الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            [ نكران الرسول صلى الله عليه وسلم على ابن جحش قتاله في الشهر الحرام ] ثم سار عبد الله بالعير والأسيرين إلى المدينة ، فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام» . فأوقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا . ويقال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوقف غنائم أهل نخلة حتى رجع من بدر فقسمها مع غنائم أهل بدر ، وأعطى كل قوم حقهم . فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك سقط في أيدي القوم وظنوا أنهم قد هلكوا وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا .

            وقالت قريش : «قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام ، وسفكوا فيه الدماء ، وأخذوا فيه الأموال ، وأسروا فيه الرجال» . فقال : «من يرد عليهم من المسلمين ممن كان بمكة ، إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان» ؟ وقال يهود تفاءل بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم : «عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله : عمرو ، عمرت الحرب ، والحضرمي حضرت الحرب ، وواقد بن عبد الله ، وقدت الحرب» .

            فجعل الله تعالى ذلك عليهم لا لهم . [ نزول القرآن في فعل ابن جحش وإقرار الرسول له صلى الله عليه وسلم في فعله ] فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم : يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ، قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل [البقرة 217] . أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به وعن المسجد الحرام وإخراجكم منه ، وأنتم أهله أكبر عند الله من قتل من قتلتم منهم . والفتنة أكبر من القتل وقد كانوا يفتنون المسلم في دينه حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه؛ فذلك أكبر عند الله من القتل . فالفتنة التي حصلت منكم به أكبر عند الله من قتالهم في الشهر الحرام ، وأكثر السلف فسروا الفتنة هاهنا بالشرك كقوله تعالى : ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) [ البقرة : 193 ] . ويدل عليه قوله : ( ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ) [ الأنعام : 23 ] أي : لم يكن مآل شركهم وعاقبته ، وآخر أمرهم ، إلا أن تبرءوا منه وأنكروه .

            وحقيقتها : أنها الشرك الذي يدعو صاحبه إليه ويقاتل عليه ، ويعاقب من لم يفتتن به ، ولهذا يقال لهم وقت عذابهم بالنار وفتنتهم بها : ( ذوقوا فتنتكم ) قال ابن عباس : تكذيبكم .

            وحقيقته ذوقوا نهاية فتنتكم ، وغايتها ، ومصير أمرها ، كقوله : ( ذوقوا ما كنتم تكسبون ) [ الزمر : 24 ] ، وكما فتنوا عباده على الشرك ، فتنوا على النار ، وقيل لهم : ذوقوا فتنتكم ، ومنه قوله تعالى : ( إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا ) [ البروج : 10 ] ، فسرت الفتنة هاهنا بتعذيبهم المؤمنين ، وإحراقهم إياهم بالنار ، واللفظ أعم من ذلك ، وحقيقته : عذبوا المؤمنين ليفتتنوا عن دينهم ، فهذه الفتنة المضافة إلى المشركين .

            وأما الفتنة التي يضيفها الله سبحانه إلى نفسه ، أو يضيفها رسوله إليه كقوله : ( وكذلك فتنا بعضهم ببعض ) ، وقول موسى : ( إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء ) [ الأعراف : 155 ] فتلك بمعنى آخر ، وهي بمعنى الامتحان ، والاختبار ، والابتلاء من الله لعباده بالخير والشر ، بالنعم والمصائب ، فهذه لون ، وفتنة المشركين لون ، وفتنة المؤمن في ماله وولده وجاره لون آخر ، والفتنة التي يوقعها بين أهل الإسلام كالفتنة التي أوقعها بين أصحاب علي ومعاوية ، وبين أهل الجمل وصفين ، وبين المسلمين حتى يتقاتلوا ، ويتهاجروا لون آخر ، وهي الفتنة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم : ( ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم ، والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي ) . وأحاديث الفتنة التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها باعتزال الطائفتين ، هي هذه الفتنة .

            وقد تأتي الفتنة مرادا بها المعصية كقوله تعالى : ( ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ) [ التوبة : 49 ] ، يقوله الجد بن قيس ، لما ندبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك ، يقول : ائذن لي في القعود ولا تفتني بتعرضي لبنات بني الأصفر ، فإني لا أصبر عنهن ، قال تعالى : ( ألا في الفتنة سقطوا ) [ التوبة : 49 ] أي : وقعوا في فتنة النفاق ، وفروا إليها من فتنة بنات الأصفر .

            والمقصود : أن الله سبحانه حكم بين أوليائه وأعدائه بالعدل والإنصاف ، ولم يبرئ أولياءه من ارتكاب الإثم بالقتال في الشهر الحرام ، بل أخبر أنه كبير وأن ما عليه أعداؤه المشركون أكبر وأعظم من مجرد القتال في الشهر الحرام ، فهم أحق بالذم والعيب والعقوبة ، لا سيما وأولياؤه كانوا متأولين في قتالهم ذلك ، أو مقصرين نوع تقصير يغفره الله لهم في جنب ما فعلوه من التوحيد والطاعات ، والهجرة مع رسوله ، وإيثار ما عند الله ، فهم كما قيل :


            وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع



            فكيف يقاس ببغيض عدو جاء بكل قبيح ، ولم يأت بشفيع واحد من المحاسن . فلما نزل القرآن بهذا الأمر ، وفرج الله تعالى عن المسلمين ما كانوا فيه من الشفق قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنيمة أو خمسها والأسيرين .

            وبعث إليه قريش في فداء الأسيرين

            فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا نفديكموها حتى يقدم صاحبانا- يعني سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان- فإنا نخشاكم عليهما ، فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم» .

            فقدم سعد وعتبة ، فأفدى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسيرين عند ذلك بأربعين أوقية كل أسير ، فأما الحكم بن كيسان ، فأسلم وحسن إسلامه ، وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا . وأما عثمان بن عبد الله فلحق بمكة فمات كافرا .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية