الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ذكر تجديد حفر زمزم

            على يدي عبد المطلب بن هاشم ، التي كان قد درس رسمها بعد طم جرهم لها إلى زمانه .

            قال محمد بن إسحاق : ثم إن عبد المطلب بينما هو نائم في الحجر ، إذ أتي فأمر بحفر زمزم وكان أول ما ابتدئ به عبد المطلب من حفرها ، كما حدثني يزيد بن أبي حبيب المصري عن مرثد بن عبد الله اليزني عن عبد الله بن زرير الغافقي أنه سمع علي بن أبي طالب يحدث حديث زمزم حين أمر عبد المطلب بحفرها قال : قال عبد المطلب : إني لنائم في الحجر إذ أتاني آت فقال لي : احفر طيبة قال : قلت : وما طيبة ؟ قال : ثم ذهب عني فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فجاءني فقال : احفر برة قال : قلت : وما برة ؟ قال : ثم ذهب عني فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فجاءني فقال : احفر المضنونة قال : قلت : وما المضنونة ؟ قال : ثم ذهب عني فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني قال : احفر زمزم قال : قلت : وما زمزم ؟ قال : لا تنزف أبدا ولا تذم ، تسقي الحجيج الأعظم .

            وهي بين الفرث والدم ، عند نقرة الغراب الأعصم ، عند قرية النمل . قال : فلما بين لي شأنها ، ودل على موضعها ، وعرف أنه قد صدق ، غدا بمعوله ، ومعه ابنه الحارث بن عبد المطلب - وليس له يومئذ ولد غيره - فحفر فلما بدا لعبد المطلب الطي كبر فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته فقاموا إليه فقالوا : يا عبد المطلب إنها بئر أبينا إسماعيل ، وإن لنا فيها حقا فأشركنا معك فيها . قال : ما أنا بفاعل ، إن هذا الأمر قد خصصت به دونكم ، وأعطيته من بينكم ، قالوا له : فأنصفنا فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها . قال : فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه . قالوا : كاهنة بني سعد بن هذيم . قال : نعم . وكانت بأشراف الشام فركب عبد المطلب ، ومعه نفر من بني أمية ، وركب من كل قبيلة من قريش نفر فخرجوا والأرض إذ ذاك مفاوز حتى إذا كانوا ببعضها نفد ماء عبد المطلب وأصحابه فعطشوا حتى استيقنوا بالهلكة فاستسقوا من معهم فأبوا عليهم ، وقالوا : إنا بمفازة ، وإنا نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم .

            فقال عبد المطلب : إني أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه بما بكم الآن من القوة فكلما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته ثم واروه حتى يكون آخرهم رجلا واحدا فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعا . فقالوا : نعم ما أمرت به فحفر كل رجل لنفسه حفرة ، ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشى ، ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه : إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت - لا نضرب في الأرض لا نبتغي لأنفسنا - لعجز فعسى أن يرزقنا الله ماء ببعض البلاد . فارتحلوا حتى إذا بعث عبد المطلب راحلته انفجرت من تحت خفها عين ماء عذب فكبر عبد المطلب وكبر أصحابه ، ثم نزل فشرب وشرب أصحابه ، واستقوا حتى ملئوا أسقيتهم ، ثم دعا قبائل قريش ، وهم ينظرون إليهم في جميع هذه الأحوال فقال : هلموا إلى الماء فقد سقانا الله فجاءوا فشربوا واستقوا كلهم ، ثم قالوا لعبد المطلب : قد والله قضي لك علينا والله ما نخاصمك في زمزم أبدا ، إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الذي سقاك زمزم فارجع إلى سقايتك راشدا فرجع ورجعوا معه ، ولم يصلوا إلى الكاهنة ، وخلوا بينه وبين زمزم .

            قال ابن إسحاق : فهذا ما بلغني عن علي بن أبي طالب في زمزم قال ابن إسحاق وقد سمعت من يحدث عن عبد المطلب أنه قيل له حين أمر بحفر زمزم

            ثم ادع بالماء الروى غير الكدر يسقي حجيج الله في كل مبر ليس يخاف منه شيء ما عمر قال : فخرج عبد المطلب حين قيل له ذلك إلى قريش فقال : تعلموا أني قد أمرت أن أحفر زمزم قالوا : فهل بين لك أين هي ؟ قال : لا ، قالوا : فارجع إلى مضجعك الذي رأيت فيه ما رأيت فإن يك حقا من الله يبين لك ، وإن يك من الشيطان فلن يعود إليك . فرجع ونام فأتي فقيل له : احفر زمزم إنك إن حفرتها لن تندم ، وهي تراث من أبيك الأعظم ، لا تنزف أبدا ولا تذم ، تسقي الحجيج الأعظم مثل نعام حافل لم يقسم ، وينذر فيها ناذر لمنعم ، تكون ميراثا وعقدا محكم ، ليست كبعض ما قد تعلم ، وهي بين الفرث والدم .

            قال ابن إسحاق : فزعموا أن عبد المطلب حين قيل له ذلك قال : وأين هي ؟ قيل له : عند قرية النمل ، حيث ينقر الغراب غدا . فالله أعلم أي ذلك كان . قال : فغدا عبد المطلب ومعه ابنه الحارث ، وليس له يومئذ ولد غيره - زاد الأموي ومولاه أصرم - فوجد قرية النمل ، ووجد الغراب ينقر عندها بين الوثنين إساف ونائلة ، اللذين كانت قريش تنحر عندهما فجاء بالمعول وقام ليحفر حيث أمر فقامت إليه قريش ، وقالوا : والله لا نتركك تحفر بين وثنينا اللذين ننحر عندهما فقال عبد المطلب لابنه الحارث : ذد عني حتى أحفر فوالله لأمضين لما أمرت به فلما عرفوا أنه غير نازع خلوا بينه وبين الحفر ، وكفوا عنه فلم يحفر إلا يسيرا حتى بدا له الطي فكبر ، وعرف أنه قد صدق فلما تمادى به الحفر وجد فيها غزالتين من ذهب اللتين كانت جرهم قد دفنتهما ، ووجد فيها أسيافا قلعية وأدراعا فقالت له قريش : يا عبد المطلب لنا معك في هذا شرك وحق قال : لا ، ولكن هلم إلى أمر نصف بيني وبينكم ، نضرب عليها بالقداح قالوا : وكيف نصنع ؟ قال : أجعل للكعبة قدحين ، ولي قدحين ، ولكم قدحين فمن خرج قدحاه على شيء كان له ، ومن تخلف قدحاه فلا شيء له قالوا : أنصفت فجعل للكعبة قدحين أصفرين ، وله أسودين ، ولهم أبيضين ، ثم أعطوا القداح للذي يضرب عند هبل ، وهبل أكبر أصنامهم ، ولهذا قال أبو سفيان يوم أحد اعل هبل يعني هذا الصنم ، وقام عبد المطلب يدعو الله ، وذكر يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق أن عبد المطلب جعل يقول :

            اللهم أنت الملك المحمود ربي فأنت المبدئ المعيد وممسك الراسية الجلمود من عندك الطارف والتليد إن شئت ألهمت كما تريد لموضع الحلية والحديد فبين اليوم لما تريد إني نذرت العاهد المعهود اجعله لي رب فلا أعود قال : وضرب صاحب القداح فخرج الأصفران على الغزالتين للكعبة ، وخرج الأسودان على الأسياف والأدراع لعبد المطلب ، وتخلف قدحا قريش فضرب عبد المطلب الأسياف بابا للكعبة ، وضرب في الباب الغزالتين من ذهب فكان أول ذهب حليته الكعبة - فيما يزعمون - ثم إن عبد المطلب أقام سقاية زمزم للحاج .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية