طلب ذي القرنين عين الحياة
وروى أبو الحسين بإسناد له عن علي بن الحسين بن علي ، [عن أبيه ، عن جده علي] بن أبي [طالب] رضي الله عنهم ، أنه قال: كان ذو القرنين عبدا صالحا ، وكان قد ملك ما بين المشرق والمغرب ، وكان له خليل من الملائكة اسمه رفائيل يأتي ذا القرنين ويزوره ، فبينما هما يوما يتحدثان ، قال ذو القرنين: يا رفائيل ، حدثني كيف عبادتكم في السماء ، فبكى رفائيل وقال: يا ذا القرنين وما عبادتكم عند عبادتنا ، إن ومنهم الراكع لا يستوي قائما أبدا ، ومنهم الرافع وجهه لا يجلس أبدا ، وهم يقولون: سبحان الملك القدوس رب الملائكة والروح ، ربنا ما عبدناك حق عبادتك . فبكى ذو القرنين بكاء شديدا ، ثم قال: يا رفائيل إني لأحب أن أعيش فأبلغ من عبادة ربي حق طاعته . فقال رفائيل: أوتحب ذلك؟ قال: نعم ، قال: فإن لله عينا في الأرض تسمى عين الحياة فيها عزيمة أنه من شرب منها شربة إنه لن يموت حتى يكون هو الذي يسأل الموت . قال ذو القرنين: فهل تعلمون أنتم موضع تلك العين ، فقال رفائيل: لا ، غير أننا نتحدث في السماء أن لله في الأرض ظلمة لا يطؤها إنس ولا جان ، فنحن نظن أن تلك العين هي التي في تلك الظلمة ، فجمع ذو القرنين حكماء أهل الأرض ، وأهل دراسة الكتب وآثار النبوة ، وقال: أخبروني هل وجدتم فيما قرأتم من كتب الله وما جاءكم من أحاديث الأنبياء ، وحديث من كان قبلكم من العلماء أن الله وضع في الأرض عينا سماه عين الحياة؟ فقالت العلماء: لا ، فقال ذو القرنين: فهل وجدتم فيها أن الله وضع في الأرض ظلمة لا يطؤها إنس ولا جان؟ قالوا: لا ، فقال عالم [من] العلماء واسمه أفشنجير: أيها الملك لم تسأل عن هذا؟ فأخبره بالحديث وما قال له رفائيل في العين والظلمة ، فقال: أيها الملك ، إني قرأت وصية آدم فوجدت فيها أن الله وضع في الأرض ظلمة لا يطؤها إنس ولا جان ، فقال ذو القرنين: فأي أرض وجدتها في الأرض؟ قال: وجدتها على قرن الشمس . في السموات من الملائكة من هو قائم أبدا لا يجلس ، ومنهم الساجد لا يرفع رأسه أبدا ،
فبعث ذو القرنين في الأرض فحشر الناس إليه ، الفقهاء والأشراف والملوك ، ثم سار يطلب مطلع الشمس ، فسار إلى أن بلغ طرف الظلمة ثنتي عشرة سنة ، فإذا الظلمة ليست بليل ، وظلمة تفور مثل الدخان ، فعسكر ثم جمع علماء عسكره ، فقال: إني أريد أن أسلك هذه الظلمة ، فقالت العلماء: أيها الملك ، إنه من كان قبلك من الأنبياء لم يطلبوا هذه الظلمة فلا تطلبها ، فإنا نخاف أن يتفق عليك منها [أمر] تكرهه ، ويكون فيها فساد الأرض ، فقال: ما بد من أن أسلكها ، فخرت العلماء سجدا ، وقالوا: أيها الملك كف عن هذه الظلمة ولا تطلبها فإنا لو نعلم أنك إن طلبتها ظفرت بما تريد ولكنا نخاف العتب من الله ، ويتفق عليك أمر يكون فيه فساد الأرض وما عليها ، فقال: ما بد من أن أسلكها ، فقالت العلماء: شأنك بها ، فقال ذو القرنين: أي الدواب بالليل أبصر؟ قالوا: الخيل ، قال: فأيها أبصر؟ قالوا: الإناث أبصر ، قال: فأي الإناث؟ قالوا: البكارة .
فأرسل ذو القرنين فجمع له ستة آلاف فرس أنثى بكارة ، ثم انتخب من أهل عسكره أهل الجلد والعقل ستة آلاف رجل ، فدفع إلى كل رجل فرسا ، وعقد للخضر على مقدمته على ألفين ، وكان الخضر وزير ذي القرنين ، وهو ابن خالته . وبقي ذو القرنين في أربعة آلاف ، فقال ذو القرنين للناس: لا تبرحوا من عسكركم هذا اثنتي عشرة سنة فإن نحن رجعنا إليكم فذلك وإلا فارجعوا إلى بلادكم ، فقال الخضر: أيها الملك إنا نسلك ظلمة لا ندري كم السير فيها ولا يبصر بعضنا بعضا ، فكيف نصنع بالضلال إذا أصابنا؟
فدفع ذو القرنين إلى الخضر خرزة حمراء ، فقال: حيث يصيبك الضلال فاطرح هذه الخرزة إلى الأرض فإذا صاحت فليرجع إليها أهل الضلال . فسار الخضر بين يدي ذي القرنين يرتحل ونزل ذو القرنين وقد عرف الخضر ما يطلب ذو القرنين ، وذو القرنين يكتم الخضر .
فبينما الخضر يسير إذ عارضه واد ، فظن الخضر أن العين في الوادي ، فلما قام على شفير الوادي قال لأصحابه: قفوا ولا يبرحن رجل من موقفه ، ورمى بالخرزة في الوادي ، فمكث طويلا ثم أضاءته الخرزة وطلب صوتها ، فانتهى إليها فإذا هي على حافة العين ، فنزع الخضر ثيابه ثم دخل العين ، فإذا ماء أشد بياضا من اللبن ، وأحلى من الشهد فشرب واغتسل وتوضأ ، ثم خرج فلبس ثيابه ثم رمى بالخرزة نحو أصحابه فصاحت ، فرجع الخضر إلى صوتها وإلى أصحابه ، فأخذها وركب فسار . ومر ذو القرنين فأخطأ الوادي فسلكوا تلك الظلمة أربعين يوما وأربعين ليلة ، فخرجوا إلى ضوء ليس بضوء شمس ولا قمر ، وأرض حمراء ، ورملة . وإذا قصر مبني في تلك الأرض طوله فرسخ في فرسخ مسور ليس عليه باب ، فنزل ذو القرنين بعسكره ثم خرج وحده حتى دخل القصر ، فإذا حديدة طرفاها على حافتي القصر ، وإذا طائر أسود كأنه الخطاف أو شبه بالخطاف ، مذموم بأنفه إلى الحديدة ، معلق بين السماء والأرض ، فلما سمع الطائر خشخشة ذي القرنين ، قال: من هذا؟ قال: أنا ذو القرنين ، فقال الطائر: يا ذا القرنين أما كفاك ما وراءك حتى وصلت إلي ، يا ذا القرنين حدثني هل كثر البناء بالآجر والجص؟
قال: نعم . فانتفض الطائر انتفاضة ثم انتفخ فبلغ ثلث الحديدة ، ثم قال: هل كثرت شهادات الزور في الأرض؟ قال: نعم . فانتفض الطائر ثم انتفخ فبلغ ثلثي الحديدة ، ثم قال: يا ذا القرنين: حدثني هل كثرت المعازف في الأرض؟ قال: نعم . فانتفض ثم انتفخ فملأ الحديدة ، وسد ما بين جداري القصر ، فاجتث ذو القرنين فرحا ، فقال الطائر: هل ترك الناس شهادة أن لا إله إلا الله؟ قال: لا ، فانضم الطائر ثلثا ، ثم قال: هل تركت الصلاة المفروضة؟ قال: لا ، فانضم الطائر ثلثا ، ثم قال: هل ترك الناس غسل الجنابة ، قال: لا ، فعاد الطائر كما كان ، ثم قال: يا ذا القرنين اسلك هذه الدرجة إلى أعلى القصر ، فسلكها فإذا سطح وعليه رجل قائم ، فلما سمع خشخشة ذي القرنين قال: من هذا؟ قال: أنا ذو القرنين ، قال: يا ذا القرنين أما كفاك ما وراءك حتى وصلت إلي؟ قال: ومن أنت؟ قال: أنا صاحب الصور ، وإن الساعة اقتربت ، وأنا أنتظر أمر ربي أن أنفخ فأنفخ . ثم ناوله حجرا ، فقال: خذها فإن شبع شبعت وإن جاع جعت ، فرجع به إلى أصحابه فوضعوا الحجر في كفه ووضعوا حجرا آخر مقابله ، فإذا به يميل ، فتركوا آخر كذلك إلى ألف حجر ، فمال ذلك الحجر بالكل .
فأخذ الخضر [كفا من تراب] وتركه في إحدى الكفتين وأخذ حجرا من تلك الحجارة فوضعه في الكفة الأخرى وترك معه كفا من تراب ، فوضعه على الحجر الذي جاء به ذو القرنين ، فاستوى في الميزان ، فقال الخضر: هذا مثل ضرب لكم ، إن ابن آدم لا يشبع أبدا دون أن يحثى عليه التراب ، كما لم يشبع هذا الحجر حتى وضعت عليه التراب . قال: صدقت يا خضر لا جرم ، لا طلبت أثرا في البلاد بعد مسيري هذا ، فارتحل راجعا حتى إذا كان في وسط الظلمة وطئ الوادي الذي فيه زبرجد ، فقال من معه: ما هذا الذي تحتنا؟ فقال ذو القرنين: خذوا منه ، فإنه من أخذ ندم ومن ترك ندم . فأخذ قوم وترك قوم ، فلما خرجوا من الظلمة إذا هو بزبرجد ، فندم الآخذ والتارك . ثم رجع ذو القرنين إلى دومة الجندل وكانت منزله فأقام بها حتى مات .
قال الحسن البصري: إن ذا القرنين كان يركب وعلى مقدمته ستمائة ألف ، وعلى ساقته ستمائة ألف . وعند ابن الأثير في كتابه الكامل وعنده أن ذا القرنين هو الإسكندر فلما دخل الظلمات أخذ معه أربعمائة من أصحابه يطلب عين الخلد ، فسار فيها ثمانية عشر يوما ، ثم خرج ولم يظفر بها ، وكان الخضر على مقدمته ، فظفر بها وسبح فيها وشرب منها ، والله أعلم