الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            تبدي إبليس لقريش في صورة سراقة بن مالك

            قال ابن إسحاق وغيره : ولما فرغوا من جهازهم ، وأجمعوا المسير ، وخرجوا على الصعب والذلول ، معهم القيان والدفوف ، ذكروا ما كان بينهم وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة من الدماء وكان سبب ذلك أن ابنا لحفص بن الأخيف ، أحد بني معيص بن عامر بن لؤي ، خرج يبتغي ضالة له بضجنان ، وهو غلام حدث في رأسه ذؤابة ، وعليه حلة له ، وكان غلاما وضيئا نظيفا ، فمر بعامر بن يزيد بن عامر بن الملوح ، أحد بني يعمر بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة ، وهو بضجنان ، وهو سيد بني بكر يومئذ ، فرآه فأعجبه ؛ فقال : من أنت يا غلام ؟ قال : أنا ابن لحفص ابن الأخيف القرشي . فلما ولى الغلام ، قال عامر بن زيد : يا بني بكر ، ما لكم في قريش من دم ؟ قالوا : بلى والله ، إن لنا فيهم لدماء ، قال : ما كان رجل ليقتل هذا الغلام برجله إلا كان قد استوفى دمه . قال : فتبعه رجل من بني بكر ، فقتله بدم كان له في قريش ، فتكلمت فيه قريش ، فقال عامر بن يزيد : يا معشر قريش قد كانت لنا فيكم دماء ، فما شئتم . إن شئتم فأدوا علينا ما لنا قبلكم ، ونؤدي ما لكم قبلنا ، وإن شئتم فإنما هي الدماء : رجل برجل ، فتجافوا عما لكم قبلنا ، ونتجافى عما لنا قبلكم ، فهان ذلك الغلام على هذا الحي من قريش ، وقالوا : صدق ، رجل برجل .

            فلهوا عنه ، فلم يطلبوا به . قال : فبينما أخوه مكرز بن حفص بن الأخيف يسير بمر الظهران ، إذ نظر إلى عامر بن يزيد بن عامر بن الملوح على جمل له ، فلما رآه أقبل إليه حتى أناخ به ، وعامر متوشح سيفه ، فعلاه مكرز بسيفه حتى قتله ، ثم خاض بطنه بسيفه ، ثم أتى به مكة ، فعلقه من الليل بأستار الكعبة . فلما أصبحت قريش رأوا سيف عامر بن يزيد بن عامر معلقا بأستار الكعبة ، فعرفوه ؛ فقالوا : إن هذا لسيف عامر بن يزيد ، عدا عليه مكرز بن حفص فقتله ، فكان ذلك من أمرهم . فبينما هم في ذلك من حربهم ، حجز الإسلام بين الناس ، فتشاغلوا به ، حتى أجمعت قريش المسير إلى بدر فذكروا الذي بينهم وبين بني بكر فخافوهم .

            فقالوا : إنا نخشى أن يأتونا من خلفنا ، وكان ذلك يثنيهم فتبدى لهم عدو الله إبليس لعنه الله في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الكناني ، وكان من أشراف بني كنانة فقال لهم : لا غالب لكم اليوم من الناس ، وإني جار لكم من أن تأتيكم كنانة بشيء تكرهونه ، فخرجوا والشيطان جار لهم لا يفارقهم ، فلما تعبئوا للقتال ، ورأى عدو الله جند الله قد نزلت من السماء ، فر ونكص على عقبيه ، فقالوا : إلى أين يا سراقة ؟ ألم تكن قلت : إنك جار لنا لا تفارقنا ؟ فقال : إني أرى ما لا ترون ، إني أخاف الله ، والله شديد العقاب ، وصدق في قوله : إني أرى ما لا ترون ، وكذب في قوله : إني أخاف الله ، وقيل : كان خوفه على نفسه أن يهلك معهم ، وهذا أظهر .

            ولما رأى المنافقون ومن في قلبه مرض قلة حزب الله وكثرة أعدائه ، ظنوا أن الغلبة إنما هي بالكثرة ، وقالوا : ( غر هؤلاء دينهم ) [ الأنفال : 49 ] ، فأخبر سبحانه أن النصر بالتوكل عليه لا بالكثرة ، ولا بالعدد ، والله عزيز لا يغالب ، حكيم ينصر من يستحق النصر ، وإن كان ضعيفا ، فعزته وحكمته أوجبت نصر الفئة المتوكلة عليه . فخرجوا سراعا في خمسين وتسعمائة مقاتل ، وقيل : في ألف ، ولم يتخلف عنهم من أشرافهم أحد سوى أبي لهب ، وحشدوا فيمن حولهم من قبائل العرب ، ولم يتخلف عنهم أحد من بطون قريش إلا بني عدي ، فلم يخرج معهم منهم أحد ، خرجوا من ديارهم كما قال الله تبارك وتعالى : بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله [الأنفال : 47] .

            قال ابن عقبة وابن عائذ : وأقبل المشركون ، ومعهم إبليس يعدهم أن بني كنانة وراءه قد أقبلوا لنصرهم ، وأنه لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم [الأنفال : 48] فلم يزل حتى أوردهم ، ثم سلمهم ، وفي ذلك يقول حسان بن ثابت رضي الله عنه من أبيات :


            سرنا وساروا إلى بدر لحينهم لو يعلمون يقين العلم ما ساروا     دلاهم بغرور ثم أسلمهم
            إن الخبيث لمن والاه غرار     وقال : إني لكم جار فأوردهم
            شر الموارد فيه الخزي والعار     ثم التقينا فولوا عن سراتهم
            من منجدين ومنهم فرقة غاروا



            قال في الإمتاع : فلما نزلوا بمر الظهران نحر أبو جهل جزورا فما بقي خباء من أخبية العسكر إلا أصابه من دمها ، ورأى ضمضم بن عمرو أن وادي مكة يسيل دما من أسفله وأعلاه ، وكان مع المشركين مائتا فرس يقودونها وست مائة درع ، ومعهم القيان يضربن بالدفوف ، ونحر لهم أول يوم خرجوا من مكة أبو جهل عشر جزائر ، ثم نحر لهم أمية بن خلف بعسفان تسعا ، ونحر لهم سهيل بن عمرو بقديد عشرا -وأسلم بعد ذلك- ومالوا من قديد إلى مياه نحو البحر ، فظلوا فيها وأقاموا بها ، فنحر لهم يومئذ عتبة بن ربيعة عشرا ، ثم أصبحوا بالأبواء فنحر لهم منبه ونبيه ابنا الحجاج عشرا ، ثم أكلوا من أزوادهم فلما وصلوا إلى الجحفة عشاء نزلوا هناك .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية