قوله تعالى : ويسألونك عن ذي القرنين [ الكهف : 83 ] . كان سببه أن قريشا سألوا اليهود عن شيء يمتحنون به علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا لهم : سلوه عن رجل طواف في الأرض ، وعن فتية خرجوا لا يدرى ما فعلوا . فأنزل الله تعالى قصة أصحاب الكهف . ولهذا قال : وقصة ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا أي من خبره وشأنه ذكرا أي خبرا نافعا كافيا في تعريف أمره وشرح حاله . فقال : إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا أي : وسعنا مملكته في البلاد وأعطيناه من آلات المملكة ما يستعين به على تحصيل ما يحاوله من المهمات العظيمة والمقاصد الجسيمة .
عن حبيب بن حماز ، قال : كنت عند علي بن أبي طالب ، وسأله رجل عن ذي القرنين ، كيف بلغ المشرق والمغرب ؟ فقال : سخر له السحاب ، ومدت له الأسباب ، وبسط له في النور . وقال : أزيدك ؟ فسكت الرجل ، وسكت علي ، رضي الله عنه .
وعن الحسن ، قال : كان ذو القرنين ، ملك بعد النمرود وكان من قصته أنه كان رجلا مسلما صالحا أتى المشرق والمغرب ، مد الله له في الأجل ونصره ، حتى قهر البلاد واحتوى على الأموال ، وفتح المدائن وقتل الرجال وجال في البلاد والقلاع ، فسار حتى أتى المشرق والمغرب ، فذلك قول الله : ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا أي : خبرا إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا أي : علما بطلب أسباب المنازل .
قال إسحاق : وزعم مقاتل أنه كان يفتح المدائن ويجمع الكنوز ، فمن اتبعه على دينه وتابعه عليه ، وإلا قتله . وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، وعبيد بن يعلى ، والسدي ، وقتادة ، والضحاك وآتيناه من كل شيء سببا يعني علما . وقال قتادة ، ومطر الوراق : معالم الأرض ومنازلها وأعلامها وآثارها . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يعني تعليم الألسنة ، كان لا يغزو قوما إلا حدثهم بلغتهم .
والصحيح أنه يعم كل سبب يتوصل به إلى نيل مقصوده في المملكة وغيرها; فإنه كان يأخذ من كل إقليم من الأمتعة والمطاعم والزاد ما يكفيه ويعينه على أهل الإقليم الآخر .
وذكر بعض أهل الكتاب أنه مكث ألفا وستمائة سنة يجوب الأرض ، ويدعو أهلها إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، وفي كل هذه المدة نظر . والله أعلم . وقد روى البيهقي ، وابن عساكر حديثا متعلقا بقوله : وآتيناه من كل شيء سببا مطولا جدا ، وهو منكر جدا . وفي إسناده محمد بن يونس الكديمي وهو متهم ، فلهذا لم نكتبه لسقوطه عندنا . والله أعلم .
وقوله : فأتبع سببا أي : طريقا حتى إذا بلغ مغرب الشمس يعني من الأرض ، انتهى إلى حيث لا يمكن أحدا أن يجاوزه ، ووقف على حافة البحر المحيط الغربي الذي يقال له : أوقيانوس الذي فيه الجزائر المسماة بالخالدات ، التي هي مبدأ الأطوال ، على أحد قولي أرباب الهيئة ، والثاني من ساحل هذا البحر كما قدمنا . وعنده شاهد مغيب الشمس - فيما رآه بالنسبة إلى مشاهدته - تغرب في عين حمئة والمراد بها البحر في نظره ، فإن من كان في البحر أو على ساحله يرى الشمس كأنها تطلع من البحر وتغرب فيه ، ولهذا قال وجدها ، أي : في نظره ، ولم يقل : فإذا هي تغرب في عين حمئة . أي : ذات حمأة . قال كعب الأحبار وهو الطين الأسود . وقرأه بعضهم ( حامية ) . فقيل : يرجع إلى الأول . وقيل : من الحرارة . وذلك من شدة المقابلة لوهج ضوء الشمس وشعاعها .
وقد روى الإمام أحمد بسنده عن عبد الله قال : نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشمس حين غابت فقال : في نار الله الحامية ، لولا ما يزعها من أمر الله لأحرقت ما على الأرض فيه غرابة ، وفيه رجل مبهم لم يسم ، ورفعه فيه نظر ، وقد يكون موقوفا من كلام عبد الله بن عمرو ، فإنه أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب المتقدمين ، فكان يحدث منها ، والله أعلم .
ومن زعم من القصاص ، أن ذا القرنين جاوز مغرب الشمس ، وصار يمشي بجيوشه في ظلمات مددا طويلة ، فقد أخطأ ، وأبعد النجعة ، وقال ما يخالف العقل والنقل .