمانمائة سنة ، وهو قريب من وقت دانيال إن كان كونه دانيال هو المطابق لما في نفس الأمر ; فإنه قد يكون رجلا آخر ; إما من الأنبياء أو الصالحين ، ولكن قربت الظنون أنه دانيال لأن دانيال كان قد أخذه ملك الفرس ، فأقام عنده مسجونا كما تقدم . وقد روي بإسناد صحيح إلى أبي العالية أن طول أنفه شبر . وعن أنس بن مالك بإسناد جيد ، أن طول أنفه ذراع . فيحتمل على هذا أن يكون رجلا من الأنبياء الأقدمين قبل هذه المدد . والله أعلم .

            وعن أبي الأشعث الأحمري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن دانيال دعا ربه عز وجل أن تدفنه أمة محمد فلما افتتح أبو موسى الأشعري تستر ، وجده في تابوت ، تضرب عروقه ووريده ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من دل على دانيال فبشروه بالجنة . فكان الذي دل عليه رجل يقال له : حرقوص فكتب أبو موسى إلى عمر بخبره ، فكتب إليه عمر أن ادفنه ، وابعث إلى حرقوص ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم بشره بالجنة .

            وعن عنبسة بن سعيد ، - وكان عالما - قال : وجد أبو موسى مع دانيال مصحفا ، وجرة فيها ودك ودراهم ، وخاتمه ، فكتب أبو موسى بذلك إلى عمر فكتب إليه عمر : أما المصحف فابعث به إلينا ، وأما الودك فابعث إلينا منه ، ومر من قبلك من المسلمين يستشفون به ، واقسم الدراهم بينهم ، وأما الخاتم فقد نفلناكه . وروى ابن أبي الدنيا من غير وجه ، أن أبا موسى لما وجده وذكروا له أنه دانيال ، التزمه وعا?قه وقبله ، وكتب إلى عمر يذكر له أمره ، وأنه وجد عنده مالا موضوعا ، قريبا من عشرة آلاف درهم ، وكان من جاء اقترض منها ، فإن ردها وإلا مرض ، وأن عنده ربعة ، فأمر عمر بأن يغسل بماء وسدر ، ويكفن ويدفن ، ويخفى قبره ، فلا يعلم به أحد ، وأمر بالمال أن يرد إلى بيت المال ، وبالربعة فتحمل إليه ، ونفله خاتمه . وروي عن أبي موسى ، أنه أمر أربعة من الأسراء فسكروا نهرا ، وحفروا في وسطه قبرا ، فدفنه فيه ، ثم قدم الأربعة الإسراء فضرب أعناقهم ، فلم يعلم موضع قبره غير أبي موسى الأشعري ، رضي الله عنه .

            وعن عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن أبيه ، قال : رأيت في يد أبي بردة بن أبي موسى الأشعري خاتما ، نقش فصه أسدان بينهما رجل يلحسان ذلك الرجل ، قال أبو بردة : هذا خاتم ذلك الرجل الميت الذي زعم أهل هذه البلدة أنه دانيال أخذه أبو موسى يوم دفنه . قال أبو بردة : فسأل أبو موسى علماء تلك القرية عن نقش ذلك الخاتم ، فقالوا : إن الملك الذي كان دانيال في سلطانه جاءه المنجمون وأصحاب العلم ، فقالوا له : إنه يولد ليلة كذا وكذا غلام يعور ملكك ويفسده . فقال الملك : والله لا يبقى تلك الليلة غلام إلا قتلته . إلا أنهم أخذوا دانيال فألقوه في أجمة الأسد ، فبات الأسد ولبوته يلحسانه ، ولم يضراه ، فجاءت أمه فوجدتهما يلحسانه ، فنجاه الله بذلك حتى بلغ ما بلغ . قال أبو بردة : قال أبو موسى : قال علماء تلك القرية : فنقش دانيال صورته وصورة الأسدين يلحسانه في فص خاتمه ; لئلا ينسى نعمة الله عليه في ذلك . وقيل : لما تمت عمارة بيت المقدس سأل أرميا ربه عز وجل أن يقبضه إليه ، فمات ، وأنقذ الله بني إسرائيل من أرض بابل على يدي دانيال .

            وكان دانيال ممن سباه بخت نصر في تخريب بيت المقدس ، فرمى به في جب مغلولا في فلاة من الأرض ، وألقى معه سبعين ، وأطبق عليه الجب ، فبقي تسعة أيام .

            فأوحى الله تعالى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل: انطلق فاستخرج دانيال من الجب ، فقال: يا رب من يدلني عليه؟ قال: يدلك عليه مركبك ، فركب أتانا له ، فخرج يطوف ، فقال: يا صاحب الجب ، فأجابه دانيال ، فقال: قد أسمعت فما تريد؟ قال: أنا رسول الله إليك لأستخرجك من هذا الموضع ، فقال دانيال: الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره ، والحمد لله الذي لا يكل من توكل عليه إلى غيره ، والحمد لله الذي يجزي بالإحسان إحسانا ، وبالإساءة غفرانا . ثم استخرجه والسبعان يمشيان معه ، فعزم عليهما دانيال أن يرجعا إلى الغيضة .

            وقد روينا أن بخت نصر اتخذ صنما وأمر بالسجود له فلم يسجد دانيال وأصحابه ، فأمر بهم فألقوا في أتون فلم يحترقوا .

            رؤيا بختنصر وتأويل دانيال لها

            عن كعب ، قال: كان سبب استنقاذ بني إسرائيل من أرض بابل أن بخت نصر لما صدر من بيت المقدس بالأسارى ، وفيهم دانيال وعزير ، فاتخذ بني إسرائيل خولا زمانا طويلا ، وإنه رأى رؤيا فزع منها ، فدعا كهنته وسحرته فأخبرهم بما أصابه من الكرب في رؤياه ، وسألهم أن يعبروها ، فقالوا: قصها علينا ، قال: قد أنسيتها ، فأخبروني بتأويلها ، قالوا: لا نقدر حتى تقصها ، فغضب وقال: قد أجلتكم ثلاثة أيام فإن أتيتموني بتأويلها وإلا قتلتكم .

            وشاع ذلك في الناس ، فبلغ دانيال وهو محبوس ، فقال لصاحب السجن: هل لك أن تذكرني للملك ، فإن عندي علم رؤياه ، وإني أرجو أن تنال بذلك عنده منزلة ، فقال له: إني أخاف عليك سطوة الملك ، لعل غم السجن حملك على أن تروح بما ليس عندك فيه علم ، قال دانيال: لا تخف علي فإن لي ربا يخبرني بما شئت من حاجتي .

            فانطلق صاحب السجن فأخبر بخت نصر بذلك ، فدعا دانيال فدخل ، ولا يدخل عليه أحد إلا سجد له ، فوقف دانيال ولم يسجد ، فقال الملك لمن في البيت: اخرجوا ، فخرجوا ، فقال: ما منعك أن تسجد لي؟ قال: إن لي ربا أتاني هذا العلم على أن لا أسجد لغيره ، فخشيت أن أسجد لك فينسلخ عني العلم ثم أصير في يديك أميا لا تنتفع بي فتقتلني ، فرأيت ترك السجدة أهون من القتل ، وخطر سجدة أهون من الكرب الذي أنت فيه ، فتركت السجود نظرا إلى ذلك .

            فقال بخت نصر: لم يكن قط أوثق في نفسي منك حيث وفيت لإلهك ، وأعجب الرجال عندي الذين يوفون لأربابهم بالعهود ، فهل عندك علم بهذه الرؤيا التي رأيت؟

            قال: نعم عندي علمها وتفسيرها .

            قال: رأيت صنما عظيما ، رجلاه في الأرض ورأسه يمس السماء ، أعلاه من ذهب ووسطه من فضة ، وأسفله من نحاس ، وساقاه من حديد ، ورجلاه من فخار ، فبينا أنت تنظر إليه قد أعجبك حسنه وإحكام صنعته قذفه الله بحجر من السماء فوقع على قبة رأسه ، فدقه حتى طحنه ، فاختلط ذهبه وفضته ونحاسه وحديده وفخاره حتى يخيل إليك أنه لو اجتمع الإنس والجن على أن يميزوا بعضه من بعض لم يقدروا على ذلك ، ولو هبت الريح لأذرته .

            ونظرت إلى الحجر الذي قذف به يربو ويعظم وينتشر حتى ملأ الأرضين كلها فصرت لا ترى [إلا] السماء والحجر .

            قال له بخت نصر: صدقت هذه الرؤيا التي رأيت . فما تأويلها؟ قال: أما الصنم فأمم مختلفة في أول الزمان وفي أوسطه وفي آخره .

            وأما الذهب فهذا الزمان ، وهذه الأمة التي أنت فيها وأنت ملكها . وأما الفضة ابنك من بعدك يملكها ، وأما النحاس فإنه الروم ، وأما الحديد ففارس ، وأما الفخار فأمتان تملكهما امرأتان إحداهما في مشرق اليمن ، والأخرى في غربي الشام .

            وأما الحجر الذي قذف به الصنم؟ حذف الله به هذه الأمم في آخر الزمان ، فيظهر عليها حتى يبعث نبي أمي من العرب فيدوخ به الأمم والأديان كما رأيت الحجر دوخ أصناف الصنم ، ويظهره على الأديان والأمم كما رأيت الحجر ظهر على الأرض وانتشر فيها حتى ملأها ، فيحق الله به الحق ، ويزهق به الباطل ، ويعز به الأذلة ، وينصر به المستضعفين .

            فقال له بخت نصر: ما أعلم أحدا استفتيت به منذ وليت الملك على شيء غلبني غيرك ، ولا لأحد عندي يد أعظم من يدك ، وأنا أجازيك بإحسانك ، فاختر من ثلاث خلال أعرضهن عليك: إن أحببت أن أردك إلى بلادك ، وأعمر لك كل شيء خربته ، وإن أحببت كتبت لك أمانا تأمن به حيث ما ملكت ، وإن أحببت أن تقيم معي فأواسيك .

            قال دانيال: أما قولك تردني إلى بلادي وتعمر لي ما خربت ، فإنها أرض كتب الله عز وجل عليها الخراب وعلى أهلها الفناء إلى أجل معلوم ، فليس تقدر على أن تعمر ما خرب الله ولا ترد أجلا أجله الله حتى يبلغ الكتاب أجله ، وينقضي هذا البلاء الذي كتب الله على إيليا وأهلها .

            وأما قولك: أن تكتب لي أمانا آمن به حيث ما توجهت ، فإنه لا ينبغي لي أن أطلب مع أمان الله أمان مخلوق .



            وأما ما ذكرت من مواساتك ، فإن ذلك أرفق لي يومي هذا حتى يقضى فينا قضاء .

            منزلة دانيال عند بختنصر

            فجمع بخت نصر ولده وحشمه وأهل العلم والرأي من أهل المملكة ، فقال لهم: هذا رجل حكيم ، قد فرج الله به عني الكرب الذي عجزت عنه ، وإني رأيت أن أوليه أمركم ، فخذوا من أدبه وحكمته وأعظموا حقه ، فإذا جاءكم رسولان أحدهما مني والآخر من دانيال فآثروا حاجته على حاجتي .

            قال: فنزل منه دانيال أفضل المنازل ، فجعل تدبير ملكه إليه ، فلما رأى ذلك عظماء أهل بابل حسدوا دانيال ، فاجتمعوا إلى بخت نصر ، فقالوا له: لم يكن على الأرض ملك أعز من ملكنا ، ولا قوم أهيب في صدور أهل الأرض منا ، حتى دانت لنا الأرض ، والآن قد طمعوا فينا منذ قلدت ملكك هذا العبد الإسرائيلي ، فقال: أتنقموني أني عمدت إلى أحكم أهل الأرض ، فاستعنت به .

            هلاك بختنصر وتنصيب ابنه مكانه

            ثم إن بخت نصر هلك ببعوضة سلطت عليه وملك مكانه ابنه "بلطا" فبطش بطش الجبارين ، وكان يشرب الخمر في آنية مسجد بيت المقدس التي غنمها أبوه ، فنهاه دانيال ، ثم قال له: إنك تقتل إلى ثلاثة ، ويسلب الله ملكك ، فدخل بيته وأغلق بابه ودعا أوثق الناس عنده ، وقال: الزم عتبة بابي فلا يمر بك أحد في هذه الأيام الثلاثة إلا قتلته ، وإن قال: إني أنا الملك .

            فلما مضت الأيام الثلاثة قام الملك فخرج من الباب فرحا ، فمر بالحارس ، فقام الحارس فضربه بالسيف ، وهو يقول: أنا الملك ، فيقول: كذبت فقتله .

            وفاة دانيال

            ورجع بنو إسرائيل إلى بيت المقدس ، فمكثوا بأحسن حال حتى مات دانيال ، ثم كثرت فيهم الأحداث والبغي ، فسلط الله عليهم أرطاصوس ، فقتل وسبى .

            وهذا دانيال من بني إسرائيل ، وهو مدفون بالسوس ، ولما فتح أبو موسى السوس دل على جثة دانيال ، فقام رجل إلى جثته ، فكانت ركبة دانيال محاذية رأسه ، وليس بدانيال الأكبر ، فإن ذاك كان بين نوح وإبراهيم ،

            التالي السابق


            الخدمات العلمية