الظاهر من السياق أن قوم أصحاب الكهف كانوا مشركين يعبدون الأصنام . قال كثير من المفسرين والمؤرخين وغيرهم : كانوا في زمن ملك يقال له : دقيانوس . وكانوا من أبناء الأكابر . وقيل : من أبناء الملوك . واتفق اجتماعهم في يوم عيد لقومهم فرأوا ما يتعاطاه قومهم ، من السجود للأصنام والتعظيم للأوثان ، فنظروا بعين البصيرة ، وكشف الله عن قلوبهم حجاب الغفلة ، وألهمهم رشدهم ، فعلموا أن قومهم ليسوا على شيء ، فخرجوا عن دينهم ، وانتموا إلى عبادة الله وحده لا شريك له . ويقال : إن كل واحد منهم لما أوقع الله في نفسه ما هداه إليه من التوحيد ، انحاز عن الناس ، واتفق اجتماع هؤلاء الفتية في مكان واحد ، كما صح في البخاري فكل منهم سأل الآخر عن أمره وعن شأنه ، فأخبره بما هو عليه ، واتفقوا على الانحياز عن قومهم ، والتبري منهم ، والخروج من بين أظهرهم ، والفرار بدينهم منهم ، وهو المشروع حال الفتن وظهور الشرور . قال الله تعالى : الأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين أي : بدليل ظاهر على ما ذهبوا إليه ، وصاروا من الأمر عليه فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله أي : وإذ قد فارقتموهم في دينهم وتبرأتم مما يعبدون من دون الله ، وذلك لأنهم كانوا يشركون مع الله ، كما قال الخليل : إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين [ الزخرف : 26 ، 27 ] . وهكذا هؤلاء الفتية قال بعضهم لبعض : إذ قد فارقتم قومكم في دينهم ، فاعتزلوهم بأبدانكم لتسلموا منهم أن يوصلوا إليكم شرا فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا أي : يسبل عليكم ستره ، وتكونوا تحت حفظه وكنفه ، ويجعل عاقبة أمركم إلى خير ، كما جاء في الحديث : اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها ، وأجرنا من خزي الدنيا ومن عذاب الآخرة ولما ذكر الله تعالى ما هو الأنفع من خبرهم والأهم من أمرهم ، ووصف حالهم ، حتى كأن السامع راء ، والمخبر مشاهد لصفة كهفهم ، وكيفيتهم في ذلك الكهف وتقلبهم من جنب إلى جنب ، وأن كلبهم باسط ذراعيه بالوصيد . قال : لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا أي : لما عليهم من المهابة والجلالة في أمرهم الذي صاروا إليه ، ولعل الخطاب هاهنا لجنس الإنسان المخاطب ، لا لخصوصية الرسول صلى الله عليه وسلم ، كقوله : فما يكذبك بعد بالدين [ التين : 7 ] . أي : أيها الإنسان ; وذلك لأن طبيعة البشرية تفر من رؤية الأشياء المهيبة غالبا ، ولهذا قال : لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا ، ودل على أن الخبر ليس كالمعاينة ، كما جاء في الحديث; لأن الخبر قد حصل ولم يحصل الفرار ولا الرعب . ثم ذكر تعالى أنه بعثهم من رقدتهم بعد نومهم بثلاثمائة سنة وتسع سنين ، فلما استيقظوا ، قال بعضهم لبعض : كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة أي : بدراهمكم هذه ، يعني التي معهم ، إلى المدينة . ويقال ، كان اسمها دفسوس . فلينظر أيها أزكى طعاما أي : أطيب مالا فليأتكم برزق منه أي : بطعام تأكلونه ، وهذا من زهدهم وورعهم وليتلطف أي : في دخوله إليها ولا يشعرن بكم أحدا إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا أي : إن عدتم في ملتهم بعد إذ أنقذكم الله منها ; وهذا كله لظنهم أنهم رقدوا يوما أو بعض يوم أو أكثر من ذلك ، ولم يحسبوا أنهم قد رقدوا أزيد من ثلاثمائة سنة وقد تبدلت الدول أطوارا عديدة ، وتغيرت البلاد ومن عليها ، وذهب أولئك القرن الذين كانوا فيهم ، وجاء غيرهم وذهبوا ، وجاء غيرهم ; ولهذا لما خرج أحدهم ، وهو تيذوسيس فيما قيل ، وجاء إلى المدينة متنكرا ; لئلا يعرفه أحد من قومه فيما يحسبه ، تنكرت له البلاد واستنكره من رآه من أهلها ، واستغربوا شكله وصفته ودراهمه . وقيل أنهم قالوا لتمليخا صاحب نفقتهم: انطلق [ فاسمع ما يذكرونه ] وابتع لنا طعاما ، فوضع ثيابه ، وأخذ الثياب التي يتنكر فيها وخرج ، فمر مستخفيا متخوفا أن يراه أحد ، فلما رأى باب المدينة رأى عليه علامة تكون لأهل الإيمان فعجب ، وخيل إليه أنها ليست المدينة التي يعرف ، ورأى ناسا لا يعرفهم ، فتعجب ، وجعل يقول: لعلي نائم ، فلما دخلها رأى قوما يحلفون باسم عيسى فقام مسندا ظهره إلى جدار ، وقال في نفسه: والله ما أدري لما هذا إلا غشية ، أمس لم يكن على وجه الأرض من يذكر عيسى إلا قتل ، واليوم أسمعهم يذكرونه ، لعل هذه ليست بالمدينة التي أعرف ، والله ما أعرف مدينة قرب مدينتنا [ شيئا ] .
فقام كالحيوان ، وأخرج ورقا ، فأعطاه رجلا ، وقال: بعني طعاما . فنظر الرجل إلى نقشه فعجب ثم ألقاه إلى آخر ، فجعلوا يتطارحونه بينهم ويتعجبون ويتناقدون وقالوا: إن هذا قد أصاب كنزا ففرق منهم وظنهم قد عرفوه ، فقال: أمسكوا طعامكم فلا حاجة لي إليه ، فقالوا له: من أنت يا فتى ، والله لقد وجدت كنزا ، وأنت تريد أن تخفيه ، فشاركنا فيه ، وإلا أتينا بك إلى السلطان فيقتلك . فلم يدر ما يقول ، فطرحوا كساءه في عنقه وهو يبكي ويقول: فرق بيني وبين إخوتي يا ليتهم يعلمون ما أصبت فأتوا به إلى رجلين كانا يدبران أمر المدينة ، فقالا: أين الكنز الذي وجدت ؟ فقال: ما وجدت كنزا ، ولكن ما هذه ورق آبائي ونقش هذه المدينة وضربها ، ولكن والله ما أدري ما شأني ولا ما أقول [ لكم ] .
قال مجاهد : وكان ورق أصحاب الكهف مثل أخفاف الإبل فقالوا: من أنت ، وما اسم أبيك ؟ فأخبرهم ، فلم يجدوا من يعرفه ، فقال له أحدهما: أتظن أنك تسخر منا وخزائن هذه المدينة بأيدينا وليس عندنا من هذا الضرب درهم ولا دينار ، إني سآمر بك فتعذب عذابا شديدا ، ثم أوثقك حتى تعرف هذا الكنز .
فقال تمليخا : أنبئوني عن شيء أسألكم عنه ، فإن فعلتم صدقتم . قالوا: سل ، قال: ما فعل الملك دقيانوس ، قالوا: لا نعرف اليوم على وجه الأرض ملكا يسمى دقيانوس ، وإنما هذا ملك منذ زمان طويل ، وهلكت بعده قرون كثيرة ، فقال: والله ما يصدقني أحد بما أقوله ، لقد كنا فتية ، وأكرهنا الملك على عبادة الأوثان والذبح للطواغيت ، فهربنا منه عشية أمس ، فنمنا ، فلما انتبهنا خرجت أشتري لأصحابي طعاما ، فإذا أنا كما ترون ، فانطلقوا معي إلى الكهف أريكم أصحابي .
فانطلقوا معه وسار أهل المدينة فكان أصحابه قد ظنوا لإبطائه عليهم أنه قد أخذ ، فبينما هم يتخوفون ذلك إذ سمعوا الأصوات وجلبة الخيل ، فظنوا أنهم رسل دقيانوس ، فقاموا إلى الصلاة وسلم بعضهم على بعض فسبق تمليخا إليهم وهو يبكي فبكوا معه وسألوه عن شأنه فأخبرهم ، وقص عليهم النبأ كله ، فعرفوا أنهم كانوا نياما بأمر الله عز وجل ، وإنما أوقظوا ليكونوا آية للناس ، وتصديقا للبعث .
ونظر الناس [ إلى ] المسطور الذي فيه أسماؤهم وقصتهم فأرسلوا إلى ملكهم ، فجاء واعتنق القوم وبكى ، فقالوا له: نستودعك الله ونقرأ عليك السلام ، حفظك الله ، وحفظ ملكك ، فبينا الملك قائم رجعوا إلى مضاجعهم ، وتوفى الله سبحانه أنفسهم وقيل أن أهل البلدة ، لم يهتدوا إلى موضعهم من الغار ، وعمى الله عليهم أمرهم . ويقال : لم يستطيعوا دخوله حسا . ويقال : مهابة لهم .
سبب إيمان أصحاب الكهف وفي رواية أخرى ذكرها ابن الأثير في كتابه الكامل أن سبب إيمانهم أنه جاء حواري من أصحاب عيسى إلى مدينتهم فأراد أن يدخلها ، فقيل له : إن على بابها صنما لا يدخلها أحد حتى يسجد له ، فلم يدخلها وأتى حماما قريبا من المدينة ، فكان يعمل فيه ، فرأى صاحب الحمام البركة وعلقه الفتية ، فجعل يخبرهم خبر السماء والأرض وخبر الآخرة حتى آمنوا به وصدقوه . فكان على ذلك حتى جاء ابن الملك بامرأة فدخل بها الحمام ، فعيره الحواري فاستحيا ، ثم رجع مرة أخرى فعيره فسبه وانتهره ودخل الحمام ومعه المرأة ، فماتا في الحمام ، فقيل للملك : إن الذي بالحمام قتلهما ، فطلب فلم يوجد ، فقيل : من كان يصحبه ؟ فذكر الفتية ، فطلبوا فهربوا ، فمروا بصاحب لهم على حالهم في زرع له فذكروا له أمرهم . فسار معهم وتبعهم الكلب الذي له ، حتى آواهم الليل إلى الكهف ، فقالوا : نبيت ههنا حتى نصبح ثم نرى رأينا ، فدخلوه فرأوا عنده عين ماء وثمارا ، فأكلوا من الثمار وشربوا من الماء ، فلما جنهم الليل ضرب الله على آذانهم ووكل بهم ملائكة يقلبونهم ذات اليمين وذات الشمال لئلا تأكل الأرض أجسادهم ، وكانت الشمس تطلع عليهم .
وسمع الملك دقيانوس خبرهم فخرج في أصحابه يتبعون أثرهم حتى وجدهم قد دخلوا الكهف ، وأمر أصحابه بالدخول إليهم وإخراجهم . فكلما أراد رجل أن يدخل فأرعب فعاد ، فقال بعضهم : أليس لو كنت ظفرت بهم قتلتهم ؟ قال : بلى . قال : فابن عليهم باب الكهف ودعهم يموتوا جوعا وعطشا . ففعل ، فبقوا زمانا بعد زمان .
ثم إن راعيا أدركه المطر فقال : لو فتحت باب هذا الكهف فأدخلت غنمي فيه ، ففتحه ، فرد الله إليهم أرواحهم من الغد حين أصبحوا ، فبعثوا أحدهم بورق ليشتري لهم طعاما ، واسمه تمليخا ، فلما أتى باب المدينة رأى ما أنكره حتى دخل على رجل فقال : بعني بهذه الدراهم طعاما . فقال : فمن أين لك هذه الدراهم ؟ قال : خرجت أنا وأصحاب لي أمس ثم أصبحوا فأرسلوني . فقال : هذه الدراهم كانت على عهد الملك الفلاني . فرفعه إلى الملك ، وكان ملكا صالحا ، فسأله عنها ، فأعاد عليه حالهم . فقال الملك : أين أصحابك ؟ قال : انطلقوا معي . فانطلقوا معه حتى أتوا باب الكهف ، فقال : دعوني أدخل إلى أصحابي قبلكم لئلا يسمعوا أصواتكم فيخافوا ظنا منهم أن دقيانوس قد علم بهم ، فدخل عليهم وأخبرهم الخبر ، فسجدوا شكرا لله وسألوه أن يتوفاهم ، فاستجاب لهم . فضرب على أذنه وآذانهم ، وأراد الملك الدخول عليهم فكانوا كلما دخل عليهم رجل أرعب ، فلم يقدروا أن يدخلوا عليهم ، فعاد عنهم ، فبنوا عليهم كنيسة يصلون فيها .
قال عكرمة : لما بعثهم الله كان الملك حينئذ مؤمنا ، وكان قد اختلف أهل مملكته في الروح والجسد وبعثهما ، فقال قائل : يبعث الله الروح دون الجسد . وقال قائل : يبعثان جميعا ، فشق ذلك على الملك فلبس المسوح وسأل الله أن يبين له الحق ، فبعث الله أصحاب الكهف بكرة ، فلما بزغت الشمس قال بعضهم لبعض : قد غفلنا هذه الليلة عن العبادة ، فقاموا إلى الماء ، وكان عند الكهف عين وشجرة ، فإذا العين قد غارت والأشجار قد يبست ، فقال بعضهم لبعض : إن أمرنا لعجب ! هذه العين غارت وهذه الأشجار يبست في ليلة واحدة ! وألقى الله عليهم الجوع ، فقالوا أيكم يذهب ( إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا ) .
فدخل أحدهم يشتري الطعام ، فلما رأى السوق عرف طرقها وأنكر الوجوه ورأى الإيمان ظاهرا بها ، فأتى رجلا يشتري منه ، فأنكر الدراهم ، فرفعه إلى الملك ، فقال الفتى : أليس ملككم فلان ؟ فقال الرجل : لا بل فلان فعجب لذلك . فلما أحضر عند الملك أخبره بخبر أصحابه ، فجمع الملك الناس وقال لهم : إنكم قد اختلفتم في الروح والجسد ، وإن الله قد بعث لكم آية هذا الرجل من قوم فلان ، يعني الملك الذي مضى . فقال الفتى : انطلقوا بي إلى أصحابي ، فركب الملك والناس معه ، فلما انتهى إلى الكهف قال الفتى للملك : ذروني أسبقكم إلى أصحابي أعرفهم خبركم لئلا يخافوا إذا سمعوا وقع حواف دوابكم وأصواتكم فيظنوكم دقيانوس . فقال : افعل ، فسبقهم إلى أصحابه ودخل على أصحابه فأخبرهم الخبر ، فعلموا حينئذ مقدار لبثهم في الكهف وبكوا فرحا ودعوا الله أن يميتهم ولا يراهم أحد ممن جاءهم ، فماتوا لساعتهم ، فضرب الله على أذنه وآذانهم معه . فلما استبطأوه دخلوا إلى الفتية فإذا أجسادهم لا ينكرون منها شيئا غير أنها لا أرواح فيها ، فقال الملك : هذه آية لكم . ورأى الملك تابوتا من نحاس مختوما بخاتم ، ففتحه ، فرأى فيه لوحا من رصاص مكتوبا فيه أسماء الفتية ، وأنهم هربوا من دقيانوس الملك مخافة على نفوسهم ودينهم فدخلوا هذا الكهف . فلما علم دقيانوس بمكانهم بالكهف سده عليهم . فليعلم من يقرأ كتابنا هذا شأنهم .
فلما قرأوه عجبوا وحمدوا الله تعالى الذي أراهم هذه الآية للبعث ورفعوا أصواتهم بالتحميد والتسبيح .
وقيل : إن الملك ومن معه دخلوا على الفتية فرأوهم أحياء مشرقة وجوههم وألوانهم لم تبل ثيابهم ، وأخبرهم الفتية بما لقوا من ملكهم دقيانوس ، واعتنقهم الملك ، وقعدوا معه يسبحون الله ويذكرونه . ثم قالوا له : نستودعك الله . ورجعوا إلى مضاجعهم كما كانوا ، فعمل الملك لكل رجل منهم تابوتا من الذهب ، فلما نام رآهم في منامه وقالوا : إننا لم نخلق من الذهب إنما خلقنا من التراب وإليه نصير ، فعمل لهم حينئذ توابيت من خشب ، فحجبهم الله بالرعب ، وبنى الملك على باب الكهف مسجدا وجعل لهم عيدا عظيما .