الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ذكره الله تعالى في القرآن فأثنى عليه ، وحكى من كلامه فيما وعظ به ولده الذي هو أحب الخلق إليه وهو أشفق الناس عليه فكان من أول ما وعظ به أن قال : يابني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم [ لقمان : 13 ] فنهاه عنه ، وحذره منه .

            وقد قال البخاري بسنده عن عبد الله قال لما نزلت الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم [ الأنعام : 82 ] شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : أينا لم يلبس إيمانه بظلم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه ليس بذاك ألم تسمع إلى قول لقمان ؟ يابني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم [ لقمان : 13 ] ورواه مسلم من حديث سليمان بن مهران الأعمش به ، ثم اعترض تعالى بالوصية بالوالدين ، وبيان حقهما على الولد ، وتأكده ، وأمر بالإحسان إليهما حتى ولو كانا مشركين ، ولكن لا يطاعان على الدخول في دينهما ، إلى أن قال مخبرا عن لقمان فيما وعظ به ولده يابني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير ينهاه عن ظلم الناس ولو بحبة خردل فإن الله يسأل عنها ويحضرها حوزة الحساب ، ويضعها في الميزان . كما قال تعالى إن الله لا يظلم مثقال ذرة [ النساء : 40 ] وقال تعالى ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين [ الأنبياء : 47 ] .

            وأخبره أن هذا الظلم لو كان في الحقارة كالخردلة ولو كان في جوف صخرة صماء لا باب لها ولا كوة ، أو لو كانت ساقطة في شيء من ظلمات الأرض أو السماوات في اتساعهما ، وامتداد أرجائهما لعلم الله مكانها إن الله لطيف خبير أي علمه دقيق فلا يخفى عليه الذر مما تراءى للنواظر أو توارى كما قال تعالى وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين [ الأنعام : 59 ] وقال وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين [ النمل : 75 ] وقال عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين [ سبأ : 3 ] وقد زعم السدي في خبره عن الصحابة أن المراد بهذه الصخرة; الصخرة التي تحت الأرضين السبع ، وهكذا حكي عن عطية العوفي ، وأبي مالك والثوري والمنهال بن عمرو وغيرهم ، وفي صحة هذا القول من أصله نظر ، ثم في أن هذا هو المراد نظر آخر فإن هذه الآية نكرة غير معرفة فلو كان المراد بها ما قالوه لقال : فتكن في الصخرة ، وإنما المراد فتكن في صخرة أي صخرة كانت كما قال الإمام أحمد وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لخرج عمله للناس كائنا ما كان ثم قال يا بني أقم الصلاة أي أدها بجميع واجباتها من حدودها ، وأوقاتها ، وركوعها ، وسجودها ، وطمأنينتها ، وخشوعها وما شرع فيها ، واجتنب ما نهي عنه فيها ، ثم قال وأمر بالمعروف وانه عن المنكر أي بجهدك ، وطاقتك أي إن استطعت باليد فباليد ، وإلا فبلسانك فإن لم تستطع فبقلبك ، ثم أمره بالصبر فقال واصبر على ما أصابك وذلك أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر في مظنة أن يعادى ، وينال منه ، ولكن له العاقبة ، ولهذا أمره بالصبر على ذلك ، ومعلوم أن عاقبة الصبر الفرج ، وقوله إن ذلك من عزم الأمور أي أن أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر وصبرك على الأذى من عزائم الأمور التي لا بد منها ولا محيد عنها ، وقوله ولا تصعر خدك للناس قال ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير والضحاك ، ويزيد بن الأصم ، وأبو الجوزاء ، وغير واحد : معناه لا تتكبر على الناس ، وتميل خدك حال كلامك لهم ، وكلامهم لك على وجه التكبر عليهم والازدراء لهم قال أهل اللغة : وأصل الصعر داء يأخذ الإبل في أعناقها فتلتوي رءوسها فشبه به الرجل المتكبر الذي يميل وجهه إذا كلم الناس أو كلموه على وجه التعاظم عليهم .

            قال أبو طالب في شعره


            وكنا قديما لا نقر ظلامة إذا ما ثنوا صعر الخدود نقيمها

            وقال عمرو بن حني التغلبي


            وكنا إذا الجبار صعر خده     أقمنا له من ميله فتقوما

            وقوله ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور ينهاه عن التبختر في المشية على وجه العظمة والفخر على الناس كما قال تعالى ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا [ الإسراء : 37 ] يعني : لست بسرعة مشيك تقطع البلاد في مشيتك هذه ، ولست بدقك الأرض برجلك تخسف الأرض بوطئك عليها ، ولست بتشامخك ، وتعاظمك ، وترفعك تبلغ الجبال طولا فاتئد على نفسك فلست تعدو قدرك .

            وقد ثبت في الحديث بينما رجل يمشي في برديه يتبختر فيهما إذ خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة وفي الحديث الآخر إياك ، وإسبال الإزار فإنها من المخيلة والمخيلة لا يحبها الله .

            كما قال في هذه الآية إن الله لا يحب كل مختال فخور ولما نهاه عن الاختيال في المشي أمره بالقصد فيه فإنه لابد له أن يمشي فنهاه عن الشر ، وأمره بالخير فقال واقصد في مشيك أي لا تتباطأ مفرطا ولا تسرع إسراعا مفرطا ، ولكن بين ذلك قواما كما قال تعالى وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما [ الفرقان : 63 ] ثم قال واغضض من صوتك يعني : إذا تكلمت فلا تتكلف رفع صوتك فإن أرفع الأصوات ، وأنكرها صوت الحمير .

            وقد ثبت في الصحيحين الأمر بالاستعاذة عند سماع صوت الحمير بالليل فإنها رأت شيطانا ، ولهذا نهي عن رفع الصوت حيث لا حاجة إليه ولا سيما عند العطاس فيستحب خفض الصوت ، وتخمير الوجه; كما ثبت به الحديث من صنيع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما رفع الصوت بالأذان ، وعند الدعاء إلى الفئة للقتال ، وعند الإهلال ، ونحو ذلك فذلك مشروع فهذا مما قصه الله تعالى عن لقمان عليه السلام في القرآن من الحكم والمواعظ والوصايا النافعة الجامعة للخير المانعة من الشر ، آثار في أخبار ومواعظ لقمان عليه السلام وقد وردت آثار كثيرة في أخباره ومواعظه ، وقد كان له كتاب يؤثر عنه يسمى بحكمة لقمان ، ونحن نذكر من ذلك ما تيسر إن شاء الله تعالى .

            قال الإمام أحمد بسنده عن ابن عمر قال أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن لقمان الحكيم كان يقول إن الله إذا استودع شيئا حفظه

            وعن القاسم بن مخيمرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قال لقمان لابنه وهو يعظه : يا بني إياك والتقنع; فإنه مخوفة بالليل مذلة بالنهار . .

            وعن السري بن يحيى قال لقمان لابنه : يا بني إن الحكمة أجلست المساكين مجالس الملوك ، وعن عون بن عبد الله قال : قال لقمان لابنه : يا بني إذا أتيت نادي قوم فارمهم بسهم الإسلام - يعني السلام - ثم اجلس في ناحيتهم فلا تنطق حتى تراهم قد نطقوا فإن أفاضوا في ذكر الله فأجل سهمك معهم ، وإن أفاضوا في غير ذلك فتحول عنهم إلى غيرهم . وعن حفص بن عمر ، قال : وضع لقمان جرابا من خردل إلى جانبه ، وجعل يعظ ابنه وعظة ويخرج خردلة حتى نفد الخردل فقال : يا بني لقد وعظتك موعظة لو وعظها جبل لتفطر . قال : فتفطر ابنه .

            فوائد الإمام أحمد في كتابه الزهد عن لقمان عليه السلام وقد ذكر له الإمام أحمد ترجمة في كتاب الزهد ذكر فيها فوائد مهمة وفرائد جمة فقال عن رجل عن مجاهد ولقد آتينا لقمان الحكمة قال : الفقه والإصابة في غير نبوة ، وعن ابن عباس قال : كان لقمان عبدا حبشيا .

            وعن سعيد بن المسيب أن لقمان كان خياطا .

            وعن مالك - يعني - ابن دينار قال : قال لقمان لابنه : يا بني اتخذ طاعة الله تجارة ; تأتك الأرباح من غير بضاعة .

            وعن محمد بن واسع قال : كان لقمان يقول لابنه : يا بني اتق الله ولا تر الناس أنك تخشى الله ليكرموك بذلك وقلبك فاجر .

            وعن خالد الربعي قال : كان لقمان عبدا حبشيا نجارا فقال له سيده : اذبح لي شاة فذبح له شاة فقال له : ائتني بأطيب مضغتين فيها فأتاه باللسان والقلب فقال : أما كان فيها شيء أطيب من هذين ؟ قال : لا . قال : فسكت عنه ما سكت ، ثم قال له : اذبح لي شاة فذبح له شاة فقال له : ألق أخبثها مضغتين فرمى باللسان والقلب فقال : أمرتك أن تأتيني بأطيبها مضغتين; فأتيتني باللسان والقلب ، وأمرتك أن تلقي أخبثها مضغتين; فألقيت اللسان والقلب فقال : إنه ليس شيء أطيب منهما إذا طابا ولا أخبث منهما إذا خبثا .

            وعن أبي عثمان رجل من أهل البصرة يقال له : الجعد أبو عثمان قال : قال لقمان لابنه : لا ترغب في ود الجاهل فيرى أنك ترضى عمله ولا تهاون بمقت الحكيم فيزهد فيك .

            وعن عبد الله بن زيد قال : قال لقمان : ألا إن يد الله على أفواه الحكماء لا يتكلم أحدهم إلا ما هيأ الله له .

            وعن ابن جريج قال : كنت أقنع رأسي بالليل فقال لي عمرو : أما علمت أن لقمان قال : القناع بالنهار مذلة ، معذرة أو قال معجزة بالليل فلم تقنع رأسك بالليل ؟ قال : قلت له : إن لقمان لم يكن عليه دين ، وعن سفيان قال : قال لقمان لابنه : يا بني ما ندمت على الصمت قط ، وإن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب .

            وعن قتادة أن لقمان قال لابنه : يا بني اعتزل الشر يعتزلك فإن الشر للشر خلق .

            وعن هشام بن عروة عن أبيه قال : مكتوب في الحكمة يا بني إياك والرغب فإن الرغب كل الرغب يبعد القريب من القريب ، ويزيل الحلم كما يزيل الطرب يا بني إياك وشدة الغضب فإن شدة الغضب ممحقة لفؤاد الحكيم .

            قال الإمام أحمد بسنده عن عبيد بن عمير قال : قال لقمان لابنه وهو يعظه : يا بني اختر المجالس على عينك فإذا رأيت المجلس يذكر فيه الله عز وجل فاجلس معهم فإنك إن تك عالما ينفعك علمك ، وإن تك غبيا يعلموك ، وإن يطلع الله عليهم برحمة تصبك معهم يا بني لا تجلس في المجلس الذي لا يذكر الله فيه فإنك إن تك عالما لا ينفعك علمك ، وإن تك غبيا يزيدوك غباء ، وإن يطلع الله إليهم بعد ذلك بسخط يصبك معهم يا بني لا تغبطن امرأ رحب الذراعين يسفك دماء المؤمنين فإن له عند الله قاتلا لا يموت .

            وعن هشام بن عروة عن أبيه قال : مكتوب في الحكمة : بني لتكن كلمتك طيبة ، وليكن وجهك بسطا ، تكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم العطاء ، وقال مكتوب في الحكمة أو في التوراة : الرفق رأس الحكمة . وقال مكتوب في التوراة : كما ترحمون ترحمون ، وقال مكتوب في الحكمة : كما تزرعون تحصدون ، وقال مكتوب في الحكمة : أحب خليلك ، وخليل أبيك .

            وعن أبي قلابة قال : قيل للقمان : أي الناس أصبر ؟ قال : صبر لا يتبعه أذى قيل : فأي الناس أعلم ؟ قال : من ازداد من علم الناس إلى علمه قيل : فأي الناس خير ؟ قال : الغني قيل : الغني من المال ؟ قال : لا ، ولكن الغني الذي إذا التمس عنده خير وجد ، وإلا أغنى نفسه عن الناس .

            وحدثنا سفيان - هو ابن عيينة - قال قيل للقمان : أي الناس شر ؟ قال : الذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئا ، وعن مالك بن دينار قال وجدت في بعض الحكمة يبدد الله عظام الذين يتكلمون بأهواء الناس ، ووجدت فيها لا خير لك في أن تعلم ما لم تعلم ، ولما تعمل بما قد علمت ; فإن مثل ذلك مثل رجل احتطب حطبا فحزم حزمة ، ثم ذهب يحملها فعجز عنها فضم إليها أخرى .

            وعن أبي سعيد قال : قال لقمان لابنه : يا بني لا يأكل طعامك إلا الأتقياء ، وشاور في أمرك العلماء .

            وهذا مجموع ما ذكره الإمام أحمد في هذه المواضع وقد قدمنا من الآثار كثيرا لم يروها كما أنه ذكر أشياء ليست عندنا . والله أعلم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية