الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            قوله تعالى : ويسألونك عن ذي القرنين [ الكهف : 83 ] . كان سببه أن قريشا سألوا اليهود عن شيء يمتحنون به علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا لهم : سلوه عن رجل طواف في الأرض ، وعن فتية خرجوا لا يدرى ما فعلوا . فأنزل الله تعالى قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنين . ولهذا قال : قل سأتلو عليكم منه ذكرا أي من خبره وشأنه ذكرا أي خبرا نافعا كافيا في تعريف أمره وشرح حاله . فقال : إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا أي : وسعنا مملكته في البلاد وأعطيناه من آلات المملكة ما يستعين به على تحصيل ما يحاوله من المهمات العظيمة والمقاصد الجسيمة .

            عن حبيب بن حماز ، قال : كنت عند علي بن أبي طالب ، وسأله رجل عن ذي القرنين ، كيف بلغ المشرق والمغرب ؟ فقال : سخر له السحاب ، ومدت له الأسباب ، وبسط له في النور . وقال : أزيدك ؟ فسكت الرجل ، وسكت علي ، رضي الله عنه .

            وعن الحسن ، قال : كان ذو القرنين ، ملك بعد النمرود وكان من قصته أنه كان رجلا مسلما صالحا أتى المشرق والمغرب ، مد الله له في الأجل ونصره ، حتى قهر البلاد واحتوى على الأموال ، وفتح المدائن وقتل الرجال وجال في البلاد والقلاع ، فسار حتى أتى المشرق والمغرب ، فذلك قول الله : ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا أي : خبرا إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا أي : علما بطلب أسباب المنازل .

            قال إسحاق : وزعم مقاتل أنه كان يفتح المدائن ويجمع الكنوز ، فمن اتبعه على دينه وتابعه عليه ، وإلا قتله . وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، وعبيد بن يعلى ، والسدي ، وقتادة ، والضحاك وآتيناه من كل شيء سببا يعني علما . وقال قتادة ، ومطر الوراق : معالم الأرض ومنازلها وأعلامها وآثارها . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يعني تعليم الألسنة ، كان لا يغزو قوما إلا حدثهم بلغتهم .

            والصحيح أنه يعم كل سبب يتوصل به إلى نيل مقصوده في المملكة وغيرها; فإنه كان يأخذ من كل إقليم من الأمتعة والمطاعم والزاد ما يكفيه ويعينه على أهل الإقليم الآخر .

            وذكر بعض أهل الكتاب أنه مكث ألفا وستمائة سنة يجوب الأرض ، ويدعو أهلها إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، وفي كل هذه المدة نظر . والله أعلم . وقد روى البيهقي ، وابن عساكر حديثا متعلقا بقوله : وآتيناه من كل شيء سببا مطولا جدا ، وهو منكر جدا . وفي إسناده محمد بن يونس الكديمي وهو متهم ، فلهذا لم نكتبه لسقوطه عندنا . والله أعلم .

            وقوله : فأتبع سببا أي : طريقا حتى إذا بلغ مغرب الشمس يعني من الأرض ، انتهى إلى حيث لا يمكن أحدا أن يجاوزه ، ووقف على حافة البحر المحيط الغربي الذي يقال له : أوقيانوس الذي فيه الجزائر المسماة بالخالدات ، التي هي مبدأ الأطوال ، على أحد قولي أرباب الهيئة ، والثاني من ساحل هذا البحر كما قدمنا . وعنده شاهد مغيب الشمس - فيما رآه بالنسبة إلى مشاهدته - تغرب في عين حمئة والمراد بها البحر في نظره ، فإن من كان في البحر أو على ساحله يرى الشمس كأنها تطلع من البحر وتغرب فيه ، ولهذا قال وجدها ، أي : في نظره ، ولم يقل : فإذا هي تغرب في عين حمئة . أي : ذات حمأة . قال كعب الأحبار وهو الطين الأسود . وقرأه بعضهم ( حامية ) . فقيل : يرجع إلى الأول . وقيل : من الحرارة . وذلك من شدة المقابلة لوهج ضوء الشمس وشعاعها .

            وقد روى الإمام أحمد بسنده عن عبد الله قال : نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشمس حين غابت فقال : في نار الله الحامية ، لولا ما يزعها من أمر الله لأحرقت ما على الأرض فيه غرابة ، وفيه رجل مبهم لم يسم ، ورفعه فيه نظر ، وقد يكون موقوفا من كلام عبد الله بن عمرو ، فإنه أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب المتقدمين ، فكان يحدث منها ، والله أعلم .

            ومن زعم من القصاص ، أن ذا القرنين جاوز مغرب الشمس ، وصار يمشي بجيوشه في ظلمات مددا طويلة ، فقد أخطأ ، وأبعد النجعة ، وقال ما يخالف العقل والنقل .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية